مقالات رأي

العاشر من رمضان وتوقيت حرب أكتوبر

مع روحانيات شهر رمضان المبارك لهذا العام، تعود بنا ذاكرة النضال الوطني إلى قرابة نصف قرن من الزمان، وتحديدًا إلى العاشر من رمضان الموافق السادس من أكتوبر عام 1973 وهو ما يكافئ مدى زمنيًا لجيلين ونيف من أبناء وشباب مصر، حيث كان موعد وتوقيت الحرب ضمن خطة منفصلة شملت اختيار الشهر والأسبوع واليوم والساعة، وترتبت عليها جميع الخطط العامة والتخصصية للحرب فكيف كان ذلك؟ وللإجابة سنعود قليلا إلى الوراء حيث يتراكم التاريخ.

يخضع الاختيار العام لموعد وتوقيت بدء الحرب إلى عدة اعتبارات ضمن تقدير الموقف العام والذى يتم تحديثه تباعا عند بدء العد التنازلي، خاصة للجانب الذى سيمتلك المبادأة، حيث تشمل دراسة العدو الذى سنواجهه (إسرائيل) وقواتنا العامة والصديقة (مصر وسوريا) ومسرح الحرب الذى سيجرى عليه القتال برًا وبحرًا وجوًا، بالإضافة إلى حالة الطقس المتوقعة خلال الحرب (قناة السويس وسيناء والجولان) مع خصوصية البعد الديني والروحي في تلك الحرب إيجابًا وسلبًا، فقد كان شهر رمضان ذا اثر إيجابي على الجانب المصري والسوري، بينما كان اختيارنا ليوم عيد الغفران اليهودي (كيبور) ذا اثر سلبى كبير على الجانب الإسرائيلي كما سيلي.

أوْكل اللواء عبد الغني الجمسي رئيس العمليات في ذلك الوقت إلى العميد طه المجدوب تلك الخطة حيث اختار لها الأخير العقيد صلاح نحلة (صاحب كشكول الجمسي كما سماه الرئيس السادات) وبدأ العقيد صلاح بتجميع البيانات العسكرية والمدنية بالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة: مع هيئات الأرصاد الجوية لمعرفة حالة الطقس من حيث الحرارة والامطار والرياح والرطوبة وتوقيتات شروق وغروب الشمس والقمر واطواره، ومع هيئة قناة السويس لمعرفة طبيعة المجرى الملاحي وتغير اتجاه التيار على مدار اليوم مما يؤثر على نقاط الإبحار والرسو للقوارب والمعديات مع ارتفاعات وانخفاض سطح الماء طبقا للمد والجزر ارتباطا بحالة وطور القمر واختلاف معدلاته في شمال القناة عن جنوبها وهو ما يؤثر في تركيب نهايات الكباري، ومع هيئة المساحة لمراجعة شبكة الإحداثيات فلم تكن هناك أقمار صناعية ولا نظام تحديد المكان (GPS)، وكذلك توقيتات المناسبات والأعياد الإسلامية واليهودية، وأخيرًا زيارة سوريا للتنسيق ومعرفة توقيتات سقوط الجليد على الجولان، والوصول إلى ما يلي:

أولًا: اختيار الشهر، وكان يفضل أن يقع بين سبتمبر و نوفمبر، حيث اعتادت القوات المسلحة المصرية إجراء تدريب شامل سنوي في هذا التوقيت وهو ما اعتادته إسرائيل وسمته (مناورات الخريف)، وهو كذلك يسبق بدء تساقط الجليد في الجولان، مع اعتدال درجات الحرارة.

ثانيًا: اختيار الأسبوع، ليكون الأسبوع الثاني أو الثالث من الشهر القمري حيث يكون النصف الأول من الليل غير مقمر وبالتالي أقل معدل للمد والجزر والسهولة النسبية لتثبيت نهايات الكباري، ويكون النصف الثاني مقمرًا لتسهيل عبور الدبابات والمعدات الثقيلة.

ثالثا: اختيار يوم عيد الغفران، حيث يتوقف إيقاع الحياة والحركة بشكل كامل داخل إسرائيل، وهو اليوم الوحيد على مدار العام الذى يتوقف فيه البث التليفزيوني، وبالتالي فقد شُلًت خطة تعبئة الجيش الإسرائيلي التي يعتمد عليها يشكل رئيس، ولم تُجدِ إذاعة الجيش المحدودة، مما أربك خطط فك تخزين الأسلحة الرئيسة وخاصة الدبابات ومركبات القتال وأسلحة الدعم، وتَعَرْقل وصول الأفراد إلى وحداتهم، مما اضطر العديد من التشكيلات المقاتلة للتحرك ناقصة أفرادًا أو أسلحة أو ذخائر، ودفعت في عجالة إلى قناة السويس لتتلقفها القوات المصرية (قضمة) تلو أخرى خلال الأيام الأولى للقتال، حيث كانت الحرب قد حسمت لصالح مصر بشكل كبير مع مئات الأسرى، خاصة الطيارين وأطقم الدبابات وعلى رأسهم العقيد عساف ياجورى قائد ثاني اللواء 90 مدرع.

رابعًا: اختيار الساعة، الثانية وخمس دقائق ظهرًا وكان ضمن خطة الخداع كتوقيت غير مألوف في الحروب التي تبدأ مع بدء اليوم أو نهايته. ووفر التوقيت المختار العديد من المميزات لمصر كالقيام بالضربة الجوية وإمكان تكرارها نهارًا، وكذلك تمهيد وتصحيح نيران المدفعية، والشمس في أعين العدو عكس قواتنا، وقتال خط بارليف نهارًا وبناء خطوط دفاعية بالمفارز المتقدمة للتصدي لدبابات العدو القريبة، مع فتحات الساتر الرملي بالماء المضغوط نهارًا لبدء تركيب الكباري ليلًا.. وهناك الكثير.

كما تم التخطيط بما هو متيسر في إطار توجيه الرئيس السادات بأنه لن يصلنا ما طلبناه من السوفيت ليقارب الحداثة الإسرائيلية للقوات الجوية والدبابات والحرب الإلكترونية، وهو ما تسبب في قرار الرئيس السادات بمغادرة خبرائهم لمصر قبل الحرب، ورغم ذلك فقد صنع الفارق دقة التخطيط وشجاعة وبسالة الرجال في التنفيذ. 

فكل عام وشعب وجيش مصر بكل خير..

نقلًا عن جريدة الأهرام

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى