
بين التوتر والجمود.. محادثات إسطنبول تكشف عمق الخلافات الروسية الأوكرانية
شهدت مدينة إسطنبول التركية في 16 مايو 2025 استئناف محادثات السلام بين الوفدين الروسي والأوكراني، وذلك في أول لقاء مباشر بين الطرفين مُنذ أكثر من ثلاث سنوات، وذلك وسط أجواء مشحونة وتوقعات متباينة. في السياق ذاتهـ جاءت هذه المحادثات في إطار جهود تقودها الولايات المتحدة لإحياء المسار الدبلوماسي، في حين تبدي الدول الأوروبية قلقًا متزايدًا من استمرار الحرب وانعكاساتها الأمنية والاقتصادية العميقة على القارة.
لكنًّ المحادثات التي وُصفت بأنها “مخيبة للآمال” كشفت عن الهوة الواسعة بين الطرفين؛ إذ طرحت موسكو شروطًا تضمنت اعتراف أوكرانيا بضم شبه جزيرة القرم وأربع مناطق أخرى، وانسحابها من خمس مقاطعات وتسليمها لروسيا، بالإضافة إلى التزامها بوضع محايد خالٍ من القوات الأجنبية والأسلحة النووية. وقد رفضت كييف بالطبع هذه المطالب بشكل قاطع، مؤكدة تمسكها بسيادتها ووحدة أراضيها.
وترافق هذا الرفض العلني مع تصلب ملحوظ في مواقف الوفدين، حيث عبّرت طبيعة التمثيل السياسي عن حالة من التشدد، عكست نفسها في أجواء المفاوضات التي غلب عليها التوتر وتبادل الاتهامات أكثر من السعي الجاد للحل. وبدلًا من تقريب وجهات النظر، أسهم هذا الإصرار المتبادل على الشروط المسبقة في تعميق الفجوة بين الطرفين، مما بدد الآمال بتحقيق أي اختراق ملموس في هذه الجولة. وفي ظل هذه التباينات، تمثل محادثات إسطنبول اختبارًا دقيقًا لإمكانية تحقيق تهدئة حقيقية، أو الانزلاق نحو جولة جديدة من التصعيد، وسط استمرار الضغوط الميدانية والحسابات الدولية المعقدة.
دلالات المباحثات
حملت مباحثات إسطنبول أهمية استثنائية باعتبارها أول لقاء مباشر بين روسيا وأوكرانيا منذ اندلاع الحرب في عام 2022، وقد جاءت استجابة لمبادرة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصيًا، ما يعكس تحولًا لافتًا في نهج موسكو تجاه المسار التفاوضي. هذا التحرك السياسي الجديد يبدو مدفوعًا بجملة من الضغوط الدولية، في مقدمتها المساعي الأمريكية لإنهاء النزاع، من خلال مبادرة يقودها الرئيس دونالد ترامب، الذي يحاول فرض مقاربة سياسية أكثر حسمًا في إدارة الأزمة.
وتشير القراءة الأولية لهذا الانفتاح الروسي إلى احتمال وجود تحولات ميدانية أو داخلية تدفع موسكو إلى إعادة تقييم خياراتها، وربما السعي إلى احتواء التصعيد في ظل واقع دولي متغير. كما يعكس اللقاء رغبة في استكشاف إمكانية استئناف الحوار وجدوى الدبلوماسية في لحظة شديدة التعقيد.
شهدت محادثات إسطنبول حضور وفدين رسميين من روسيا وأوكرانيا، لكن بمستوى تمثيل متواضع نسبيًا، حيث ترأس الوفد الروسي “فلاديمير ميدينسكي”، المستشار الرئاسي والمفاوض السابق، إلى جانب مسؤولين من وزارتي الخارجية والدفاع، بينما ضم الوفد الأوكراني ممثلين عن الرئاسة ووزارة الخارجية دون مشاركة مباشرة من كبار القادة السياسيين. كما شارك من الجانب التركي وزير الخارجية هاكان فيدان ورئيس جهاز المخابرات إبراهيم كالين، وذلك في إطار دور أنقرة كوسيط ومضيف للمحادثات، ودون تدخل مباشر في تفاصيل التفاوض، بينما غاب عن اللقاء ممثلون أمريكيون وأوروبيون، بناءً على طلب روسي، ما جعل الاجتماع أقرب إلى اختبار نوايا منه إلى مفاوضات حاسمة. هذا الغياب قلل من فرص تحقيق توافق شامل يعكس مصالح الأطراف الكبرى ويضمن تنفيذ أي اتفاق مستقبلي، وجعل العملية التفاوضية محصورة بين طرفين متصلبين، ما صعّب من إمكانية تجاوز الانقسامات العميقة وإحداث اختراق سياسي فعلي.
على الرغم من عدم تحقيق أي اختراق جوهري خلال محادثات إسطنبول، أُعلن عن اتفاق مبدئي بين روسيا وأوكرانيا لإجراء عملية تبادل واسعة لأسرى الحرب، تشمل نحو ألف أسير من الجانبين، في خطوة تُعد محاولة رمزية لإبقاء قنوات التواصل مفتوحة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مسار العملية السلمية، كما تعكس محاولة إنسانية لكسر دائرة العنف وفتح نافذة أمل ولو محدودة نحو الحوار. وفي خضم ذلك، تواصل الولايات المتحدة أداء دورها كوسيط رئيس، ساعية إلى دفع الطرفين نحو تخفيف التصعيد والعودة إلى طاولة التفاوض.
تباين المواقف الدولية
إزاء مخرجات مفاوضات إسطنبول شهدت المواقف الدولية تفاوتًا واضحًا، لكنها تتفق بشكل عام على ضرورة دعم الحلول السلمية القائمة على احترام القانون الدولي ومبادئ السيادة الوطنية. يأتي هذا التباين في ظل توازن دقيق بين الدعم السياسي والدبلوماسي، مع محاولات مستمرة لتخفيف حدة التصعيد العسكري في المنطقة.
في السياق ذاته، تظهر المواقف الأوروبية والأمريكية تفاوتًا في التركيز لكنها تتلاقى في دعمها الحازم لوحدة أراضي أوكرانيا ورفضها للضم الروسي غير القانوني. فمن جانبها أعربت الولايات المتحدة عن دعمها القوي لأوكرانيا، مع ضغوط مكثفة على روسيا لوقف العمليات العسكرية فورًا والبدء في مفاوضات سلام جادة. وفي هذا السياق، أعلن الرئيس السابق دونالد ترامب نيته إجراء محادثات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي لبحث وقف إطلاق النار والتجارة، معربًا عن أمله في إنهاء الحرب التي وصفها بأنها “لم يكن يجب أن تحدث أبدًا”. كما دعا ترامب إلى مواصلة الضغط على الطرفين لتحقيق وقف إطلاق النار.
في الوقت نفسه، استمرت الاتصالات بين وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو ونظيره الروسي سيرجي لافروف، حيث أبدى “لافروف” ترحيبه بالدور الأمريكي في استئناف المحادثات، في حين أكد “روبيو” استعداد بلاده لاستغلال مبادرات دبلوماسية، مثل الحوار المحتمل في الفاتيكان، لتعزيز فرص السلام. في ظل استمرار الهجمات الروسية، طالبت واشنطن بفرض عقوبات أشد على موسكو، معتبرةً أن الضغط السياسي والاقتصادي ضروري لدفع روسيا نحو الحل السلمي.
أبدى الاتحاد الأوروبي دعمًا كاملًا وصلبًا لموقف أوكرانيا، مؤكّدًا رفضه القاطع لأي تنازل عن الأراضي الأوكرانية أو قبول ضمها بشكل غير قانوني من قبل روسيا. وشدّد الاتحاد على أهمية استمرار تقديم الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري لكييف، مع دعوته لتعزيز الجهود الدبلوماسية من أجل وقف إطلاق نار فوري ومفاوضات بناءة تؤدي إلى تسوية سلمية دائمة. في الوقت ذاته، تعمل الدول الأوروبية على فرض حزمة عقوبات جديدة تستهدف “خنق” الاقتصاد الروسي، رغم استمرار العقوبات القائمة لأكثر من ثلاث سنوات. وعلى الرغم من هذه الجهود، تواجه أوكرانيا وأوروبا تحديات كبيرة بسبب مواقف موسكو المتصلبة وعدم الجدية في التفاوض، بالإضافة إلى تأثيرات التدخلات الخارجية، لا سيما من الولايات المتحدة، مما يعقّد تشكيل جبهة موحدة لإجبار روسيا على قبول وقف إطلاق النار.
ورغم هذا التوافق النسبي، يظل هناك قلق مشترك بين واشنطن وبروكسل من احتمال تصاعد الأعمال العسكرية في حال فشل المفاوضات، مما يدفعهما إلى مواصلة تعزيز الدعم العسكري والاقتصادي لكييف، مع تشديد الضغط الدبلوماسي على موسكو للقبول بحلول وسطية تضمن الأمن والاستقرار الإقليمي.
ختامًا، تمثل مفاوضات إسطنبول محطة مهمة وإن كانت غير حاسمة في مسار الحرب الروسية الأوكرانية؛ إذ كشفت بوضوح عمق الانقسام والتباين الكبير بين الطرفين حول مستقبل النزاع وشروط السلام. رغم غياب الاختراقات السياسية الحاسمة، فإن الاتفاق على تبادل الأسرى يعد مؤشرًا إنسانيًا إيجابيًا، يعكس إمكانية إبقاء قنوات الحوار مفتوحة رغم التوترات والجمود. وفي ظل استمرار الدعم الدولي المتباين، خصوصًا من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، يبقى التحدي الأكبر هو تجاوز المطالب المتشددة وتحويل الإرادة السياسية إلى خطوات عملية نحو تهدئة مستدامة. لذلك، تظل المفاوضات القادمة فرصة حاسمة لتعزيز السلام أو بوابة لتصعيد جديد، ما يجعل مستقبل هذه الأزمة رهينًا بالتوازن الدقيق بين الحسابات السياسية والضغوط الميدانية والالتزامات الدولية، في اختبار حقيقي لقدرة الأطراف على وضع حد لهذه المعاناة.
المصادر
“انتهاء أول اجتماع بين روسيا وأوكرانيا منذ ثلاثة أعوام، وجولة جديدة “ممكنة” من المباحثات”، (بي بي سي، 16 مايو2025 )، https://www.bbc.com/arabic/articles/c70nqyn509zo?utm_source=chatgpt.com
“انتهاء الاجتماع الروسي – الأوكراني الأول… موسكو تطالب بمزيد من الأراضي”، (الشرق الأسط، 16 مايو 2025)، على الرابط التالي: https://2h.ae/yIyx
“محادثات السلام في إسطنبول تكشف الهوة بين أوكرانيا وروسيا”، (الشرق الأوسط، 17 مايو 2025)، على الرابط التالي: https://2h.ae/tvvJ
By Tom Balmforth, Can Sezer and Vladimir Soldatkin, “Ukraine calls on allies to keep pressure on Russia after talks yield no ceasefire”, (Reuters, May 17, 2025), URL: https://www.reuters.com/world/russia-ukraine-hold-first-direct-peace-talks-over-3-years-2025-05-16/
Tom Balmforth, “Trump to speak to Russian, Ukrainian leaders on Monday after talks in Turkey”, (Reuters ,May 18, 2025), URL: https://www.reuters.com/world/europe/russia-demanded-kyiv-pull-back-troops-before-ceasefire-ukrainian-source-says-2025-05-17/
By Mary Ilyushina, Serhiy Morgunov, Siobhán O’Grady and Ellen Francis, “Russia takes tough stance in Istanbul talks, threatens Ukraine with long war” (Washington Post, May 16, 2025), URL: https://www.washingtonpost.com/world/2025/05/16/russia-ukraine-talks-istanbul-peace/
باحث أول بوحدة الدراسات الأسيوية