مقالات رأي

في ذكراه: عبد الناصر الغائب الحاضر

لخص هذا العنوان في فلسفة عميقة، شاعر العامية الكبير عبد الرحمن الأبنودي حين قال (عاش جمال عبد الناصر.. عاش حتى وهو ميت)، فعلا لقد عاش الزعيم جمال عبد الناصر في وجدان وذاكرة شعبه المصري وأمته العربية، بل لقد تجاوزهما إلى مجالات أرحب في أفريقيا وبعض دول عدم الانحياز. فهو زعيم تاريخي بما له وما عليه مثل زعماء كُثُر كجورج واشنطن في الولايات المتحدة، وتشرشل في بريطانيا، وديجول في فرنسا، ولينين في الاتحاد السوفيتي، وماوتسى تونج في الصين، وتيتو في يوغوسلافيا، والملك فيصل في السعودية، والشيخ زايد في الإمارات، بالإضافة إلى زعماء كفاح على المستوى الإنساني كغاندى في الهند ومانديلا في جنوب أفريقيا.

ويظن البعض أن اسم جمال عبد الناصر اقترن فقط بثورة 23 يوليو1952 وما بعدها وهذا صحيح، ولكنه ارتبط أيضًا بما قبلها والذي أدى إلى حتمية قيامها، حيث كان جوهر فترة ما قبل الثورة هو حصول مصر على الاستقلال وجلاء المحتل البريطاني الذي مكث في مصر اثنين وسبعين عامًا منذ 1882 وحتى توقيع اتفاق الجلاء بعد الثورة عام 1954، رغم المحاولات الوطنية السابقة منذ مصطفى كامل ومحمد فريد وثورة 1919 بقيادة الزعيم سعد زغلول حيث أحبطها البريطانيون ونفوا زعيمها للخارج.

ولا شك في أن جمال عبد الناصر كان بطل اتفاق الجلاء وقاد بمهارة فريق التفاوض المصري بصفته رئيس الوزراء مع ثعلب الدبلوماسية المصرية حينذاك الدكتور محمود فوزي، حين أجبرت الثورة عام 1953 الجانب البريطاني على الجلوس إلى مائدة المفاوضات بعد مراوغات طويلة.

كما كان قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بين اليهود والعرب وقيام إسرائيل وحرب فلسطين الجائرة، حيث كان عبد الناصر في آتون تلك الأحداث حين حوصر في الفالوجا، وشهد عدم إعداد الجيش المصري جيدًا لتلك الحرب تخطيطًا وتسليحًا وهو ما أنضج فكرة خلية الضباط الأحرار بزعامته لإصلاح هذا الخلل في قيادات الجيش والدولة. وزاد من حتمية الثورة اقتحام القوات البريطانية بقناة السويس لقسم شرطة الإسماعيلية في 25 يناير 1952 بدعوى إيواء الفدائيين المصريين، وما تلاه من فوضى حريق القاهرة وفشل الدولة في السيطرة ومنع الجرائم فكانت حتمية ثورة يوليو 1952.

عمل عبد الناصر على تحقيق مبادئ الثورة، وكان أهمها بناء جيش وطني قوي ورفضت بريطانيا وأمريكا ذلك إلا بقبول عبد الناصر لحلف بغداد لمحاصرة الاتحاد السوفيتي، وهو ما رفضه عبد الناصر واتجه إلى الاتحاد السوفيتي لبناء الجيش وبناء السد العالي لزيادة الرقعة المنزرعة والري الدائم وتوليد الكهرباء، مما استلزم تأميم قناة السويس لسداد التكلفة مما تسبب في العدوان الثلاثي الذي انتصرت فيه مصر سياسيًا، وكان أحد أهم أسباب أفول مرحلة الاستعمار وانتشار حركات التحرر العربي والإفريقي التي دعمها جمال عبد الناصر ولعل أهمها ثورة الجزائر.

وفي الداخل تبنى عبد الناصر ثورة زراعية وصناعية طموحة من خلال خطة خمسية حققت الاكتفاء الذاتي والتصديري في مجالات متعددة، منها الغذاء والملابس والنقل والكهرباء والتعليم والصحة والتوظيف.. إلخ، ورأى الغرب خطورة عبد الناصر وعدم انصياعه، فتم التخطيط لمحاصرته اقتصاديًا وإفشال وحدته مع سوريا لخطورتها على إسرائيل وتوريطه في اليمن وصولًا لفخ حرب 1967 التي سميت باصطياد الطاووس، ليقضى باقي عمره يعد لإزالة آثارها والتخطيط لحرب التحرير، التي قال عنها أن ما أُخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة، وهو ما كان في حرب أكتوبر 1973 المجيدة، ولكن بعد رحيله في 28 سبتمبر 1970 في وداع مهيب قلما شهده التاريخ. ليظل زعيما في ذاكرة ووجدان كل مصري وعربي حر.. رحمه الله..

نقلًا عن صحيفة الأهرام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى