
تداعيات سياسات الدول ومواقفها على توجهات السائحين للمقاطعة
لطالما كانت الأحداث السياسية داخل الدول محركاً أساسياً لاختيار الدولة كوجهة سفر دولية، باعتبار أن عنصر الأمن والسلامة من المعايير الرئيسية التي يختارها السائحين في التوجه للدول، أو اتخاذ الدول قرارات بحظر السفر تخوفاً على حياة مواطنيها وأمانهم، إلا أنه مؤخراً أصبحت قرارات القادة السياسيين في العالم تؤثر على صورة الدولة في أعين الزائرين، بل يتعدى الأمر لاختيار دولة دون أخرى بسبب موقف تلك الدول من القضايا المختلفة؛ وهو ما ظهر فيما تداولته وسائل الإعلام العالمية والعربية مؤخرا حول مقال توني ويلر، الشريك المؤسس لمؤسسة lonely planet السياحية الشهيرة، حول ما كشفه عن اختيار 4 دول لن يعاود زيارتهم مرة أخرى، 3 منهم بسبب المواقف السياسية والإنسانية لتلك الدول، وواحدة لأسباب تنظيمية، بجانب مقاطعة السوق السياحي الهندي إلى السياحة في تركيا وأذربيجان نتيجة موقف تلك الدول من الأحداث الأخيرة بين الهند وباكستان. فما هي هذه الدول، ولماذا أشار إلى ذلك، وهل هذا الموقف الوحيد! وكيف يمكن أن تؤثر رارات الدول على وضعها العالمي وصورتها بين الدول، وكيف يمكن العمل على تلافي هذه الأمور؟
تجارب دون عودة
يمكن إرجاع ما أشار إليه ويلر باختياره عدم السفر مرة أخرى إلى روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، باعتبار أن السياحة هي المعبر الأساسي عن السلام وتقبل الأخر، حيث أعرب مؤسس لونلي بلانت أن روسيا قامت بقتل الأبرياء بأوكرانيا لتنضم إلى كوريا الشمالية والولايات المتحدة، هذا بجانب سياسات ترامب التي جعلته لا يرغب في زيارة الولايات المتحدة مرة أخرى بالرغم من إقامته بها لعشر سنوات، واتخذ هذا القرار مع تولي دونالد ترامب لولايته الثانية، وأخيراً المملكة السعودية والتي قامت بإنفاق العديد من المليارات لتحسين بنيتها السياحية وهو ما أِشاد به بالفعل؛ فيما أن سياسات المملكة السعودية تجاه عاملات المنازل الأفارقة وما اكتشفه عند زيارته إلى أرض الصومال من محاولات تصدير الفهود إلى المملكة باعتبارها حيوانات أليفة يتم قتلها فيما بعد بحسب تعبيره، وأخيراً “بالي” نتيجة الازدحام المروري غير المبرر.
لم تكن هذه التصريحات هي الأولى، ولكن اتخذ عدد من شركات السفر الهندية موقفاً ضد تركيا وأذربيجان وأوزباكستان بعد دعمها المعلن لباكستان في حربها ضد الهند، حيث أصدرت EaseMyTrip – منصة حجز السفر – تحذيرًا بعدم زيارة تركيا وأذربيجان إلا للضرورة القصوى، كما قررت شركة Cox & Kings”” أنها قررت إيقاف جميع عروض السفر الجديدة مؤقتًا إلى أذربيجان وأوزبكستان وتركيا[1]. وعلقت شركة “Travomint” بيع حزم السفر إلى تركيا وأذربيجان، ودعمت دعوات المقاطعة الوطنية لتلك الدول، وهو ما أكده رئيس اتحاد السياحة الهندي على ضرورة المقاطعة، والذي أوضح أهمية السياحة الهندية إلى تركيا[2]. حيث بلغ معدل إنفاق السائح الهندي من 350 إلى 400 مليون دولار في تركيا باستقبالها العام الماضي نحو 330 ألف سائح هندي، وأذربيجان التي استقبلت نحو 250 ألف سائح أي أكثر من ضعف عددهم من العام السابق له، ونتيجة للمقاطعة انخفضت الحجوزات إلى تركيا وأذربيجان بنسبة 60%، وارتفعت نسبة الإلغاءات بنسبة 250% في أسبوع واحد فقط، وفقاً لما تداولته وسائل الإعلام الهندية.
ويتضح لنا أن هذه التوجهات ونصائح السفر لم تتعلق باتخاذ مواقف سياسية رسمية، بل كانت رفض شعبي ومواقف القطاع الخاص لتلك السياسات، والتي قد تؤدي لنتائج أكثر شدة نتيجة اعتبار أن الاختيار النهائي للأفراد والمدعم بالتنفيذ من منظمي السفر هو المحرك الأساسي لحركة السوق السياحي.
تأثير المقاطعة الشعبية
عادةً ما يتم اتخاذ نتائج دعوات المقاطعة وفرض العقوبات كنوع من الضغط الاقتصادي والدبلوماسي لتراجع الدول عن موقفها السياسي، وفي القطاع السياحي قد يكون له تأثيراً في فترات الركود لتأثيره على تدفق الأعداد السياحية، واختيار الوجهة النهائية للسفر، وذلك على عدة اتجاهات:
- حجم السياحة من السوق المستهدف: على الرغم من اختلاف دوافع المقاطعة سواء من حيث حث الحكومات على تغيير سياستها التي رفضها الأفراد أو المؤسسات أو الدول التي تشارك في المقاطعة، أو مجر أن تكون مقاطعة تعبيرية للتعبير عن رأي الأفراد في قضية معينة، إلا أنه لا يمكن إغفال الجانب الاقتصادي والاجتماعي من تأثره من هذه المقاطعات، في حال أن كان التأثير كبيراً وتمثل هذه الجماعات جماعات ضغط وقوى دولية، أو قوى في السوق المستهدف.
ففي حال السوق الهندي، وتأثير المقاطعة على دولة مثل تركيا، فقد يكون التأُثير على المدى الطويل نظراً لكون السوق الهندي من الأسواق الناشئة، التي يتزايد الرغبة لدى أفرادها في السفر الخارجي، فوصل عدد المسافرين من الهند إلى نحو 27.88 مليون سائح عام 2024، مقارنةً بنحو ما يزيد عن 16 مليون سائح عام [3]2013، نتيجة تحسن مستويات الدخل والربط الجوي. وتأتي دول الخليج العربي على قائمة تفضيلات المسافر الهندي بجانب المملكة المتحدة والولايات المتحدة وسنغافورة، متوزعة بنسب متساوية على مدار شهور العام، وأرجع توجه السائح الهندي إلى المناطق التي يتم الترويج لها على مواقع التواصل الاجتماعي لارتباطها بظاهرة الفومو FOMO Fear of missing Something أو الخوف من ترك الفرص وعدم زيارة المناطق الرائجة على مواقع التواصل الاجتماعي مثل دبي وسنغافورة وبالي وباريس[4].

ويبدو أن التأثير الاقتصادي لم يشمل على الأعداد السياحية من السائحين الهنود، ولكن أيضاً على منع عدد من الشركات التركية للعمل بالمطارات الهندية مثل شركة”Celibi” التركية، بقرار من وزير الطيران الهندي بناءً على عدد من الطلبات وفقاً لشبكة بي بي سي، ووقف التعامل الأكاديمي بين الجامعات التركية والمؤسسات التعليمية الهندية، بجانب حملات المقاطعة السلعية، نتيجة حملات السوشيال ميديا، وربط المواقف السياسية بوجود طائرات مسيرة تركية الصنع تستخدمها باكستان ضد الهند[5].

بالتالي فإن حملات المقاطعة ستؤثر على توجهات السائحين من الهنود نحو المقصد السياحي التركي، بعد أن زاد حجم السياحة الهندية إلى تركيا بمعدل نمو 20,7% لعام 2024 مقارنة بالعام الماضي لها، بعد أن وجهت تركيا حملات تسويقية استراتيجية للسوق الهندي جعلتها من الأسواق السياحية المفضلة لها، من خلال التركيز على سياحة المؤتمرات والزفاف وتقديم تجارب سياحية مخصصة للسائح الهندي، مما يتطلب سياسات جديدة لاستعادة سمعة المقصد لدى السائح الهندي[6].
- تأثر سمعة المقصد والصور النمطية له: حيث تُعد المقاطعات ومقاطعات الشراء سمةً متناميةً للاستهلاك السياسي ونشاط جماعات المصالح، وقد تتأثر وجهات السياحة والضيافة والمعالم السياحية والشركات بشكلٍ كبيرٍ بهذا، مع إرثٍ من الصورة السلبية التي تستمر لعقود، مما يقيد من السفر الدولي إلى بعض الوجهات، وتُعطّل الاستثمارات المالية وسلاسل التوريد.[7] وتتأثر سمعة الدول بسبب المقاطعة التي يقوم بها السائحين، كما الحال في دراسة عن ميانمار التي تم تصويرها بأنها بلد تضطهد الأقليات من حكامها، وبالتالي فإن ممارستها السياسية الداخلية أثرت على سمعة الدولة وقدرة الدولة بشكل مباشر على جذب السياح والشراكات والاستثمارات وهو الأمر الذي يمتد إلى مكانتها الدولية وشكل علاقتها الدبلوماسية، إلا أن الدوافع الفردية قد يكون لها دوراً مؤثر في تغير اتجاهات الفرد مثل وجود أحداث بارزة قد تدفع البعض لإلغاء قرار المقاطعة كنوع من الضغط السياسي السلمي من أجل حضور هذا الحدث وتبريره، كما حدث في قطر وكأس العالم 2022 [8]
- تمدد المقاطعات إلى دول أخرى: فأوضحت الدراسات أن هناك نحو 146 مقاطعة بين عامي 1948 و2015، أكثر من 90% منهم جاءت بين عامي 2003 و2015، نتيجة مساهمة مواقع التواصل الاجتماعي في تحقيق التواصل الجماهيري، والاتصال بين الأفراد، بجانب الوعي السياسي لدى الأفراد والتي عادةً ما تربط المواقف السياسية للدول بالأوضاع الإنسانية، وبالتالي امتداد تأثير تلك المقاطعات وسهولة تنظيمها، ووصول أفكارها بشكل أكبر من سوق سياحي إلى أخر، ويعزز هذا الأمر دخول عدد من المؤثرين للتأكيد على هذه الدعوات وهو ما يزيد من حجم المشاركات، كما هو الحالي في مقال مؤسس”Lonely Planet” الذي لهم دور في تشكيل توجهات السائحين ورسم برامجهم السياحية المختارة.
وفي حالة مقاطعة السائحين الهنود لتركيا، جاءت شائعات مواقع التواصل الاجتماعي كنوع من الحل الضمني وبث أفكار إيجابية عن الدولة التركية، وبالتالي فهي سلاح ذو حدين لنشر الفكرة والفكرة المضادة. حيث انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي بيان صحفي منسوب إلى الحكومة التركية، يدعو فيها الهنود لاستئناف رحلاتهم إلى تركيا، فيما تم التشكيك في صحة البيان، باعتبار أن الحكومة لم تكن طرفاً بينما قد تقع أيضاً تحت الإجراءات الضمنية التي قد يتم استخدامها لاستعادة الصورة عبر ربط الشعوب ببعضهم البعض، وهو ما جاء في نص البيان – المشكك في صحته – بأن الشعب التركي لا يعلم عن هذه الإجراءات ويرحب بالسائح الهندي[9].
الفرص التنافسية
عادة ما تؤثر الأحداث السياسية على الدول المحيطة، إما بتأثرها بوجودها في منطقة اضطرابات سياسية فتؤثر على الأعداد المستقطبة وصورة المقصد الذي يحتاج لمجهود إعلامي وحملات علاقات عامة لتحديد مدى أمان المقصد السياحي، أو دعوات المقاطعات لدولة بعينها فقد تكون فرصة لمقصد أخر لجذب هؤلاء إلى المقاصد البديلة، وبالتالي فإنه في ظل المنافسة الحالية يمكن توضيح هذا الأمر في التالي:
- الأسواق البديلة: على الرغم من توجهات بعض المسافرين إلى أن عادةً مقاطعة الدول ليست الحل في تغيير سياسات الدول، بل تؤثر بشكل مباشر على المجتمعات المحلية، والتي قد تشترك في توجهاتها مع المسافرين في رفض توجهات حكومة بعينها أو قانون ما، إلا أنه في ظل التنافسية الشرسة في قطاع السياحة، وخاصةً طلبات سائحي “اللحظة الأخيرة” فقد تكون الأسواق البديلة هي بديل المقاطعة والبقاء في المنزل بل التوجه إلى دولة أخرى منافسة تتمتع بنفس المميزات ولا تختلف مع قيمة السياحة، كما حدث في حال تركيا، فتم الدعوة للذهاب إلى اليونان كبديل عن تركيا وأذربيجان للسائح الهندي، وقام عدد من المؤثرين بدعوة السائحين الهنود لزيارة البلاد .
- السياحة المجتمعية ودعم السفر المسئول: بجانب العوامل السياسية التي قد تؤثر على اختيار السفر، فإن سياسات الاستدامة وحماية البيئة وحقوق الإنسان والحيوان أصبحت جاذبة للسائح الخارجي، وبالتالي فإن توجه بعض السائحين نتيجة الوعي الدولي بالعديد من القضايا والتي قد تحمل زخماً دون الأخرى نتيجة الأهداف السياسية لمطلقي المقاطعة، إلا أن الجانب الإيجابي في هذه الدعوات قد يدفع العديد من الحكومات إلى اتخاذ سياسات أكثر استدامة، كما تزيد من مشاركة المجتمع المحلي في عملية التنمية، وزيادة معدلات إنفاق السائحين لدعم المجتمع المشارك بعيداً عن سياسات الدولة، مع إدراك أن زيارته توفر فرص عمل وفرصة لتوفير الموارد اللازمة للحفاظ على البيئة والموارد الاقتصادية المحدودة للمجتمع الداخلي، كما أن السفر لتلك المناطق توفر فرص التعرف عن قرب عن شكل تلك المجتمعات.
- زيادة الروابط الثقافية: ففي حالة موقف ويلر أحد مؤسسي لونلي بلانت، وقيامه بالتعبير عن رأيه في عدم السفر لعدة وجهات نتيجة مواقفهم السياسية، وفي الهند التي دعت إلى مقاطعة تركيا وأذربيجان، جاءت الدعوات الشعبية داخل تركيا للفصل بين طبيعة الشعب واختلافها عن سياسات الحكومة، وبالتالي زيادة التركيز على طبيعة الشعوب وربط الشعوب ببعضها البعض بعيداً عن السياسات الحكومية، لخلق نوع من الألفة بين الشعوب، وعادةً ما يتم تبنيه عبر حملات شعبية تحت مظلة حملات العلاات العامة لمواجهة المقاطعات الشعبية، كما قامت به الإعلامية ذات الأصول الفارسية Suzanne Kianpour ومرشحة جائزة الإيمي للصحافة، رداً على دعوات المؤثرين الأمريكان لعدم السفر إلى إيران مشيرة إلى أن الشعوب تختلف عن الحكومات ومثل هذه الدعوات قد تؤثر على الأفراد[10].
في الأخير، يمكن القول أن الأحداث ومواقف الدول السياسية لا تؤثر فقط على القرارات الدولية والعلاقات الدبلوماسية، بل تمتد إلى صورة الدولة في المجتمع الخارجي والتي تنعكس على حجم الاقتصاد والاستثمار الخارجي ومنها القطاع السياحي الذي يعد أحد أدوات القوى الناعمة للعديد من الدول في بناء صورتها الذهنية ووضعها ومكانتها الدولية، إلا أن هذه الاضطرابات – والتي قد يغلف بعضها الدوافع السياسية بعيداً عن مواقف الشعوب – قد تعطي فرصة للدول الأخرى في جذب الأعداد بخلق سوق بديل بسياسات أكثر مسئولية.
[1] تعليق السفر إلى تركيا وأذربيجان، موقع “تايمز أوف إنديا“، متاح في:
[2] توجهات السائحين للمقاطعة، متاح في: https://www.youtube.com/watch?v=VT2QFDb7Bis
[3] بيانات السياحة الهندية عام 2024، وزارة السياحة الهندية، متاح في:
[4] عوامل نمو طلب السائح الهندي على طلب السفر، شركة أوت بوكس الفيتنامية لنشر البيانات السياحية، متاح في:
[5] الهنود يدعون لمقاطعة تركيا وسط التوترات الإقليمية، شبكة بي بي سي، متاح في:
https://www.bbc.com/news/articles/c62v774d6l0o
[6] تركيا تستقبل 62.2 مليون سائح، والسوق الهندي ينمو بمعدل 20,7%، تايمز أوف انديا، متاح في:
[7] سياماك سيفي و سي مايكل هول: ” السياحة والعقوبات والمقاطعات“، ط1، 2020.
[8] مايكل هول، وأخرون (2023): “العدالة الاجتماعية ومقاطعة السياحية”، مجلة أبحاث السياحة – رؤى دولية، العدد 4، متاح في:
https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S2666957923000186
[9] إعلان حكومي مفبرك يناشد الهنود لوقف المقاطعة، موقع يورونيوز، متاح في:
[10] https://www.instagram.com/reel/DJpHhlOR1jH/
باحثة بالمرصد المصري