جنوب أفريقيا تقود إسرائيل إلى محكمة العدل
ربما كان للمخزون النفسي اللا إنساني المرير للتفرقة العنصرية في وجدان الشعب الجنوب أفريقي لسنين طويلة تحت الاستعمار الأوروبي الأبيض الذي قسم الشعب طبقًا للون بشرتهم إلى سادة ذوي بشرة بيضاء وعبيد ذوي بشرة سمراء، رغم أن الله هو من خلقنا مختلفة ألوان بشراتنا ولغة ألسنتنا. حتى الجبال خلقها الله مختلفة ألوانها منها الأبيض والغرابيب السود وغير ذلك. كما كان للشعب الجنوب أفريقي مردود حضاري عندما دارت الدائرة وانتصرت ثورة السود الإنسانية والديمقراطية بقيادة الزعيم التاريخي نيلسون مانديلا ـبعد خروجه من السجن العنصري في السبعين من عمرهـ حيث رفض الثأر حتى لا تستمر دائرة القتل والكراهية إلى ما لا نهاية.
ورغم ذلك بقيت في النفس الجنوب أفريقية غصة وحساسية ضد كل سياسيات وإجراءات القمع اللا إنسانية. وأعتقد أن كل ذلك كان المحرك الإنساني والقانوني لنصرة الشعب الفلسطيني في غزة بعد كل الجرائم الإسرائيلية من قتل يصل إلى حد الإبادة الجماعية أو التطهير العرقي (genocide) أو التهجير القسري بما يتنافى مع اتفاقيتي لاهاي 1899 و1899المنظمتين لقوانين وجرائم الحرب. وارتباطا باتفاقية جنيف الرابعة عام 1949 الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب، وواجبات الدولة المحتلة تجاه السكان والأرض تحت الاحتلال والذي يضرب به المحتل الإسرائيلي عرض الحائط لسنين طويلة وللأسف يجد من يؤيده فيما هو غير حق وغير قانوني في تمييز عنصري انتقائي من نوع خاص.
تقدمت جنوب أفريقيا في 17 نوفمبر 2023 إلى محكمة العدل الدولية بلاهاي بهولندا، بدعوى ضد إسرائيل تتهمها فيها بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وخاصة (الإبادة الجماعية) حيث شملت الدعوى 84 صفحة واستمعت المحكمة إلى الجانبين الجنوب أفريقي والإسرائيلي يومي 11 و12 يناير 2024 على الترتيب. وقد انضم إلى جنوب أفريقيا في دعواها كل من جيبوتي وجزر القمر كدولتين عربيتين أفريقيتين وبنجلاديش من آسيا وبوليفيا من أمريكا الجنوبية.
وقد اختارت جنوب أفريقيا أن يمثلها وزير العدل (رونالد لامولا)، بينما اختارت إسرائيل أن يمثلها القاضي المتقاعد (أهارون باراك 87 عامًا رئيس المحكمة العليا الإسرائيلية الأسبق) بصفته حضر في طفولته المأساة النازية ضد اليهود. وأعتقد أن ذلك سيكون إسقاطا ضده وضد إسرائيل؛ فإذا كان القاضي مثالًا للمعاناة لمدة 13 عامًا من النازية الهتلرية 1933-1945 فهو أيضا مثال للمعاناة الفلسطينية من الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه ضد الإنسانية طيلة 75 عامًا 1948-2023 عاش معظمها كقاضٍ للعدل الغائب.
وتعد محكمة العدل الدولية أعلى هيئة قضائية في الأمم المتحدة، وقد اُنشئت عام 1945وتختص بتسوية الخلافات بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وتُصدر آراءً استشارية إلى مؤسسات المنظمة الدولية كالجمعية العامة للأمم المتحدة، وليس لأحكامها استئناف، وذات قرارات ملزمة ولكن لا يمكنها فرض تطبيقها. وذات صلاحيات في الفصل في دعاوى الإبادة الجماعية حيث يمكنها إصدار قرار فوري بوقف إطلاق النيران حتى لا تتفاقم الخسائر البشرية في إطار الإبادة الجماعية (كما في غزة).
ومن المصادفة غير السعيدة لإسرائيل أن تعريف (الإبادة الجماعية) في الميثاق قد تم بواسطة المحامي اليهودي الشهير رفائيل ليمكين عام 1944 لتعريف الإبادة النازية ضد اليهود خاصة خلال الحرب العالمية الثانية 1939-1945 وهو نفس التعريف الذي تحتاجه غزة الآن ضد إسرائيل!
واشتملت الجلستان الافتتاحيتان يومي 11و12 يناير2024 على دفوع الجانبين الجنوب أفريقي والإسرائيلي، حيث ركزت جنوب أفريقيا على ما سبق ذكره في الدعوى وأدلة تم جمعها خلال 13 أسبوعًا وان الدفاع عن النفس لا يصل إلى هذا العنف والعقاب الذي أسفر عن أكثر من 24 ألف قتيل وأكثر من 62 ألف مصاب. وردت إسرائيل ووزارة خارجيتها -بعيدا عن صلب الموضوع- بأن جنوب أفريقيا تعمل كذراع قانونية لمنظمة حماس الإرهابية ولا يجب تجاهل جرائم حماس (الإرهابية والجنسية) يوم 7 أكتوبر وقتل 1140 وخطف 250 باقٍ منهم لدى حماس 132. ويحرج إسرائيل توقيع عضو الكنيست (جوفير كاسيف) و400 ناشط إسرائيلي على عريضة مؤيدة لدعوى جنوب أفريقيا.
وتتألف محكمة العدل من 15 قاضيًا دوليًا مستقلًا يتم انتخابهم لمدة 9 أعوام بواسطة كل من الجمعية العامة ومجلس الأمن بشكل منفصل، ولا يوجد أكثر من قاضٍ من دولة واحدة. وأهم قضاياها إيقاف الإبادة الجماعية (للروهينجا في ميانمار) وتختلف عن المحكمة الجنائية الدولية التي تختص بجرائم الحرب وضد الإنسانية وأشهرها في يوغسلافيا السابقة واغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري.. وسنتابع مأزق إسرائيل في المحكمة بعد فعل حماس يوم 7 أكتوبر ورد الفعل الإسرائيلي المفرط في العقاب لأكثر من 100يوم.