مقالات رأي

ملحمة صمود المجتمع الغزاوى

هى مأساة من المفترض أن يغيب عنها النظام والأولويات لتحل محلها الفوضى وشريعة الغاب والاستقواء (ويلا نفسى) لتكون ضحاياها غالبا من الصبية دون سن الطفولة الذين لم يقووا على النِزال من أجل شربة ماء أو كِسرة خبز أو غَرفة من آنية ضخمة تحت نار بإشعال بدائى, حيث لا تستطيع أن تميز ما بها من حيث اللون على الأقل قبل التذوق الذى لا يعبأ به أغلب المُطعَمين. فهو مجرد حيز بسيط يوزع بشيء من العدل بين الجوعى والمستضعفين فى أرض غزة الشامخة رغم كل هذا القتل والتنكيل والتشريد البغيض الذى لم يكسر شوكة هذا الشعب الأبي الملقب لدى ياسر عرفات (بالجبارين) ولدى بعض بني إسرائيل فى جزء من أرض كنعان (بالعماليق).

بل على العكس فقد جاء السلوك الغزاوى خلال المأساة أكثر تحضراً وتنظيماً من مجتمعات أخرى بعيدة عن المأساة، خاصة فى مواقف التزاحم والتدافع نتيجة الضغط العسكرى القتالى الإسرائيلى الذى أدى إلى النزوح والترحال الجماعى غير المنظم من قطاع غزة تحت الضغط وبدون إمكانيات. وتكرر ذلك اكثر من مرة من الشمال الى الجنوب ومن مدينة غزة إلى دير البلح إلى خان يونس وأخيرا إلى رفح. مع زيادة الكثافة البشرية كلما تم الانضغاط جنوبا, يزداد التزاحم للحصول على مواد الإعاشة اللوجيستية الأساسية من طعام ومياه شرب وأدوية أو بعض المواد البسيطة للحماية من المطر وقت هطوله أو تصريفه بعد هطوله خلال بعض مناطق الإيواء غير المجهزة, حيث مر صيف وشتاء كامل وهاهم فى صيف جديد تخلله شهر رمضان وعيد الفطر المبارك. لنرصد ملامح حقيقية من إرادة الحياة والصمود للمجتمع والأسرة الغزاوية الأبطال.

فالصبية ما فوق سن الطفولة ودون سن الشباب من الجنسين, هم من يتولون التوزيع على الأسرة من الطعام المطهى وبغَرفة واحدة دون طلب المزيد رغم قلته. ومن خلال طابور شبه منتظم حيث تتولى الأُسرة توزيع هذا القليل على عدد ليس بالقليل لعدة أفواه جائعة. أما الصبية الذكور فهم من يتولوا توزيع الماء بواسطة الجراكن للشرب من خلال لوارى فناطيس مياه الشرب, خاصة بعد توقف محطات تحلية مياه البحر نظرا لنفاد وقود تشغيلها من السولار بسبب المنع الإسرائيلى بدعوى استخدام المقاومة للسولار كوقود دفع للصواريخ الغزاوية. أو استخدام صنابير المياه للاغراض الأخرى عدا الشرب بحمل تلك الجراكن الثقيلة مقارنةً بالأجساد النحيلة لهؤلاء الصبية الذين لم يكِلُوا عن المتابعة والتكرار الدءوب نهارا وليلا فى شبه طوابير لتفى بالقدر اليسير من احتياجات أسرهم.

أما الشباب والرجال فقد تحملوا العبء العضلى الشاق من تنزيل وتفريغ مواد الإغاثة الثقيلة مثل (أجولة وأكياس) الدقيق والأرز التى يتم حملها على الأكتاف بشكل فردى سواء إلى الأسرة أو إلى أسرة جارة فقدت عائلها من الرجال. وما أكثر هذا المثال بعد ان قارب عدد الشهداء والمصابين رقم 110 آلاف بعد ستة أشهر منذ7 أكتوبر 2023خاصة مع ندرة عربات الدواب الهزيلة وانعدام عربات النقل الصغيرة لعدم توفر الوقود بسبب الحظر الإسرائيلى كما سبق.

أما النساء فهن من يتحملن العبء الأكبر مع بناتهن الصغيرات اللائي أنضجتهن التجربة المريرة قبل الأوان خاصة فى مناطق إيواء من الخيام أو العشوائية, حيث مشاكل الندرة فى الطعام والشراب ورعاية الرُضًع مع قلة الألبان والحفًاضات. كما يقوم الأطفال الناضجون برعاية المسنين الذين يقومون بالمقابل برعاية الأطفال الأصغر. والملفت للنظر هو أن غسل الملابس بواسطة النساء والفتيات وخاصة ملابس الأطفال يتم بالمياه المتاحة بما فيها مياه المطر لتوفير الحد الأدنى من النظافة فى هذا المناخ البائس, بما يحسب إضافة للمرأة الفلسطينية النظيفة بطبعها.

ثم نأتى إلى احد اشد الموضوعات إيلاما وهو التكفين والدفن الجماعى للشهداء، حيث تأتى الأكفان بعشرات الآلاف من دول صديقة إلى المستشفيات وساحات تجميع الجثامين من تحت الأنقاض ليتم الدفن الجماعى دون معرفة بعض الأسماء فى خنادق عريضة عميقة تم حفرها, مع استيعاب الأطفال والرضع بين أقدام الكبار مع صلوات الجنازة هنا وهناك بشكل شبه يومى, حيث تختلط التكبيرات بالبكاء والنحيب.

وأخيرا هذا ملمح مجسًم لشريحة من المجتمع الغزاوى الصامد ومفرده الأُسرة الفلسطينية المناضلة من نساء ورجال وشباب وصبية بل وأطفال فى وجه النزوح القسرى والعقاب الجماعى لآلة القتل الإسرائيلية حيث يرقى ذلك إلى التطهير العرقى, وسط عدالة دولية غائبة أو بطيئة, وصفها سكرتير عام الأمم المتحدة (جوتيريتش) من رفح بالعار.

نقلا عن جريدة الأهرام

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى