ذكرى الثورة اليمنية والدعم المصرى اللامحدود
كانت الثورة اليمنية إحدى حلقات ما عُرف بالمد الثورى العربى ومحاولات الوحدة العربية التى أعقبت الثورة المصرية فى يوليو 1952 بزعامة الرئيس جمال عبدالناصر، واستغرقت تلك الحقبة معظم عقدى الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، تخللتها محاولات للوحدة المصرية السورية والعراقية واليمنية، إلى أن توقف هذا المد الثورى العربى فعليا بهزيمة عام 1967 واحتلال إسرائيل كلا من سيناء والجولان والضفة الغربية والقدس.
قامت الثورة اليمنية فى 26سبتمبر 1962 بقياد (العقيد/ الرئيس)عبدالله السلال، حيث سبق هذا التاريخ عدة محاولات للقيام بالثورة- لعل أهمها عام 1948- ولكنها فشلت جميعها لعدم وجود دعم خارجى، وهو ما وفره الرئيس عبدالناصر لاحقا بعد ما وصلته برقية الرئيس السلال بطلب دعم عسكرى عاجل ومحدود يقوم بمهام قوات الحرس الجمهورى لتأمين الرئيس، ثم نظامه الجمهورى الوليد تباعا، وهو ما تم بالفعل بعناصر من القوات الخاصة المصرية (المظلات والصاعقة) بما لم يجاوز100 ضابط وجندى.
نتيجة عدم وضوح ودقة المعلومات والتغيرالمتتالى للموقف اليمنى وطلب المزيد من الدعم العسكرى المصرى، تمت زيادة القوات المصرية تباعا لتنتقل من دائرة التأمين الرئاسى إلى تأمين العاصمة صنعاء، ثم التمدد إلى بعض الأقاليم ونهاية بالتوسع الذى شمل كل أرض اليمن التى تبلغ خُمس مساحة مصر تقريبا(195 ألف كم مربع) ليبلغ عدد القوات المصرية المُرجًح فى اليمن نحو (65-70) ألف مقاتل، وهو ما يقارب قوام جيش ميدانى فى التنظيمات الحديثة، كما يقارب ثلث قوات الجيش المصرى صبيحة 5 يونيو 1967. أى أن الجيش المصرى اضطُر إلى خوض حرب عام 1967 بثلثى قواته على أحسن تقدير، رغم التفوق الإسرائيلى الكمى وبعض النوعى, حيث صُنٍفت تلك الجولة بأنها هزيمة بلا حرب.
وهنا يبرز السؤال المهم، لماذا وكيف طالت تلك الحرب إلى خمس سنوات؟ وشارك فيها هذا الحجم الكبير من الجيش المصرى لدعم الثورة وقوات القبائل اليمنية الموالية، فى مواجهة المناوئة؟ ليمكن الرد كالآتى:
– عدم وضوح وتغير الموقف الإستراتيجى: وبالتالى حجم مطالب الدعم العسكرى المصرى التى كانت تتزايد تباعا مع تغير موقف القوات اليمنية وقبائلها الداعمة او المناوئة والتغير احيانا بين هذه وتلك، مما يُزيد العبء العسكرى المصرى لتمييز مواقع وأسلحة القوات المتضادة وتمدد مسارح القتال الرئيسية مع عدم أو ندرة وجود خرائط طبوغرافية.
– صعوبة ووعورة مسرح الحرب اليمنى: الذى يغلب عليه الطابع الجبلى، وعدم وجود طرق عدا الطريق الوحيد بين العاصمة صنعاء والميناء الرئيسى الوحيد فى الحُدَيدٍة مما بصعًب حركة القوات المصرية ومعداتها الثقيلة من الدبابات والمدفعية والمركبات, كما يعرضها للكمائن الجبلية، مع ندرة المياه والمواد الغذائية، عدا بعض الآبار الجوفية ومياه السيول المحتجزة مثل خزان سد مأرب التاريخى (منذ مملكة سبأ).
– إصرار القيادة السياسية المصرية على دعم الثورة اليمنية حتى تحقيق النصرمهما كان الثمن: خاصة مع الوجود البريطانى فى اليمن الجنوبى بعدن وميراث العداء منذ العدوان الثلاثى على مصر عام 1956، حيث تحولت عدن لاحقا إلى النفوذ الشيوعى فى مواجهة صنعاء الحليف المصري.
– بُعد المسافة وصعوبة النقل الإستراتيجى البحرى والجوى: حيث تتراوح المسافة بين 2000 و2500 كم طبقا لنقط البدء والوصول، ورغم تلك الصعوبات الناتجة عن بعد المسافات وتنوع وسائل النقل وحجم القوات المنقولة والمديات الزمنية، فإن ذلك يحسب للجيش المصرى عند تقييم القدرة على المناورة والنقل الى المديات البعيدة من خلال الفتح الإستراتيجى، الذى يصنف ضمن قدرات الجيوش الكبيرة والقوية، حتى فى الوقت الحالى من القرن الحادى والعشرين. بنهاية حرب عام 1967 بدأت القيادة المصرية التخطيط لانسحاب القوات المصرية من اليمن، حيث تزامن ذلك مع إتمام القوات المسلحة المصرية مهامها فى كل ربوع اليمن – إلا القليل اليسير – وصدرت الأوامر بالانسحاب عبر الارتدادات والمناورات التكتيكية والتعبوية (العملياتية) المتعددة والمتداخلة لحجم كبير من القوات لقرابة جيش ميدانى خلال قرابة خمسة أشهر، حين غادرت المجموعة الاخيرة مطار صنعاء وميناء الحديدة بنهاية نوفمبر 1967، وهو ما يحسب للجيش المصرى ضمن خطط النقل الإستراتيجى الجوى والبحرى، رغم ظلال ونتائج حرب يونيو 1967 على جبهة سيناء . خلال أشهر الانسحاب الخمسة، قامت قيادة الجيش المصرى بجهود ضخمة من العمل الإستراتيجى المتوازى, حيث تم تباعا رفع الكفاءة للاستشفاء البدنى والمعنوى والميدانى للقوات من (امراض الخنادق ) لأكثر من خمس سنوات، وصيانة ورفع كفاءة الأسلحة والمعدات، بالتوازى والتدرج والاندماج فى خطط القوات المسلحة للإعداد لحرب التحرير، بدءا من حرب الاستنزاف، ووصولا إلى حرب ونصر رمضان أكتوبر 1973 المجيد.
> مستشار أكاديمية ناصر
العسكرية العليا
لواء دكتور محمد قشقوش – أول ملحق عسكرى لمصر باليمن”