مقالات رأي

سوريا وتغير الفاعلين واللاعبين

لا شكّ في أنّ سوريا كانت وما زالت تحمل على عاتقها مراحل مهمةً من التاريخ العربيّ الممتدّ. فدمشق كانت عاصمة الدولة الأموية القوية التي أعقبت مرحلة الخلفاء الراشدين في المدينة المنوّرة قبل أن تليها الدولة العباسية في بغداد، إلى أن أسرع التاريخ الحديث خطاه ليرينا الصفحة الأخيرة من دمشق الفيحاء بعد الثامن من ديسمبر 2024، حين غادر الرئيس السابق بشّار الأسد لاجئًا إلى موسكو، بينما كانت ساحة الأمويين والمسجد الأموي يستعدّان لحشد مئات آلاف السوريين الذين أحاطوا واستمعوا إلى المقاتل السابق للتوّ أحمد الشرع الذي أصبح الرئيس الانتقاليّ للجمهورية السورية. فلنتصفّح دور الراحلين كبشار الأسد وإيران، ودور القادمين خاصةً تركيا وإسرائيل، وأيضًا من أتوا ولم يرحلوا بعد كروسيا الاتحاديّة.

أولًا: سوريا: تولّى الرئيس حافظ الأسد ثمّ نجله بشّار حكم سوريا لأكثر من نصف قرن (1971–2000–2024)، تخلّلها حرب أكتوبر 1973 التي انتهت باتفاقية فضّ الاشتباك في مايو 1974 بين سوريا وإسرائيل المحتلّة للجولان منذ حرب 1967. وبقدوم الربيع العربيّ نشبت الثورة في إدلب (بلد الشرع) أقصى شمال غرب سوريا عام 2011، واستمرّت كحربٍ أهليّة بين المعارضة والحكومة حتى سقوط ومغادرة بشّار الأسد، حيث عانى العديد من الشعب السوريّ التهجير والنزوح مع العقوبات الاقتصادية. ورغم ذلك، كان لدى سوريا اكتفاءٌ ذاتيٌّ من الغذاء والطاقة. واستقبلت سوريا الدعم الإيرانيّ العسكريّ والاقتصاديّ منذ 2013 الذي غادرها مع سقوط الأسد، ثم استقبلت الدعم الروسيّ الجويّ والبحريّ منذ 2015 والباقي حتى إشعارٍ آخر.

رغم الفرحة ببدء عهدٍ جديدٍ في سوريا، فقد كانت هناك أخطاء عسكريّةٌ استراتيجيّةٌ أدّت إلى انكشافٍ أمنيٍّ سوريٍّ بشكلٍ كبير، بني على المغادرة الإيرانية من جهةٍ، والتحفّز الإسرائيليّ من جهةٍ أخرى، حين صدر قرارا تفكيكٍ وتسريح الجيش السوريّ وإلغاء التجنيد الإجباري. حيث كان ظاهر القرارين هو التخلّص من جيش بشّار الأسد النظاميّ تمهيدًا لبناء جيشٍ وطنيٍّ قوميٍّ جديد، مع بناء نظام تجنيدٍ يستوعب من وصلوا إلى سنّ التجنيد وهم في المهجر. وكان يمكن تطهير الجيش، أمّا تسريح المجنّدين فكان يمكن الإبقاء على العناصر الوطنية من المتطوّعين ككوادر يبنى عليها مستقبلًا.

وكان يمكن إخفاء الأسلحة كدبابةٍ أو مجنزرٍ أو مدفعٍ في الحفر المغطّاة أو المزارع أو بدرومات المباني إلى أن يتحسّن الموقف، ولكي لا يتمّ البدء من الصفر. وهنا لم تضع إسرائيل لحظةً من الفرصتين: الأولى لتدمير البنية التحتية العسكرية السورية كاملةً من قواعد عسكريةٍ متنوّعةٍ وأسلحةٍ ومعدّاتٍ نوعيةٍ ومعامل أبحاثٍ ومخازن، والثانية هي اقتحام المنطقة العازلة—جبل الشيخ وجنوبًا—السابق ذكرها بعد انسحاب الجانب السوريّ منها، حيث كان يكفي الوجود فقط—دون قتال—للحفاظ عليها وإبقاء إسرائيل خارجها ومنعها من التمدّد إلى داخل الأراضي السورية كما حدث ويحدث.

ثانيًا: إيران: دخلت إيران سوريا بناءً على طلب بشّار الأسد واستمرّت قرابة 12 عامًا دعمت خلالها النظام السوريّ عسكريًّا واقتصاديًّا بشكلٍ كبير. واستفادت إيران استراتيجيًّا بوجودها على خطّ التماس مع إسرائيل مباشرة عبر الجولان المحتلّ وجنوب لبنان حيث حزب الله القوّة، مع إطلالةٍ على البحر المتوسط لأول مرة من جنوب مصبّ الليطاني حتى بدء الساحل الإسرائيلي، وخسرت إيران كلّ ذلك بتدمير معظم قدرات حزب الله ثم انسحابها من سوريا، لتختلّ معادلة التوازن بشكلٍ كبيرٍ لمصلحة إسرائيل المدعومة من الولايات المتحدة.

ثالثًا: إسرائيل: خرجت من معظم الأزمة وما تزال كأكبر الفائزين في غزة وجنوب لبنان بتدمير معظم البنى التحتية العسكرية والإنشائية، والتخلّص من قيادات الصفّ الأول والثاني، واستهداف الصفّ الثالث، وتمّ ذلك بأعمالٍ استخباراتية (كاغتيال إسماعيل هنية في طهران) أو قتالٍ مباشر (كيحيى السنوار) أو قنابل أعماقٍ خرسانية (كاغتيال حسن نصرالله). لكنّ المكسب الإسرائيليّ الكبير كان خروج سوريا من المعركة وتداعي نظام الأسد المفترض قوّته بالدعم الإيرانيّ الروسيّ خلال 12 يومًا فقط دون قتال مع المعارضة! وقبلت إسرائيل الهدية ولم تضع الفرصة لتدمير جميع البنى التحتية العسكرية السورية (كما سبق) وتتجاوز خطّ الهدنة وجبل الشيخ إلى العمق السوري في درعا والقنيطرة والسويداء والاتصال بالأقلية الدرزية (الموحّدون كما يسمّون أنفسهم).

رابعًا: تركيا وروسيا: لعبتا دورًا إقليميًّا متقاربًا داخل سوريا، ولكلٍّ وجهته وأهدافه. فتركيا يحركها أهمية إقامة نطاقٍ أمنيّ من شمال سوريا لدرء خطر حزب العمال الكردستاني المعارض، لكن هل تكون القوة البديلة لإيران؟ وهل تصمت إسرائيل؟ كما أن روسيا تريد أن تعوّض خسائرها في دعم سوريا الأسد بالإبقاء على قاعدتيها الجويّة والبحريّة في حميميم وطرطوس، ولتكونا من جهةٍ أخرى ضمن معادلة التوازن مع حلف الأطلسيّ في شرق المتوسط وفي البحر الأسود. فلنتابع ونر ما سيسفر عنه المستقبل.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى