تغير المناخ

إطلاق مبادرة أسواق الكربون الأفريقية: الأسباب والتداعيات

أعلنت الأمم المتحدة عن إطلاق مبادرة أسواق الكربون الأفريقية الجديدة، وهي خطوة مهمة للقارة الأفريقية وذلك في إطار فعاليات مؤتمر الأطراف لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ رقم 27 والذي يُعقد في مدينة شرم الشيخ من الفترة 6-18 نوفمبر الجاري، من أجل تعزيز نمو إنتاج وحدات الكربون والعمل علي خلق فرص عمل في دول القارة الأفريقية. وهو ما يستدعي تسليط الضوء على أسواق الكربون وأهميتها بالنسبة إلى القارة الأفريقية؟

بشكل عام، يتزايد الإقبال على نظام تسعير الكربون وذلك بهدف خفض الانبعاثات الضارة بالبيئة، ولكن في الحقيقة تُعد جميعها إجراءات أحادية لن تكون مُجدية بالقدر الكافي لمواجهة تغير المناخ. ويحتاج العالم لخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بمقدار يتراوح بين الربع والنصف درجة طوال العقد المقبل، للحفاظ على الهدف المتمثل في الحد من ارتفاع درجات الحرارة لأقل من درجتين مئويتين. ولذلك جاءت قمة شرم الشيخ رقم 27 لتعمل على توحيد الجهود الدولية لتحقيق أهداف القارة الأفريقية.

أهمية أسواق الكربون

بصفة عامة، سوق الكربون هو نظام تجاري تستطيع من خلاله الدول شراء أو بيع وحدات من انبعاثات الاحتباس الحراري في محاولة للالتزام بالحدود الوطنية المسموح بها للانبعاثات. وذلك بموجب بروتوكول كيوتو واتفاقيات أخرى، مثل الاتفاقيات الموقعة بين دول الاتحاد الأوروبي، مما يؤكد أن ثاني أكسيد الكربون هو غاز الاحتباس الحراري السائد، ويتم قياس انبعاثات الغازات الأخرى بوحدات تسمى مكافئات ثاني أكسيد الكربون. وبصفة خاصة، تجارة الكربون هي نظام يهدف إلى وضع حد أقصى لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون للعديد من الشركات، وتداولها مثل أي سلعة. بمعنى أنه يمكن السماح لهذه المؤسسات بشراء الفائض المسموح به من الانبعاثات أو بيعه.

لماذا ظهرت أسواق الكربون

يأتي الاتجاه المتزايد نحو أسواق الكربون عامةً مع سعي الدول والشركات إلى خفض الانبعاثات وتحقيق الحياد الكربوني. من أجل تفادي تداعيات أسوأ جراء تغير المناخ، وفرضت دول عديدة آليات لتسعير الكربون، لإجبار الشركات والقطاعات على خفض الانبعاثات، وإلا فإنها مجبرة على دفع ثمن التداعيات السلبية التي تفرضها على البيئة. ومع السعي إلى خفض الانبعاثات ظهرت عقبات في الطريق نحو الطاقة النظيفة، فهناك قطاعات كثيفة الكربون، مثل التعدين والصناعات المختلفة والتي يصعب القضاء على انبعاثاتها، وبمعنى أدق أن هناك انبعاثات لا مفر منها ولا يمكن كهربتها أو تحويلها إلى كهرباء نظيفة.

من هنا جاءت فكرة تجارة الكربون، إذ تستطيع شركة ما التعويض عن كل طن من الانبعاثات التي تتسبب فيها، من خلال المساهمة في مشروع منخفض الكربون أو عن طريق دفع مقابل مادي يوازي سعر طن الكربون. واتسعت هذه الفكرة إلى أسواق تربط المؤسسات والشركات والتي تولد انبعاثات الكربون بالكيانات التي لديها فائض في الحد من الكربون، أو تطور مشروعات صديقة للبيئة.

حيث بدأت فكرة أسواق الكربون عام 1997، عندما وقعت 180 دولة بروتوكول كيوتو، مع إمكان الدول الأكثر ثراءً تقليل انبعاثاتها من خلال الدفع مقابل تطوير مشروعات منخفضة الكربون في الدول الفقيرة، وهذا بهدف خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بين عامي 2008 و2012 بنحو 5% دون مستويات عام 1990.

واتضح أن هذا الهدف كان طموحًا مبالغًا فيه، في عالم أدمن الوقود الأحفوري، خاصة مع انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من بروتوكول كيوتو عام 2001 وتبعتها دول أخرى لاحقًا.

ورغم فشل الدول في إنشاء سوق عالمية لتجارة الكربون، رغم التأكيد على ذلك في المادة 6 من  اتفاقية باريس للمناخ، فإن الاتحاد الأوروبي كان أول من يتخذ خطوة على الطريق الصحيح في هذا المجال من خلال إنشاء نظام لتداول الانبعاثات عام 2005، ليغطي حاليًا أكثر من حوالي 40% من إجمالي انبعاثات المنطقة. وبصفة عامة، يوجد أكثر من حوالي 60 برنامجًا خاصًا بتجارة الكربون على المستويات المحلية والوطنية، كما أطلقت الصين نظام تداول الانبعاثات الخاصة بها العام الماضي، لتغطي جميع مبادرات تسعير الكربون ما يقرب من 20% من إجمالي الانبعاثات العالمية.

بشكل عام يوجد نوعان وهما الأسواق الطوعية والإلزامية، في أسواق الكربون الإلزامية، تكون الشركات ملزمة بشراء أرصدة الكربون عندما تزيد انبعاثاتها على حد معين، من خلال تصاريح تُصدر من الحكومات، كما هو الحال في نظام تداول الانبعاثات الأوروبي. كما يمكن للشركات الأقل إطلاقًا للانبعاثات من الحد المسموح به بيع تصاريحها الإضافية، لكيانات أخرى تصدر انبعاثات كثيرة، وهذا يُجنب الأخيرة عقوبات تفرضها الحكومة، بموجب نظام تداول الانبعاثات. 

أما أسواق الكربون الطوعية، فإنها كما يوحي اسمها تكون اختيارية، وتسمح للشركات التي تخطط للحياد الكربوني ولا تندرج تحت أنظمة تداول الانبعاثات الوطنية بأن تحقق أهداف خفض الانبعاثات، سواء من خلال تجنب الانبعاثات على طريق زراعة الأشجار مثلًا، أو إزالة هذه الانبعاثات من خلال استخدام تقنية احتجاز الكربون وتخزينه. وتتيح أسواق الكربون الطوعية خفض الانبعاثات على طول سلسلة القيمة، في حين تغطي الأسواق الإلزامية الانبعاثات المباشرة فقط. ورغم ذلك فإنه لا تزال الأسواق الطوعية تغطي أقل من 1% من إجمالي الانبعاثات عالميًا، مقارنة بـ20% للأسواق الإلزامية.

إشكالية الإنبعاثات الكربونية في القارة السمراء

على الرغم من أن قارة أفريقيا تمثل أقل نسبة من الانبعاثات الغازية المسببة للاحتباس الحراري على مستوى العالم والتي تُشكل نسبة حوالي من 3 إلى 4%، فإن اقتصاداتها السريعة النمو، وطموحاتها التنموية، وتزايد عدد سكانها بسرعة يعني أن استخدامها للطاقة سيزداد بشكل كبير في العقود القادمة. وبالإضافة إلى أن القارة شهدت زيادة حوالي 0.7 درجة مئوية وهو الأمر الذي ظهر في صور كوارث طبيعية من سيول وفيضانات وغيرها من الكوارث العديدة. وعلى هذا فإن ضمان توافق مسار التنمية في القارة مع انتقال الطاقة العادل يُمثل ضرورة أساسية لتحقيق أهداف المناخ العالمية. ولكن سوف تكون تلك المهمة عالية التكلفة مما سيكلف الانتقال إلى الصفر الصافي ما يقدر بنحو حوالي أكثر من 1.7 تريليون دولار وذلك بحلول عام 2030. ومن غير الممكن أن نتوقع مساعدات التنمية الرسمية والتي كانت منخفضة وفي انخفاض واضح حتى قبل أن تفرض جائحة كورونا ضغوطًا إضافية على ميزانيات البلدان المانحة، بالإضافة إلى تداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية والتي جاءت لتعيق تمامًا تلك الجهود. 

ومن هن يمكن القول أن الشأن الأفريقي في تلك المسألة يتسم بالعديد من التحديات ومنها: 

  • عدم التوازن في معادلة الطاقة الأفريقية ولذلك نجد الاعتماد على إمدادات الطاقة التقليدية (الطاقة الأحفورية) والتي غالبًا ما تكون تقليدية (غير نظيفة) وبذلك تسهم بشكل كبير في ارتفاع ​​التكاليف ومستويات انبعاثات الكربون.
  • الاعتماد الكلي الكبير على الوقود الأحفوري (النفط والفحم والغاز الطبيعي) في غالبية دول القارة السمراء على الرغم من وفرة الموارد المتجددة، والتي طالبت الدولة المصرية في قمة باريس للمناخ عام 2015 بضرورة نشر ثقافة الطاقة المتجددة في جميع دول القارة، ولذلك تبنت 8 دول أفريقية على الأقل أهدافًا وطنية للطاقة المتجددة، والعمل على تشجيع الاستثمار في الطاقة المتجددة.
  • توافر النفط الخام  في بعض دول القارة الأفريقية وعدم استقرار مستويات ومعدلات سقوط  الأمطار، كلها عوامل تجعل لجوء الدول الأفريقية إلى سوق الكربون أمرًا ضروريًا.

ولذلك نحن كنا بحاجة إلى تمويل جديد مبتكر للعمل المناخي. ومن هنا يأتي دور أسواق الكربون الجديرة بالثقة والـفـعالة، وبشكل عام تفتح أسواق الكربون التمويل للانتقال إلى الصفر الصافي من خلال تحديد سقف للانبعاثات التي يمكن أن تصدرها الدول أو الشركات. إذا كانت جهة مصدرة للانبعاثات راغبة في تجاوز الحد المقرر لها، فيجب أن تشتري تصاريح أو أرصدة متولدة عن مشاريع خفض الانبعاثات.

إطلاق مبادرة أسواق الكربون الإفريقية

أعلنت الأمم المتحدة عن إطلاق مبادرة أسواق الكربون الأفريقية الجديدة، وذلك في إطار مؤتمر الأطراف لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ (قمة المناخ رقم 27) المنعقد بشرم الشيخ، وذلك بهدف تعزيز نمو إنتاج وحدات الكربون وخلق فرص عمل في أفريقيا.

وأطلقت المبادرة لجنة توجيهية مكونة من ثلاثة عشر عضوًا من مسؤولين أفارقة ومديرين تنفيذيين وخبراء في مجال تداول الكربون، بالتعاون مع التحالف العالمي للطاقة من أجل الناس والكوكب ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لإفريقيا، والدكتور محمود محيي الدين رائد المناخ للرئاسة المصرية لمؤتمر أطراف اتفاقية الأمم المتحدة للتغير المناخي والمبعوث الخاص للأمم المتحدة المعني بتمويل أجندة 2030 للتنمية المستدامة.

والتي تهدف إلى العديد من النقاط ومنها:

  • دعم نمو إنتاج ائتمان الكربون وخلق فرص عمل في أفريقيا.
  • تحقيق حوالي أكثر من 6 مليارات من الإيرادات وذلك بحلول عام 2030 وأكثر من حوالي 120 مليار بحلول عام 2050.
  • إنتاج حوالي 300 مليون رصيد كربون سنويًا بحلول عام 2030، وحوالي 1.5 مليار ائتمان سنويًا بحلول عام 2050.
  • دعم أكثر من حوالي 30 مليون وظيفة بحلول عام 2030 وأكثر من 110 مليون وظيفة بحلول عام 2050.
  • توزيع الإيرادات بشكل عادل وشفاف مع المجتمعات المحلية.

حيث انضم عدد من الدول الأفريقية منها كينيا وملاوي والجابون ونيجيريا وتوجو إلى حدث إطلاق تلك المبادرة كما أعلنت عن التزامها بتوسيع أسواق الكربون الطوعية، كما أعلن المشترون والممولون الرئيسين للائتمانات الكربونية، عن خطط لإنشاء التزام مسبق بالسوق بمئات الملايين من الدولارات للحصول على أرصدة الكربون الإفريقية عالية النزاهة. وقد وصفت الأمم المتحدة الأسواق الكربونية بأنها فرصة رائعة للحصول على المليارات لتلبية احتياجات تمويل المناخ للاقتصاد الأفريقي، وهذا مع توسيع الوصول إلى الطاقة، وخلق فرص العمل، وحماية التنوع البيولوجي، ودفع العمل المناخي.

أهمية تسعير الكربون والتوقعات المستقبلية

من بين المقترحات العملية التي تتعامل مع الأمر بواقعية وغيرها تعددت الآراء في قمة المناخ، فناشطو البيئة يبحثون عن آليات تحقق انخفاضًا حقيقيًا في انبعاثات الطاقة التقليدية الضارة، والسياسيون من جانبهم يرون أن ما لا يدرك كله لا يترك كله، لذلك كانوا سعداء بإطلاق مبادرة أسواق الكربون في أفريقيا. ولكن بشكل عام، تسعير الكربون أداة سياسية لتحقيق التخفيضات القاسية للانبعاثات الكربونية، في سبيل الوصول إلى هدف الحياد الكربوني بحلول منتصف هذا القرن. ومن خلال جعل مصادر الطاقة التقليدية أكثر تكلفة من نظيرتها النظيفة. حيث يوفر تسعير الكربون حوافز لتحسين كفاءة استخدام الطاقة وإعادة توجيه جهود الابتكار نحو التقنيات والتكنولوجيا الخضراء، ولكن يحتاج تسعير الكربون إلى الدعم من خلال مجموعة أوسع من التدابير لتعزيز فاعليته، بما في ذلك الاستثمار العام في شبكات التكنولوجيا النظيفة مثل رفع قدرة الشبكات لاستيعاب مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة واتخاذ تدابير لمساعدة الأسر والعمال والمناطق الأكثر عرضة لخطر الانبعاثات. 

ومن جهة أخرى، ارتفع حجم تعويضات الكربون المبيعة ضمن الأسواق الطوعية إلى أكثر من مليار دولار لأول مرة في عام 2021، وتقدر شركة ماكنزي أن الطلب على تعويضات الكربون  يمكن أن يزداد 15 مرة أو أكثر بحلول عام 2030، ونحو 100 مرة منتصف القرن الحالي. وذلك فإن الطلب العالمي السنوي على أرصدة الكربون يمكن أن يتراوح بين 1.5و2 جيجا طن من الكربون بحلول عام 2030، وبين 7 و13 جيجاطن بحلول منتصف القرن. وبشكل عام، يمكن أن تزيد قيمة سوق ائتمانات الكربون على 50 مليار دولار في عام 2030. مما سيشهد تطورًا في أسواق الكربون على المستويين الوطني والإقليمي.

خلاصة القول، جاء إطلاق تلك المبادرة، بسبب أهمية إنشاء وتطوير أسواق للكربون في القارة السمراء، تتناسب مع اقتصاداتها وذلك في ظل حاجة دول القارة لمصادر تمويل من أجل العمل المناخي والتحول الأخضر. وستعمل تلك المبادرة على توسيع مشاركة إفريقيا بشكل كبير ومتوازن في أسواق الكربون. وفي الأخير، تُعد تجارة انبعاثات الكربون والتي تستهدف تحديدا غاز ثاني أكسيد الكربون نوعًا من تجارة التراخيص، وهي إحدى الطرق الشائعة تستخدمها البلدان لتلبية المتطلبات المحددة في البروتوكول والاتفاقيات البيئية المتعلقة بحماية المناخ من ظاهرة الاحتباس الحراري الناجمة عن تلك الغازات وتجارتها عبر تداول سندات خفضها.

+ posts

دكتور مهندس متخصص في شؤون النفط والطاقة

د. أحمد سلطان

دكتور مهندس متخصص في شؤون النفط والطاقة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى