
النفط العراقي في المصافي المصرية: نموذج للتعاون الإقليمي في مواجهة تحديات الطاقة
تسعى مصر إلى تعزيز مكانتها كمركز إقليمي رئيس لتجارة الطاقة في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يتماشى مع رؤيتها الإستراتيجية في استغلال موقعها الجغرافي المتميز ومواردها والبنية التحتية المتطورة التي تمتلكها. وبهدف تعزيز هذه الاستراتيجية، تسعى مصر إلى إقامة علاقات متبادلة مع دول منتجة للطاقة، مثل العراق؛ لزيادة حجم التجارة البترولية والنفطية في المنطقة.
في هذا الإطار، تقوم مصر حاليًا بمباحثات مع الحكومة العراقية بشأن نقل النفط العراقي إلى مصر، وهي خطوة من شأنها أن تعزز التعاون بين البلدين في قطاع النفط والغاز، وتفتح آفاقًا جديدة للتعاون الاقتصادي المشترك. هذا التعاون من شأنه أن يسهم في تعزيز الأمن الطاقي في المنطقة، بالإضافة إلى دعم مصر في تعزيز قدرتها على التعامل مع الطلب المتزايد على الطاقة المحلية وكذلك تصدير المنتجات النفطية والغازية إلى الأسواق العالمية. وضمن إطار هذه الخطط الاستراتيجية، التقى وزير البترول والثروة المعدنية المصري، كريم بدوي، بنائب رئيس مجلس الوزراء ووزير النفط العراقي، حيان عبد الغني، في العاصمة العراقية بغداد. اللقاء جاء خلال زيارة رسمية لمناقشة سبل تعزيز التعاون الثنائي بين البلدين في مجالات قطاع النفط المختلفة.
محاور التعاون النفطي بين القاهرة وبغداد
تأتي هذه الجهود المصرية لتعزيز التعاون الإقليمي وتحقيق التكامل في مجال الطاقة، بما يسهم في دعم الاقتصاد المصري وفتح آفاق جديدة لقطاع الطاقة، بالإضافة إلى تعزيز مكانة مصر كمركز إقليمي للطاقة. حيث يمتد التعاون النفطي بين مصر والعراق إلى جوانب مختلفة وعديدة، والتي يأتى من ضمنها:
- تعزيز التعاون الإقليمي والاستفادة من القدرات المصرية في مجال تداول الطاقة ومشتقاتها المختلفة.
- العمل على تعظيم أنشطة الإنتاج وتكرير النفط الخام، من خلال نقل النفط العراقي وتكريره في معامل التكرير المصرية، مما يوفر فرصة إضافية لوصول النفط العراقي إلى الأسواق الإقليمية والعالمية بالاستفادة من موقع مصر الاستراتيجيى وقربها من مواقع الاستهلاك العالمية، مما يجعلها بوابة مهمة وحيوية للنفط العراقي.
- تعظيم الاستفادة من البنية التحتية المصرية في قطاع البتروكيماويات ومشتقات الغاز الطبيعي.
- تعزيز وجود الشركات المصرية المتخصصة في مجالات تصميم وتنفيذ وصيانة وتشغيل المشروعات في السوق العراقية، نظرًا لما تمتلكه هذه الشركات من خبرات واسعة في مشروعات البنية التحتية والطاقة والنفط الخام والغاز الطبيعي.
إمكانات العراق النفطية
عززت كل التطورات والمؤشرات التي شهدتها الأسواق النفطية خلال الأعوام القليلة الماضية، وبالتحديد بعد عام 2022 وبداية الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات على قطاع النفط الروسي، فرضية أن تتحرك بغداد صوب الأسواق العالمية لتبادل الأدوار مع موسكو من أجل تغطية النقص في إمدادات النفط العالمي، وبالأخص مع الطلب المتزايد على النفط الخام. حيث تحتوي الأراضي العراقية على ثروات نفطية هائلة، فيحتل العراق المركز الخامس عالميًا في احتياطي النفط الذي يُشكل المحرك الأساس للاقتصاد العراقي، مع توافر بنية تحتية ضخمة من آبار ومصافٍ وخطوط وأنابيب نقل.
ويُقدر الاحتياطي العراقي المؤكد من النفط بنحو 148 مليارًا و800 ألف برميل، وبمتوسط معدل إنتاج يبلغ حوالي 4 ملايين برميل يوميًا (في ظروف الإنتاج الطبيعية). ويعتمد العراق على إيراداته لتمويل ما يصل إلى حوالي 97% من نفقات الدولة، ويخطط للوصول إلى معدلات إنتاج حوالي 8 ملايين برميل يوميًا خلال السنوات المقبلة.

وتتركز حقول النفط المنتجة في محافظتي البصرة وكركوك، وتأتي بعدها في الأهمية حقول محافظات ميسان وبغداد وصلاح الدين وديالى ونينوى. ومن أشهر حقول النفط في العراق، حقل الرميلة الواقع بالقرب من حدود الكويت، إذ يُعد ثالث أكبر حقل مُنتج في العالم، وهو ما يوفر ما يقرب من ثلث إجمالي إمدادات النفط في بغداد بنحو 1.5 مليون برميل يوميًا. ويُعد حقل كركوك، والذي اكتُشف في عام 1927 مهد صناعة النفط العراقية، فيما تُعد حقول الأحدب والزبير ونهر بن عمر وباي حسن من أشهر الحقول العراقية. وبالنسبة للغاز الطبيعي، فإن معظم الإنتاج يكون غازًا مصاحبًا، وبالأخص من الحقول الجنوبية، وتوجد حقول لإنتاج الغاز غير المصاحب مثل حقل عكاس والسبية والمنصورية.
وتتركز مصافي النفط العراقية في عدة مدن، من بينها بغداد وكربلاء والنجف وأربيل، وكركوك، ويبلغ عددها أكثر من حوالي 15 مصفاة يشرف عليها عدد من الشركات، من بينها شركة مصافي بيجي والتي تأسست في عام 1980 ولهذه الشركة 4 مصافٍ عملاقة من أكبر مصافي الشرق الأوسط، وهي مصفاة صلاح الدين رقم 1، والتي تبلغ طاقتها الإنتاجية حوالي 70 ألف برميل يوميًا، ومصفاة صلاح الدين رقم 2، ولها نفس حجم الطاقة الإنتاجية، ومصفاة الشمال والتي تبلغ طاقتها الإنتاجية حوالي 150 ألف برميل يوميًا، ومصفاة الدهون والتي تبلغ طاقتها حوالي 250 ألف برميل يوميًا.

أمام ما تقدم، أخذت معدلات إنتاج النفط العراقي اتجاهًا صعوديًا في السنوات القليلة الماضية، إذ شهدت مستويات الإنتاج زيادة تُقدر بحوالي مليوني برميل يوميًا، وكانت بغداد تضخ نحو 2.4 مليون برميل يوميًا من النفط في عام 2009، ولكن استمرت معدلات الإنتاج العراقي في الصعود حتى تجاوزت سقف 3 ملايين برميل يوميًا وذلك في عام 2013، قبل أن تكسر مستويات إنتاج قياسية بلغت 4 ملايين برميل يوميًا.
استكمالًا لما سبق، تمتلك بغداد 3.5 تريليونات متر مكعب من احتياطيات الغاز الطبيعي المؤكدة طبقًا للبيانات المعلنة في بداية عام 2021، وبلغ إنتاج العراق من الغاز الطبيعي نحو 10.5 مليارات متر مكعب عام 2020، ارتفاعًا من حوالي 0.7 مليار متر مكعب وذلك في عام 1970. وفي عام 2020، ارتفع الطلب على الغاز الطبيعي في السوق المحلية العراقية إلى حوالي 20.8 مليار متر مكعب، مما يعني أن بغداد تضطر إلى استيراد الغاز لتلبية احتياجاتها المحلية.

وسجلت إيرادات النفط العراقي قفزة هائلة وذلك في بداية عام 2022؛ إذ ارتفعت نحو 82%، على أساس سنوي، بدعم قوي من ارتفاع أسعار النفط في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية، وحققت بغداد إيرادات 83.5 مليار دولار من صادرات النفط خلال تلك الفترة.
وبناء على ذلك، يسعى العراق إلى زيادة صادراته النفطية في المستقبل القريب، ولكن وفق محددات ولوائح “أوبك”. ولن يؤثر الحظر النفطي على موسكو على حجم الصادرات النفطية العراقية وسحب العملاء في الأسواق الآسيوية، خصوصًا أن النفط العراقي مطلوب في أغلب الدول الأوروبية والولايات المتحدة وغيرها وذلك لجودته العالية.
استكمالًا لما سبق، يحتوي العراق على ثروات طبيعية عدة مكنته من احتلال المرتبة التاسعة عالميًا من حيث امتلاك الموارد الخام التي من شأنها أن تُسهم في إنعاش اقتصاده المعتمد كليًا على النفط الخام وازدهار حياة مواطنيه؛ إذ تتجاوز القيمة السوقية للاحتياط النفطي في باطن الأرض حوالي 15 تريليون دولار، لكنها في الوقت ذاته غير مستغلة بالصورة الأمثل.

علاوة على ذلك، هناك الكبريت الحر، فتبلغ احتياطاته المؤكدة حوالي 600 مليون طن ويتجاوز المخزون الصناعي للفوسفات 10 ملايين طن (في المرتبة الثانية عالميًا)، إضافة إلى ثروات طبيعية أخرى مثل الملح وكبريتات الصوديوم، وكذلك حجر الكلس والدولومايت، إلى جانب رمال السيليكا الكوارتزايت.
مكاسب مشتركة
من خلال هذا التعاون، تسعى القاهرة وبغداد إلى تحقيق مجموعة من الأهداف المشتركة. بالنسبة للعراق، يعد هذا التعاون فرصة لزيادة صادراته النفطية إلى مصر وتحقيق دخل إضافي من خلال تسويق النفط الخام في أسواق جديدة. أما بالنسبة لمصر، فيمكنها الاستفادة من النفط العراقي لتلبية احتياجاتها المحلية المتزايدة للطاقة، كما يمكنها استغلال هذا التعاون لتعزيز قدرتها على تصدير المنتجات النفطية والغازية إلى أسواق أخرى، سواء في أوروبا أو أسواق الشرق الأوسط.
وهنا تجدر الإشارة إلى مصر تعتمد على الاستيراد في توفير احتياجات السوق المحلية، وذلك مع تزايد استهلاك الوقود الأحفوري في مصر، وهو الأمر الذي يعرض الاقتصاد لتقلبات أسعار النفط الخام والضغط على بند المصروفات في الموازنة. وعليه، اعتمدت مصر بشكل رئيس على استيراد احتياجاتها من المنتجات والمواد البترولية، حيث بلغت نسبة هذا الاستيراد من إجمالي الطلب المحلي نحو 10% عام 2004، وارتفعت النسبة إلى أكثر من حوالي 40% مع زيادة معدل الاستهلاك المحلي في 2024.

كما أن التعاون بين مصر والعراق في هذا المجال يمكن أن يكون له تأثير إيجابي على تعزيز مفهوم أمن الطاقة في كلا البلدين؛ إذ إن تعزيز التعاون في قطاع النفط والغاز الطبيعي قد يسهم في تحسين أسواق العمل وزيادة الاستثمارات في البنية التحتية المتعلقة بالنفط والغاز.
من الاستعراض السابق، يبدو أن العلاقات النفطية بين مصر والعراق سوف تتطور بشكل غير مسبوق وعلى نحو قد يحقق للطرفين مكاسب اقتصادية مشتركة. ومن ناحية بغداد، فإن شراكتها مع مصر تسمح بفتح آفاق ومسارات جديدة وآمنة وموثوقة للخام العراقي، إضافة إلى تعزيز شراكاتها الاستراتيجية والاقتصادية مع القاهرة، في وقت تبتعد فيه الشركات الغربية عن السوق العراقية. بينما قد يستفيد العراق من عدة جوانب تتمثل في ضخ وجذب الاستثمارات في مجالات مختلفة من مراحل إنتاج وتكرير النفط الخام. حيث تتوافر العديد من الفرص التطويرية في مجال الإنتاج النفطي واستثمارات الغاز الطبيعي وبحث واستغلال المناطق الاستكشافية.
الطاقة وضرورة تعزيز التعاون الإقليمي
تعد الطاقة ركيزة أساسية للتنمية البشرية، فهي المحرك الذي يدفع عجلة التقدم والتطور. ومع ذلك، فإن التفاوت في الوصول إلى الطاقة يُشكل تحديًا كبيرًا يهدد تحقيق أهداف التنمية المستدامة، مما يستدعي بذل جهود مضاعفة لتوفير الطاقة بأسعار معقولة وبشكل مستدام للجميع. تاريخيًا، لقد شكل الوصول إلى الطاقة محركًا رئيسًا للنمو الاقتصادي العالمي، حيث أسهم في تعزيز التبادل التجاري بين الدول، وفي الوقت نفسه، أدى إلى زيادة التنافس على الموارد الطاقية وتشكل تحالفات جديدة، مما جعل الأمن الطاقي قضية مركزية في العلاقات الدولية.
وعليه، إن استقرار إمدادات الطاقة لا يؤثر فقط على النمو الاقتصادي في العالم، ولكنه يُعد محورًا حاسمًا في تعزيز الأمن القومي وتحسين مستويات رفاهية المواطنين في جميع الدول؛ إذ إن التعاون الإقليمي في مجال الطاقة يمكن أن يُسهم في تعزيز قدرتها على مواجهة التحديات المستقبلية في قطاع الطاقة.
تأسيسًا على ما سبق، من الجوانب المهمة في هذا التعاون هو التركيز على تعزيز التعاون الإقليمي بين دول المنطقة، حيث يعد العراق ومصر من اللاعبين الرئيسين في صناعة الطاقة في الشرق الأوسط. كما أن استثمار القدرات المصرية في مجال الطاقة يمكن أن يوفر فرصًا واسعة لتوسيع شبكة التعاون الإقليمي مع دول أخرى في المنطقة.
مجمل القول، مصر والعراق بصدد تنفيذ صفقات نفطية مشتركة سوف تؤدي، بدون شك، إلى تعزيز الشراكة الاستراتيجية والاقتصادية بين الطرفين. ويُعتبر هذا التعاون خطوة مهمة نحو تحقيق التكامل الطاقي الإقليمي وتعزيز أمن الطاقة في المنطقة. ومن خلال الاستفادة من البنية التحتية المصرية المتطورة، يمكن للبلدين تعزيز علاقاتهما الاقتصادية، وتحقيق منافع متبادلة، وتحقيق الاستفادة القصوى من مواردهما النفطية.
دكتور مهندس متخصص في شؤون النفط والطاقة