
نصف عام من الحرب في أوكرانيا: ماذا تغير في مشهد الطاقة العالمي
نصف عام مر على بداية الحرب الروسية الأوكرانية، وسط آفاق سوداء لا يستطيع أحد التنبؤ بها، ولا أحد يملك الجواب النهائي عن السيناريو الذي ستنتهي به الأزمة ولا عن عدد الشهور أو حتى السنين التي ستستغرقها هذه الحرب. ولكن من الواضح والمؤكد أن موسكو وكييف دخلتا (وأدخلوا الجميع معهم) في مغامرة كبرى ونفق مظلم صار صعبًا العثور على مخرج منه.
بعد نصف عام، اكتملت ملامح مستقبل سوق الطاقة العالمية؛ إذ تبدلت معطيات عديدة وتغيرت وسط إعادة صياغة كاملة لخريطة الطاقة العالمية. فالحرب أثرت في كل مكان في العالم، بداية من أسعار الغذاء إلى الوقود والمنتجات البترولية عالميًا، وتغيرت معها الخارطة الاقتصادية في العالم. ولعل من أهم التداعيات هو تأثير الأزمة على إمدادات النفط والغاز الطبيعي وأمن الطاقة بشكل كبير، فبعد أكثر من ١٨٠ يومًا تسببت الأزمة الروسية الأوكرانية في تغيير جذري في خطط دول الاتحاد الأوروبي فيما يخص ملف الطاقة، حيث تسعى دول القارة الأوربية بشكل متسارع إلى التخلص من الاعتماد على الطاقة الروسية.
العقوبات الأوروبية والأمريكية على قطاع الطاقة الروسي
تُعد روسيا أكبر مصدر للنفط في الأسواق العالمية، وإمداداتها من الغاز الطبيعي تغذي الاقتصاد الأوروبي، وقد فرضت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي ودول أخرى عقوباتٍ اقتصادية على روسيا، وأعلنت خططًا لإنهاء اعتمادها على إمدادات الوقود الأحفوري الروسية. بيد أنه حتى في ظل وابل القنابل الروسية المنهمر على أوكرانيا، يستمر إلى اليوم تدفق النفط والغاز الطبيعي إلى دول عدةٍ أدانت “الغزو الروسي”، رغم أن هذه الدول فرضت أكثر من ٩١١٥ عقوبة على موسكو منذ بداية الحرب. وكانت سويسرا في مقدمة أكثر الدول فرضًا للعقوبات، تلتها الولايات المتحدة الأمريكية.
وبصفة عامة ليست هذه المرة الأولى التي دفعت فيها تحركات عسكرية روسية زعماء العالم إلى القلق بشأن تأمين إمدادات الطاقة؛ فقد ثارت مخاوف عديدة عندما غزت روسيا دولة جورجيا في عام ٢٠٠٨، وعندما اجتاحت أيضًا الأراضي الأوكرانية والاستيلاء على شبه جزيرة القرم في عام ٢٠١٤، مما أثبت إن إغراء مصادر الطاقة الروسية الرخيصة قد ثبتت قوته الشديدة في الماضي.
ولكن قد تختلف الأمور هذه المرة لأنها في مواجهة أمريكية أوروبية لكسر سلاح بوتين القوي وهو الطاقة. ولأن موسكو تُعد من أكبر الدول التي تمد أوروبا بالطاقة ولا سيما الغاز الطبيعي، فكانت إمكانية فرض عقوبات على قطاع الطاقة الروسي أشبه بابتلاع السم، إلا أن دول الاتحاد الأوروبي عزمت على عقاب موسكو، وفي نهاية شهر يونيو الماضي قرر قادة دول الاتحاد الأوروبي في اجتماعهم فرض حظر تدريجي على النفط الروسي إلى القارة الأوروبية يصل إلى حوالي ٩٠٪ في نهاية عام ٢٠٢٢.
الحرب الروسية وإعادة ترتيب أوراق الطاقة العالمية
أدت الأزمة الروسية الأوكرانية إلى تغيير العديد من مفاهيم القوى والتحالفات في المشهد العالمي للطاقة وعلى سبيل المثال:
- تحاول القارة الأوروبية إعادة ترتيب أوراقها وأولوياتها.
- صعوبة إيجاد بدائل قوية لمصادر الطاقة الروسية.
- ظهور تحالفات جديدة في سوق الطاقة العالمية لم تكن موجودة من قبل.
- تأكيد زعماء الدول الأوروبية أن الغزو الروسي لأوكرانيا كان بمثابة ضربة الصحوة لهم.
- توحد الاتحاد الأوروبي بعد خلافات عصفت داخليًا ضمن الاتحاد الأوروبي والتي انتهت بخروج بريطانيا منه، وعاد الأوروبيون وتوحدوا بقرار معاقبة بوتين.
- عادت منظمة الدول المصدرة للنفط أوبك إلى الساحة الدولية من خلال فرض سيطرتها على أسواق النفط العالمية.
- قدمت مصر نفسها كلاعب رئيس في سوق الغاز العالمية وضمن البدائل القوية للغاز الروسي.
تُشكل روسيا أكبر مُصدّر للنفط؛ إذ تُمثل صادراتها النفطية أكثر من ٥ ملايين برميل يوميًا من النفط الخام بنسبة حوالي ١٢٪ من إجمالي التجارة العالمية. وتُمثل حوالي ٢٬٨ مليون برميل يوميًا من صادرات المنتجات النفطية العالمية، أي ما يعادل حوالي ١٥٪ من تجارة المنتجات المكررة عالميًا.
والاتحاد الأوروبي وحده كان يستحوذ على أكثر من حوالي ٤٥٪ من صادرات روسيا من الخام والمنتجات النفطية وذلك بنهاية عام ٢٠٢١، وقبل الحرب الروسية الأوكرانية والتي بدأت في نهاية فبراير الماضي، وبعد قرار الحظر الأخير، بدأ الاتحاد الأوروبي رحلة البحث عن مصادر بديلة للنفط الروسي، وموجهًا أنظاره إلى منطقة بحر الشمال والقارة الأفريقية والشرق الأوسط.
نصف عام من حالات عدم استقرار أسعار النفط والغاز
أصبح النفط والغاز يؤرقان اقتصادات العالم بشكل كبير؛ وذلك بعد موافقة الاتحاد الأوروبي على فرض حظر تدريجي على صادرات النفط الروسية المتجهة إلى القارة الأوروبية، مما أدى إلى تذبذب أسعار النفط بشكل كبير كما هو الحال بالنسبة لأسعار الغاز الطبيعي والذي تتسابق دول العالم عليه، وبالأخص دول القارة الأوروبية، مع اقتراب فصل الشتاء.
ولذلك ستؤدي الأزمة الراهنة إلى خلخلة عنيفة ولأشهر طويلة في أسواق النفط والطاقة، بالإضافة إلى اضطراب كبير في إمدادات الطاقة. ومن المؤكد ثبات سعر برميل النفط حول مستوى ١٠٠ دولار على المديين القريب والبعيد، فروسيا أضافت معدلات جديدة من التقلبات السعرية وحالات عدم اليقين في أسواق النفط، وحطمت العديد من أساسيات السوق.
يُمثل تأثير الحرب الروسية الأوكرانية على رأس أسباب اشتعال الأسعار، وستثير هذه التوترات القوية بين المعسكرين الغربي والروسي القلق حول استمرار عمليات وسلاسل الإمدادات النفطي، إذ تنتج روسيا حوالي عشرة ملايين برميل من النفط، وجاء الارتفاع القياسي في أسعار النفط كنتيجة رد فعل رجال ومستثمري الطاقة تجاه التطورات في أوكرانيا، مع قلقهم من التأثير المحتمل للحرب على إمدادات البترول والغاز الطبيعي، وأنه في حالة استمرار الحرب وتوسع الدب الروسي في الأراضي الأوكرانية سيحدث صدع حاد في الإمدادات النفطية، مما سينعكس على أسعار النفط بشكل ملحوظ.
وسنجد الأسعار تتهاوى إلى الانخفاض المتذبذب في حالة زيادات كبيرة في الإنتاج، ووسط حالة عدم اليقين المستمرة في الأسواق العالمية وبشكل عام سجلت أسعار الغاز في أوروبا مستويات قياسية جديدة، للمرة الأولى منذ ٥ أشهر؛ إذ ارتفع سعر الغاز في أوروبا فوق مستوى ٢٥٠٠ دولار لكل ألف متر مكعب في منتصف الشهر الحالي للمرة الأولى منذ مارس.
وارتفعت أسعار العقود الآجلة للغاز تسليم سبتمبر في مركز تي تي إف الهولندي (المرجع الرئيس لأسعار الغاز في أوروبا) إلى حوالي ٢٥٠١ دولارًا لكل ألف متر مكعب، حيث كان سعر الغاز الفوري في أوروبا قد وصل في مارس الماضي إلى حوالي ٣٩٠٠ دولار لكل ألف متر مكعب، وذلك لأول مرة في التاريخ، ومن المتوقع ارتفاعها فوق مستويات قياسية قد تقترب من حوالي ٤ آلاف دولار لكل ألف متر مكعب، فهناك صعوبة في تراجع أسعار الغاز في السوق الفورية وذلك للأسباب التالية:
- ظروف السوق الراهنة والصعبة.
- زيادة الإقبال على شراء المزيد من شحنات الغاز المسال من السوق الفورية المتأزمة لضمان تأمين مخزونات كافية.
- عدم وضوح الرؤية حول موعد انتهاء الحرب الروسية على الأراضي الأوكرانية.
- وضع الإمدادات من مختلف الدول المصدرة للغاز.
- المخاوف من عدم وصول مخزونات الغاز في الدول الأوروبية إلى حوالي ٨٠٪ وذلك بحلول شهر نوفمبر المقبل.
الركود العالمي
بصفة عامة عندما تصل أسعار النفط والغاز الطبيعي إلى مستويات قياسية، فإن تلك الأسعار ستقود العالم إلى ركود اقتصادي كبير على المدى المتوسط، مما سيدفع الدول المستهلكة للنفط إلى تكثيف جهودها للبحث عن بدائل أخرى للطاقة. والجدير بالذكر ما حدث في عام ٢٠٠٨ عندما ارتفعت أسعار النفط إلى حوالي ١٤٧ دولارًا للبرميل، وذلك قبل التدهور الكبير والسقوط إلى مستويات أقل من حوالي ٣٦ دولارًا للبرميل، وما حدث في مارس من عام ٢٠١٢ إذ وصل سعر برميل النفط إلى حوالي ١٢٨ دولارًا، ثم تراجع إلى حوالي ٢٦ دولارًا في يناير من عام ٢٠١٦.
وسجل التضخم في منطقة اليورو معدلات قياسية، حيث بلغ حوالي ٨٬٩٪ في يوليو ومقارنة ٨٬٦٪ في يونيو و٨٬١٪ في مايو و٧٬٤٪ في أبريل، حيث تشهد القارة الأوروبية تزايد أسعار الطاقة التي بسبب الحرب في أوكرانيا. وسُجل أعلى معدل تضخم سنوي مرة أخرى لأسعار الطاقة، عند حوالي ٣٩٬٧٪، انخفاضًا من حوالي ٤٢٪ في يونيو.
ولكن ما الذي يسبب ارتفاع معدلات التضخم؟
- القارة الأوروبية أوروبا والعديد من دول العالم تتأثر بالفعل بارتفاع أسعار الطاقة مما يساهم في زيادة معدلات التضخم.
- أدى الصراع الروسي الأوروبي إلى تفاقم أزمة الطاقة وذلك من خلال زيادة المخاوف العالمية من أنه قد يؤدي إلى انقطاع إمدادات النفط أو الغاز الطبيعي من روسيا.
ملامح الشهور القادمة وشتاء مرعب ينتظر أوروبا
بشكل عام تواجه دول أوروبا أزمة كبرى نتيجة لتهديدات موسكو المستمرة بوقف إمدادات الغاز؛ إذ تسعى دول الاتحاد الأوروبي إلى تأمين احتياجاتها قبل فصل الشتاء والذي قد يشهد ارتفاعًا كبيرًا في استهلاك الغاز الطبيعي، وبدأت الحكومات وعلى رأسها الحكومة الألمانية في توجيه الأوامر للمواطنين من أجل خفض الاستهلاك وترشيده في فصل الشتاء. ولكن من البديهيات التي لا سبيل لإنكارها أن الطاقة الروسية وإن كانت منبوذة من واشنطن وحلفائها ستظل سلاحًا فتاكًا قد يضرب استقرار أوروبا برمتها.
فحتى الآن، تفشل دول القارة الأوروبية وخاصة ألمانيا في التحرر من التبعية للغاز الروسي. وقد هزت أزمة الحرب الروسية الأوكرانية ثقة أوروبا في موسكو ودفعتها الى مراجعة سياستها المتعلقة بالطاقة والغاز الطبيعي والسعي إلى الحصول عليها من مصادر بديلة غير روسية.
وعلى الرغم من مرور نصف عام على الحرب وفرض الكثير من العقوبات على موسكو، إلا أن عملياتها العسكرية لا تزال مستمرة في أوكرانيا، مما قد يشير إلى أن قدرات الاقتصاد الروسي لم تتأثر بالصورة التي تمنعها من الاستمرار في عملياتها العسكرية في الأراضي الأوكرانية؛ فقد أبدى الاقتصاد الروسي قدرة على المقاومة فاقت التوقعات الأمريكية والأوروبية، وأثبتت موسكو قدرتها على الإنفاق على حربها على أوكرانيا إنفاقًا ضخمًا.
وإدراكًا من الاتحاد الأوروبي لمقدار حاجة موسكو لأموال الغاز الطبيعي ولرغبة أوروبا في الخروج من التبعية لموسكو، وضعت القارة الأوروبية خطة للخروج من النفوذ الروسي، ووضعت المفوضية الأوروبية أكثر من ٢٢٥ مليار دولار لتحقيق هذه الخطة التي تعتمد بشكل أساسي على التحول لمصادر الطاقة البديلة. ولكنها مهمة تكاد تكون صعبة؛ بسبب ضعف البدائل المتاحة وقصر الوقت المفترض إيجاد تلك البدائل فيه. ذلك فضلًا عن أن التحول عن الطاقة الروسية يحتاج إلى:
- تغيير نمط الاستهلاك لدى المواطن وهو ما سيحتاج إلى فترة طويلة من الوقت.
- التحول للطاقة البديلة سيحتاج ابتكار تقنيات حديثة وهو ما سيتطلب وقتًا طويلًا وأبحاثًا كثيرة.
ولكن يجب أن يكون الهدف طويل الأمد هو التخلص من النفط الروسي بالكامل وذلك من خلال ثلاثة طرق رئيسية وهي:
- ضرورة تحسين كفاءة الاستخدامات الحالية للطاقة من أجل ترشيد الاستهلاك.
- يجب استخدام الطاقة النظيفة كبديل للنفط والغاز الطبيعي.
- الاعتماد على وجود بدائل لموسكو تحديدًا في حالة لم تستطع أوروبا التخلي عن الوقود التقليدي بشكل كامل.
ولكن الدول الأوروبية تحاول منذ أكثر من ٨ سنوات إنهاء اعتمادها على الغاز الروسي بعد غزوها لشبه جزيرة القرم لكنها لم تنجح، خاصة وأنها تعتمد على الخطوة الثالثة فحسب من برنامجها لأن شركة غازبروم الروسيةةة على سبيل المثال أنتجت حوالي ٥٤٠ مليار متر مكعب خلال عام ٢٠٢١ وذلك أكبر من إجمالي إنتاج أرامكو السعودية وشيفرون وإكسون موبيل، لذا فاستبدال هذا الحجم يبدو مستحيلًا لأن إنتاج الغاز الطبيعي في غالبية حقول الغاز يعمل بالطاقة القصوى أو قريبًا جدًا منها.
وهو ما يختلف عن صناعة النفط المعتاد إذ يمكن للدول المنتجة للنفط أن تزيد من إنتاجها حال حدوث اضطرابات في الأسواق. هذا بجانب إن استبدال الغاز يحتاج إلى حجم استثمارات ضخم في البنى التحتية للدول، وتحتاج عمليات النقل إلى أنابيب وعمليات معقدة، أما النفط فيُنقل عبر ناقلات عملاقة يمكنها الشحن من نقطة الإنتاج والانتقال إلى أي نقطة في العالم تحدد كنقطة استهلاك.
ومن هنا نستطيع إلقاء الضوء على بعض البدائل؛ فإيران مثلًا تُنتج حوالي ٢٩٠ مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي ثاني أكبر منتج بعد روسيا، ولكن حوالي ٢٨٠ مليار منها يتم استهلاكه داخليًا، وإذا رفعت واشنطن بعضًا من عقوباتها على طهران ربما يسمح ذلك بوصول أكبر للغاز الإيراني. ولكن لتحقيق إمكانية التصدير سيجب أولًا بناء منشآت إسالة ومحطات تصدير وذلك قد يستغرق عدة سنوات.
ومن زاوية أخرى دول مثل النرويج والجزائر وليبيا وأذربيجان يمكنها الاستمرار في تقديم خدماتها لأوروبا؛ وذلك من خلال زيادة الإنتاج بمعدلات ضئيلة، ولكن يجب عليها أولًا تحقيق اكتفاء للسوق المحلية، ثم التوجه إلى التصدير. أما باقي الدول التي فلا تربطها خطوط أنابيب مع أوروبا، فقد تضطر دول أوروبا لاستيراد الغاز منها في صورة سائلة فالغاز الطبيعي المسال يتمتع بخصائص معينة منها أنه فائق البرودة ومكثف، وأنه يمكن نقله بواسطة السفن لا الأنابيب.
وفى ذلك السياق، صرحت واشنطن والتي تُعد ثالث مصدر للغاز الطبيعي المُسال بأن بإمكانها زيادة الغاز المسال المتوجه لأوروبا بمقدار الضعف، ولكن ستظل أوروبا بحاجة إلى ملايين الأمتار المكعبة الإضافية. أما الرهان الثاني فهو على حقل قطر الشمالي الذي تريد أوروبا توسعته ليعطي إنتاجية أكبر، ولكن الدوحة لا تنوي البدء في تلك الخطوة قبل عام ٢٠٢٥.
وكذلك في يونيو من العام الحالي، وُقعت اتفاقية ثلاثية بين مصر وإسرائيل والاتحاد الأوروبي لاستيراد الغاز عبر مروره من أنابيب تمر بشواطئ مصر بسبب الموانئ المصرية والبنية التحتية الضخمة التي تمتلكها الدولة المصرية مما يجعل التصدير لأوروبا أمرًا ممكنًا.
ولكن وبشكل عام لا يكفي على الإطلاق الاعتماد على إمدادات من مصادر غير روسية؛ فهذه الإمدادات لن تستطيع القارة الأوروبية توفيرها بالكميات المطلوبة لكي تصبح بديلة عن نقص الإمدادات الروسية، حيث تحتاج دول الاتحاد الأوروبي إلى تعبئة مخزوناتها من الغاز الطبيعي بنسبة تتعدى ٩٠٪ خلال الأشهر القليلة المقبلة؛ لكي تتمكن من تخطي فصل الشتاء من دون أن تواجه نقصًا، بالإضافة إلى أن كافة الجهود الأوروبية المبذولة في الوقت الحالي لم تفض إلى نتائج إيجابية.
وبصفة عامة وطبقًا لجميع ما سبق، إذا استمرت موسكو في لعب سياسة النفس الطويل بشكل أشمل من المعسكر الغربي مع استمرار الأزمة دون حل يناسب جميع الأطراف، فقد تسعى أوروبا وقبل فصل الشتاء لمحاولة إعادة دمج موسكو لأسواق الطاقة العالمية مرة أخرى؛ من أجل التخفيف من حدة الأزمة الراهنة.
عوامل يتوقف عليها توقيت انتهاء الحرب
طبقًا لجميع المؤشرات السابقة، يمكننا تلخيص بعض العوامل التي يتوقف عليها موعد انتهاء الحرب ومنها:
- مدى تحمل الاقتصاد الروسي للعقوبات الغربية والأمريكية.
- أسعار النفط والغاز الطبيعي العالمية والتي من الممكن أن تلعب دورًا رئيسًا في نهاية الحرب.
- حلول فصل الشتاء في القارة الأوروبية ومدى تحمل شعوبها والبدائل المتاحة من الغاز الطبيعي.
- إيجاد حلول وخطط بديلة أو تطوير مصادر بديلة وآمنة، وهو الأمر الذي سيتطلب توافر الخبرة التقنية والجيوسياسية والمالية والمزيد من الاستثمار والتعاون العالمي، وستحتاج الدول إلى العمل بشكل قوي مع شركات النفط والغاز الطبيعي، لإعادة تشكيل نظام الطاقة في المستقبل وطرق استخدام المستهلكين والصناعات للطاقة.
- تضافر الجهود العالمية المتمثلة في ضرورة السحب من المخزونات الاستراتيجية النفطية التي يبلغ حجمها أكثر من حوالي ٤٬٥ مليارات برميل من النفط الخام.
- استخدام الطاقة الإنتاجية غير المستغلة للعديد من دول العالم.
مجمل القول، الحرب الروسية الأوكرانية أعادت صياغة المشهد العالمي بأكمله ورسم خريطة الطاقة العالمية وتشير إلى عهد جديد يتأثر فيه تدفق النفط بالتنافس الجيوسياسي بقدر تأثره بمبدأ العرض والطلب نفسه؛ فعلى مدى نصف القرن الماضي تدفق النفط والغاز الطبيعي بحرية واضحة إلى مختلف الأسواق العالمية وبلغ مستويات قياسية، ولكن ذلك انتهى مع توغل دبابات موسكو على الأراضي الأوكرانية.
وبعد نصف عام تقريبًا من الحرب وما أعقبه من عقوبات اقتصادية ضد موسكو، لايزال العالم يترقب مآلات الحرب وتبعاتها والتي بات واضحًا بأنها لن تقتصر على موسكو وكييف فقط، بل امتدت إلى جميع دول أوروبا والتي تشهد للمرة الأولى حربًا على أراضيها منذ الحرب العالمية الثانية. وفي الأخير وبعد ٦ أشهر من الحرب، يمكننا القول إن الرئيس الروسي أثبت أن قصة النفط والغاز الطبيعي لم تنتهِ، وكتب بوتين فصلًا جديدًا في تاريخ صناعة الطاقة العالمية.
دكتور مهندس متخصص في شؤون النفط والطاقة