السودان

عامل الوقت: سياق وأبعاد استئناف العلاقات السودانية الإيرانية

رغم التطلعات السودانية لإعادة صياغة سياسة خارجية متوازنة، تبعد عن نمط الاستقطاب وسياسات المحاور، التي انتهجها نظام الرئيس المعزول البشير، إلا إن التحديات التي يمر بها الانتقال السياسي المتعثر والتيأدخلته في صراع عسكري مسلح؛ ألقت بظلالها كذلك على الحسابات السياسية والاستراتيجية. 

ولعل جنوح السودان في الوقت الراهن نحو استئناف العلاقات مع إيران، يعد أحد الشواهد على توظيف السياق الراهن في دعم حسابات الصراع، خاصة وأن تلك الخطوة لا تأتي في السياق الطبيعي للانفتاح على إقامة سياسة خارجية منفتحة ومتعددة، بقدر ما أتت من نافذة التوظيف الإيراني للصراع؛ بما يتعارض مع خطط الانتقال السياسي السوداني، وفقًا للحسابات الأمريكية.

تاريخ العلاقات

بعد فترة الاستقلال كان هناك تقارب إيراني مع السودان في عهد الشاه رضا محمد بهلوي الذي كان متحالفًا مع الغرب، وكانت العلاقات مدفوعة بمواجهة المدّ الشيعي، إلى أن قامت الثورة الإيرانية 1979 وسعي نظام الخميني لتصدير الثورة الإسلامية، فقطع الرئيس جعفر النميري العلاقات مع إيران، إذ كان مواليًا للغرب وانحاز إلى العراق خلال الحرب الإيرانية العراقية، إلى أن سقط نظامه 1985، فعادت العلاقات مرة أخرى وفتحت إيران المركز الثقافي في الخرطوم، ووطدت العلاقات مع حكومة الصادق المهدي، مما مهد الطريق أمام تقارب البلدين.

كان هناك تقارب أيديولوجي بين النظام الثوري الإيراني بقيادة الخميني ونظام عمر البشير اللذين قاما على أساس مذهب ديني، إذ أسس الأخير ميليشيا الدفاع الشعبي التي أقامت علاقات مع الحرس الثوري الإيراني وتلقت تدريبات في إيران خلال فترة التسعينيات، مقابل التسهيلات التي منحها السودان لإقامة قاعدة عسكرية إيرانية لا تزال تتطلع إليها طهران إلى الآن. كذلك تشير الأدلة إلى دعم إيران لقطاع إنتاج الأسلحة، مما أثار حفيظة الجانب الإسرائيلي، الذي قام بضرب مجمع اليرموك للصناعات العسكرية في قلب العاصمة الخرطوم عام 2012.  

وتبادل رؤساء البلدين الزيارات، إذ زار البشير طهران عقب وصوله للحكم، وزار الرئيس محمد خاتمي الخرطوم في التسعينات، وتنامت العلاقات حتى وقعا الطرفان اتفاقية للتعاون العسكري عام 2008، كنتاج للتقارب الأيديولوجي الذي لم يسهم في تنامي العلاقات الاقتصادية بقدر ما انعكس على العلاقات العسكرية والأيديولوجية، التي تمثلت في التعاون بين الحرس الثوري الإيراني وقوات الدفاع الشعبي، وفي إبراز التأييد السوداني للبرنامج النووي. 

وقدم البلدان الدعم والتأييد لبعضهما، إذ أعلن البشير تأييده للبرنامج النووي الإيراني فيما أدانت طهران مذكرة الاعتقال التي صدرت بحق البشير من المحكمة الجنائية الدولية عام 2009. وفي عام 2011 زار الرئيس محمود أحمدي نجاد الخرطوم، وفي ذات العام زار الرئيس عمر البشير طهران، تلاه الحديث عن إنشاء قاعدة بحرية إيرانية.

 وشهد العقد الماضي تنامي الحضور الإيراني في منطقة القرن الأفريقي بشكل عام وفي السودان بشكل خاص، مما أثار المخاوف الغربية، التي اتهمت السودان بمساعدة إيران في نقل الأسلحة لحماس عبر أراضيها. وتوطدت العلاقات بين البلدين في أعقاب حرب الخليج الأولى، تحديدًا مع بداية حقبة البشير، إذ أرادت طهران إيجاد موطئ قدم لها في المحيط الإقليمي وعلى البحر الأحمر وكذلك مدخل لها للقارة الأفريقية، فيما نظرت إليها الخرطوم كحائط صدّ أمام الاعتداءات الإسرائيلية. 

ورغم هذا التقارب الإيديولوجي والعسكري، إلا أن السودان تخوف من المدّ الشيعي في البلاد، فتم إغلاق المراكز الثقافية الإيرانية عام 2014، وكانت هذه هي بداية التوتر في العلاقات، وبعد عقود من التقارب بين النظامين، حلت القطيعة خلال العام 2016، على خلفية الهجوم الذي تعرضت له السفارة السعودية في طهران، وفي سياق حرب اليمن التي انحاز فيها البشير إلى التحالف العربي، مما استدعى قطع العلاقات مع طهران. 

وكان السودان يأمل من فك الارتباط مع إيران في رفع العقوبات الأمريكية والخروج من عزلته الإقليمية خاصة مع تدهور علاقاته مع الخليج بعد دعمه للغزو العراقي للكويت 1990 وفي إسقاط اتهامات المحكمة الجنائية الدولية، التي ظلت قائمة حتى سقوط نظامه في 2019، وكذلك رغبته في الحصول على الدعم السعودي للاقتصاد السوداني، وقد أعلن السودان في 2016 عن تلقيه وديعة سعودية بقيمة مليار دولار في البنك المركزي السوداني بهدف دعم الاحتياطي النقدي السوداني. 

استعادة التوازن الإقليمي

منذ سقوط نظام البشير وبدء المرحلة الانتقالية السودانية المتعثرة، وهناك رغبة في استعادة التوازن للعلاقات الخارجية السودانية كجزء من إعادة صياغة نظام الحكم، بعد عقود من التناقضات والاختلالات التي اتسم بها نمط العلاقات السودانية الخارجية، في ظل سياسة الاستقطاب والمحاور التي قامت عليها سياسة البشير خلال سنوات حكمه.

لكن حالة الاضطراب التي شهدتها المرحلة الانتقالية السودانية واستمرار القطيعة الإقليمية مع إيران، لم توفر لحظة مواتية لاستئناف العلاقات على مدار السنوات الماضية، ورغم الحالة الثورية الراغبة في القطيعة مع كافة سياسات البشير ساهمت حالة الهشاشة التي تمر بها السودان في إرجاء الحديث عن أي تقارب؛ خاصة مع الضغط الأمريكي في توجيه بوصلة السياسة السودانية بعد البشير، في المشروطية التي ربطت بين التقارب الإسرائيلي السوداني مقابل رفع السودان من قوائم الدول الراعية للإرهاب.

وفي الوقت الذي تشهد فيه إيران تنامي الضغوط الغربية وتعثر التقدم في الاتفاق النووي الإيراني، واخفاق الترتيبات الانتقالية السودانية الأمر الذي تجمدت معه خطط التطبيع الإسرائيلي ورفع العقوبات الأمريكية كاملة، فإن العلاقات باتت أمام مسارين؛ إما استئناف العلاقات مع تجاهل التحفظات الغربية والمصالح الإقليمية، بما يجعلها علاقات مثيرة للجدل، أو الانخراط ضمن ترتيبات إقليمية أوسع مع إيران، تتم فيها مراعاة المصالح الإقليمية للدول المحيطة، بما فيها العربية خاصة المصرية الحليف الاستراتيجي للسودان؛ مما يمنح السودان مسارات متعددة وبدائل للسياسة الخارجية، بعيدًا عن الضغوط الغربية في إعادة توجيه ورسم السياسات السودانية.

ففي السابق استطاع البشير توظيف المشاعر المعادية للغرب في التقارب مع إيران، وربما هذا التضامن في الوقت الراهن قد يسهم في تضييق الخناق الأمريكي على السودان مرة أخرى فيما يتعلق بمستوى التقدم في التطبيع الإسرائيلي مقابل إعادة دمج السودان في النظام الدولي، حال أرادت إثنائه عن التقارب مع إيران، إذ من غير الممكن أن يتجاهل السودان التوجس الإقليمي من إيران، خصوصًا في ظل حالة الهشاشة التي يمر بها؛ وهو ما يمكن أن ينعكس أيضًا على مسار جدة برعاية سعودية أمريكية. 

وتشهد الفترة الأخيرة تنامي العلاقات الإيرانية الأفريقية، مما يجعل السودان كبوابة إيران إلى أفريقيا، خاصة وأن هناك توجه إيراني بتوثيق علاقاتها الأفريقية، إلا أن اضطراب الأوضاع لا يمثل لحظة مواتية لإقامة علاقات متوازنة، مما يجعل أي تقارب خارجي في الوقت الراهن قد يدفع انخراط القوى الخارجية في إعادة توجيه وصياغة المعادلة السياسية لصالح تحقيق مصالحهم، وهو الأمر الذي يحكم اتجاهات التدخل لصالح أيًا من طرفي الصراع. 

لكن تثير هذه العودة للسودان مخاوف من انتهاز إيران للحظة الراهنة لتوظيف الصراع مما يسهم في زعزعة الاستقرار، بدلًا من تحقيق الاستقرار الإقليمي، وربما قد يكون هذا التخوف أحد دوافع فتح قنوات اتصال رسمية مع الجانب الإيراني، تجنبًا لانخراطه في الصراع بما يؤجج الموقف.

ويأتي هذا الانفتاح في العلاقات بعد فترة من الفتور شهدتها البلدين، لكن منذ قدوم الرئيس إبراهيم رئيسي للسلطة وهناك رغبة في الانفتاح الدبلوماسي، بما في ذلك على القارة الأفريقية، إذ قام بجولة خارجية شملت ثلاث دول أفريقية هي كينيا وأوغندا وزيمبابوي في يوليو الماضي. كما قام وزير خارجيته بزيارات إلى مالي وتنزانيا وجنوب أفريقيا والنيجر.

توظيف اللحظة الصراعية 

بعد سبعة سنوات من القطيعة، أعلن البلدان عن استئناف العلاقات بينهما خلال اللقاء الذي جمعهما على هامش قمة حركة عدم الانحياز في يوليو الماضي، وذلك بعد اتفاق استئناف العلاقات السعودية الإيرانية بوساطة صينية في مارس 2023، مما مهد الطريق أمام استئناف العلاقات السودانية الإيرانية.

فأعلن وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان عن لقاء جمعه بنظيره السوداني علي الصادق على هامش قمة حركة عدم الانحياز في يوليو الماضي، اتفقا خلاله على سبل استئناف العلاقات بين البلدين بعد قطيعة دامت لسبع سنوات، عقب اتخاذ السودان قرارًا بقطع العلاقات مع إيران عام 2016، بعد عقودًا من التقارب بين البلدين، وذلك على وقع الهجوم الذي تعرضت له السفارة السعودية في طهران.

وفي أكتوبر الماضي، أعلنت الخارجية السودانية عن استئناف العلاقات مع إيران، بعد عدد من الاتصالات رفيعة المستوى التي تمهد لتطوير العلاقات وتعزيز التعاون في مختلف المجالات بين البلدين. وهو أمر يثير التساؤلات حول الدوافع والمصالح التي ترغب من ورائها البلدين التقارب في ظل هذه اللحظة الحرجة التي تمر بها الدولة السودانية. 

وفي يناير 2024، التقى الوزير علي الصادق بمحمد مخبر النائب الأول للرئيس الإيراني، وذلك على هامش قمة عدم الانحياز المنعقدة في كمبالا بأوغندا؛ إذ جددا الاتفاق على بحث سبل استئناف العلاقات بين البلدين، وسبل التنسيق على المستوى الإقليمي.

وتزامنت تلك التحركات مع مؤشرات أخيرة على توظيف الجيش السوداني للطائرات الإيرانية المسيرة من طراز ” مهاجر 6″، التي رصدتها الأقمار الصناعية بقاعدة وادي سيدنا بأم درمان، وفق الكثير من التقارير الإخبارية. وهو الحال الذي يلقي بظلاله على ساحة الصراع، الذي يطول أمده وتتعقد أبعاده، مع التوظيف الخارجي للصراع. 

وإذ كانت السودان في الماضي تمثل عامل جذب بالنسبة لإيران من حيث الانخراط في عقود التنقيب عن النفط بمشاركة الصين، فإن أي تطوير للعلاقات الاقتصادية قد لا يبتعد عن هذا المجال، إلى جانب إمكانية انخراط إيران المستقبلي في مشاريع البنية التحتية بما في ذلك الموانئ والسكك الحديدية، مما يجعل الرغبة في الاستثمار في دول شرق أفريقيا مدخلًا لمزيد من الحضور الإيراني في شرق القارة، بعدما تنامى حضورها في الغرب الأفريقي. 

والأمر الذي يتعين أخذه في الاعتبار عند الحديث عن استئناف العلاقات السودانية الإيرانية، هو شكل وطبيعة ومستقبل هذه العلاقة، إذ إن الواقع الراهن يشير إلى تغير السياق والمصالح، ففي السابق كانت إيران تعتمد على التقارب الأيديولوجي مع نظام البشير في ظل حالة من العزلة الإقليمية، التي يمثل خروجها منها مخرج يطرح أمامها بدائل إقليمية متعددة في السياق الأفريقي بعيدًا عن السودان، كما أن حالة الضغوط الاقتصادية التي تشهدها إيران يجعلها توظف علاقتها الدبلوماسية من أجل تحقيق مكاسب اقتصادية بدلًا من السياسات التاريخية التي كانت تستخدم فيها الدعم الاقتصادي لتحقيق أهداف سياسية وأيديولوجية، مما يفقد السودان مدخلًا للمساعدات في وقت تحتاج فيه لإعادة بناء البلاد.

وعلى الجانب السوداني كذلك، لا بد من وضع تساؤلات وتصورات عن شكل التوازنات في السياسة الخارجية المستقبلية، حتى يتم الإجابة على تساؤل مفاده: كيف تدير السودان سياسة خارجية متوازنة ومتعددة الأطراف، دون الانحياز ودون تضارب واستقطاب ودون توظيف لذلك الاستقطاب. 

في الأخير، يؤشر هذا الوضع على التحولات في الميزان الاستراتيجي للسودان، الذي بدأت الحرب تعيد حساباته في صياغة علاقاته الإقليمية والدولية، خاصة بعدما اتجهت الولايات المتحدة للضغط عليه بالعقوبات، مما يفهم منه تخلي المؤسسة العسكرية السودانية عن خطط التطبيع مع إسرائيل، ولو مؤقتًا، لصالح خطط دعم متعدد الأشكال تحتاجه السودان فعليا، أو ربما قد نتصور وجود عقلية سودانية قائمة على صناعة القرار، لديها القدرة والرغبة في اللعب على التناقضات وتوظيف كافة الأوراق التي من خلالها يمكن إقامة علاقات متناقضة مع أحلاف ومحاور متناقضة؛ مثلما كان الحال في نظام البشير. وهي حالة تفرض على شركاء المصلحة التأهب لواقع تفرضه حسابات الصراع، يجهض كافة الآمال التي كانت معقودة على إحداث حالة من التغيير في نمط السياسة الخارجية التي كان يتبناها نظام البشير. 

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

شيماء البكش

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى