
السودان بعد عامين من الحرب .. ماذا حدث؟
مع مرور عامين على الحرب في السودان بين قوات الجيش الوطني السوداني وميليشيا الدعم السريع، في ظل حالة عدم اليقين والتوترات التي يشهدها الشرق الأوسط، والتي تزيد من تفاقم أزمات المنطقة، فيما يعيش السودان أكبر أزمة اقتصادية وإنسانية وسط تعرضها لأكبر أزمة نزوح في العالم، حيث وصلت التقديرات إلى نزوح ما يقرب من 14 مليون شخص سواء نزوح داخلي أو خارجي، بجانب التقديرات الأممية حول الوصول إلى أزمة الجوع في السودان، تشهد السودان حاليًا تغير في شكل السيطرة على الأرض من خلال استعادة قوات الجيش للعديد من مناطق السيطرة من يد الدعم السريع؛ مما يضعنا أمام أهمية التعرف على حدود التأثير ومستقبل الأزمة الحالية في السودان.
بداية الأزمة:
اندلع النزاع في السودان في 15 أبريل 2023، بين ميليشيا الدعم السريع والجيش السوداني عقب عدة سنوات من إطاحة الشعب السوداني بنظام الرئيس عمر البشير في أبريل 2019، ووقوف الجيش السوداني بجانب المظاهرات الشعبية. وفي أغسطس من نفس العام تم التوقيع على إتفاقية انتقال السلطة، وتم تعيين عبد الله حمدوك كرئيسا للوزراء، أعقبها توقيع إتفاق جوبا للسلام 2020 بين السلطات السودانية الانتقالية والحركات المسلحة والتي تقتضي بضم الحركات المسلحة تحت مظلة الجيش الوطني الموحد للعمل على إنهاء الحرب الأهلية السودانية وتوحيد حاملي السلاح تحت لواء الدولة.
وفي أكتوبر 2021 بدأ الإنقسام داخل السلطات الإنتقالية، حول الخلاف على إجراء الانتخابات وتنفيذ شروط المرحلة الإنتقالية، بين المكون المدني والعسكري للسلطة الانتقالية، وقاد البرهان ما أسماه أنذاك حركة تعديل المسار وأسمته القوى المدنية ممثلة في “قوى الحرية والتغيير” بالإنقلاب على السلطة وبسبب التظاهرات تم توقيع إتفاق إطاري عام 2022 حددت عامين كفترة إنتقالية للحكم المدني، وحل كافة القوى والمجموعات العسكرية، وتعيين حكومة مدنية، إلا أنه في 5 أبريل 2023 تم تأجيل توقيع الاتفاق النهائي للمرحلة الانتقالية للمرة الثانية، وكان الخلاف الأكبر حول فترة دمج الحركات المسلحة تحت مظلة الجيش السوداني ونزع السلاح، وهو الأمر الذي رفضه قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي”، نتيجة الخلاف حول قيادة قوات الجيش، والجدول الزمني المحدد لدمج الدعم السريع داخل القوات المسلحة السودانية النظامية، وفي 15 أبريل 2023 اندلعت الهجمات بين طرفي الصراع وسط تبادل الإتهامات دون معرفة من بدأ القتال، حتى أعلن عبد الرحيم دقلو القائد الثاني للدعم السريع والي تولى قيادته عقب اختفاء محمد حمدان دقلو، بأنه كان عليهم عندما بدأوا الحرب الزحف تجاه الولاية الشمالية ونهر النيل، بدلًا من العاصمة.
خريطة الصراع:
على مدار العامين تغير حجم السيطرة الميدانية بين الجيش الوطني السوداني والدعم السريع، للحد الذي تغير فيه مقر الحكم إلى مدينة بورتسودان في شمال شرق السودان، لتكون مقرًا للحكومة الإنتقالية بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، الذي يشغل منصبي قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة الانتقالي، وتمركز الدعم السريع في دارفور مع تغير شكل الحرب للحد الذي تم وصفه بالحرب الأهلية القبلية، وصولًا إلى تمكن قوات الجيش من استعادة العاصمة الخرطوم مارس 2025.
تأرجحت حالات التقدم والإنسحاب بين الطرفين على مدار السنوات السابقة، فتمركز الجيش السوداني في شمال شرق السودان واتخذ بورتسودان مقرًا للحكومة، فيما تمركز الدعم السريع في إقليم دارفور، وكانت مدينة ود مدني بولاية الجزيرة هي نقطة تحول الصراع بين الطرفين، وحاول الدعم السريع السيطرة على الحدود مع ولايات الجنوب مما جعل لها تواجد في ولايات الجزيرة والنيل الأبيض والقضارف، حتى استطاعت السيطرة على ود مدني في ديسمبر 2023 بعد خروج قوات قيادة الفرقة الأولى منها، مما أسفر عن نزوح العديد إلى ولاية سنار.
ومع بداية العام الحالي، استطاع الجيش السوداني استعادة السيطرة على العديد من الأماكن التي احتلتها قوات الدعم السريع لنحو أكثر من عام، فاستطاعت استعادة مدينة ود مدني، والتي لها أهمية جيوسياسية في الربط بين خمس ولايات وأقرب المدن للعاصمة الخرطوم، لتنضم إلى ولايات سيطرة الجيش السوداني الممثلة في ولايات البحر الأحمر وكسلا والقضارف والشمالية وسنار بالكامل واستعادة السيطرة على ولاية الجزيرة وولايتي النيل الأزرق والأبيض وكردفان مقابل سيطرة الدعم السريع على عدة ولايات بإقليم دارفور، حتى استطاع الجيش السوداني إحكام السيطرة على العاصمة الخرطوم عقب سلسلة من الهزائم التي تلقاها الدعم السريع على مدى 4 أشهر متواصلة وخروج الدعم السريع من أخر معاقله في منطقة “الصالحة” ذات الأهمية الاستراتيجية لهم والتي تقع جنوب غربي مدينة أم درمان.
تعود سيطرة الجيش السوداني نتيجة لإعادة تنظيم صفوفه، وتفوق سلاح الجو للجيش السوداني، وتحالف العديد من القوى العسكرية في البلاد وانفصال عدد من أعضاء الدعم السريع وإنضمامهم إلى صفوف القوات المسلحة السودانية، مع النجاح في تحجيم “وليس إنهاء” الدعم العسكري الذي كانت تتلقاه ميليشيا الدعم السريع عبر الحدود، وهو ما دعا الجيش السوداني الأطراف الدولية بعدم التدخل لدعم أحد الأطراف للوصول إلى حالة الاستقرار المأمول، هذا فيما أعلنت الولايات المتحدة فرض عقوبات على القائد العام للدعم السريع في يناير الماضي وعدد من الشركات التابعة له لارتكاب عمليات إبادة جماعية، وأعقبها إعلان وزارة الخزانة الأمريكية توقيع عقوبات مماثلة على الفريق البرهان نتيجة استهداف المدنيين، وهو ما أدانته الخارجية السودانية واعتبرته تساوٍ من الإدارة الأمريكية السابقة بقيادة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن للتعامل مع القوات النظامية وميلشيات الدعم السريع.
الحل السياسي:
يمكن إرجاع هذا الرفض وراء فشل المفاوضات السياسية والحل السياسي من قبل عبد الفتاح البرهان، على مدار العامان الماضيان، ورفض الجلوس مع قادة الدعم السريع على طاولة المفاوضات قبل استعادة السيطرة العسكرية على كافة المدن التي سيطر عليها الدعم السريع وعدم قبول أي تفاوض دون الانسحاب الكامل للدعم السريع بقيادة دقلو من كافة المناطق التي تسيطر عليها عسكريًا، مما أدى إلى طول أمد الحرب.
ولعل استعادة الجيش السوداني لعدد من الأراضي نتيجة التفوق الجوي والأسلحة الحديثة التي يستخدمها مقابل الانسحاب الاضطراري للدعم السريع من بعض المناطق قد يدعم استمرار الموقف اللا تفاوضي دون انسحاب الدعم السريع من كافة أراضي السيطرة.
فمنذ إندلاع الأزمة في السودان 15 أبريل 2023، دخلت البلاد في عدة هدن هشة، باستثناء الهدنة الأولى من نفس الشهر لإجلاء الأجانب وعمل ممرات آمنة، والتي ساهمت مصر فيها بشكل كبير واستقبلت عبر حدودها الكثير من النازحين الأجانب والسودانيين، بجانب حالات الاختراق للعديد من الاتفاقيات وعدم التنفيذ من طرفي النزاع؛ نتيجة خرق “الدعم السريع” للاتفاق، أو عدم موافقة الجيش السوداني بقيادة رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان للدخول في تفاوض أو التساوي مع الدعم السريع.
وذلك بداية من اتفاق جدة في مايو 2023 برعاية أمريكية سعودية، ومؤتمر القاهرة لدول الجوار لدعم السودان في يونيو من نفس العام، ووضع حلًا أكثر شمولًا، وتجميع الكيانات المدنية في القاهرة والخروج بالوثيقة الوطنية لحل الأزمة في مايو 2024، ومؤتمر القوى السياسية والمدنية السودانية بالقاهرة يوليو من نفس العام، هذا بجانب مبادرات “الإيجاد” التي رفض الجيش السوداني طرحها لمسارات الخروج من الأزمة ووقف الحرب، بالإضافة إلى انعقاد اجتماعات جنيف بقيادة أمريكية من أجل الوصول إلى ممرات إنسانية وفتح معابر جديدة لإدخال المساعدات الإنسانية، إلا أن انتهاكات “الدعم السريع” قد حالت دون تحقيق أي اتفاقات، وفي ديسمبر 2024 رحبت الخارجية السودانية بدعوات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإطلاق مبادرة تركية لحل النزاع، عقب صدور قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يدعو لوقف العنف في السودان في مارس 2024، والدخول في مفاوضات مباشرة برعاية تركية ليبية والتي لم تنجح أيضًا.
وفي فبراير 2025، أعلن البرهان إدخال تعديلات على الوثيقة الدستورية وتشكيل حكومة كفاءات إنتقالية برئاسة رئيس وزراء تكنوقراط يعقبها تنظيم انتخابات حرة بنهاية الفترة الانتقالية، مقابل إعلان الدعم السريع وعدد من القوى السياسية المعروفة بتنسيقية “تقدم” خلال اجتماعات استضافتها كينيا بالإعلان عن توقيع إتفاق لتشكيل حكومة موازية، وهو ما رفضته الخارجية السودانية وأدانت الحكومة الكينية التي تسعى إلى تقسيم وانتهاك سيادة الدول، فيما أعرب ستيفان دوجاريك، المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، عن قلقه من هذا الإعلان الذي سيزيد من تفاقم الأزمة وانقسام السودان، مؤكدًا أن وحدة السودان وسيادته هو العنصر الأساسي للحل الدائم، كما أدى هذا الإعلان إلى وجود إنقسامات سياسية داخلية بين القوى المدنية، كما عبرت العديد من الدول الإقليمية والقوى الدولية عن رفضها لهذه الخطوة.
مستقبل الحل:
في ظل السيطرة العسكرية لقوات الجيش واستعادة السيطرة على عدد من الولايات السودانية، وعدم وضوح أفق الحل السياسي، فإن الحاجة للتوصل إلى استقرار سوداني بات واضحًا في ظل الأزمات الاقتصادية والإنسانية التي تلوح في الأفق.
فعلى على المستوى الاقتصادي، حدد تقرير أممي وجود إنكماش في حجم الاقتصاد السوداني بنحو 12,6% عام 2024، مع توقع انخفاض حجم التضخم إلى 80,5% عام 2025 بعد أن وصل إلى 119.4% عام 2024، حال التوصل إلى حل واستعادة الاستقرار.
كما يعيش السودان أكبر أزمة إنسانية في العالم فوفقًا لمتتبع الصراعات العالمي CFR Global conflict tracker اختلفت التقديرات حول عدد القتلى التي وصلت إلى 150 ألف شخص منذ بدء الصراع ونزوح أكثر من 14 مليون شخص.
وفي ضوء ما سبق فإن سيناريو استعادة سيطرة قوات الجيش السوداني على الأراضي السودانية، سيخلق واقع سياسي يستطيع مجلس السيادة منه التوصل إلى عملية انتقالية، مع توقع أن يلقى قبولًا دوليًا وإقليميًا، في ظل حالة الترقب الإقليمي للقوى المسيطرة على الوضع، فيما كان الموقف المصري واحدًا تجاه حل الأزمة السودانية بدعم استقلال واستمرار سيادة الدولة السودانية، وهو ما ظهر في دعم إعادة عضوية السودان بالاتحاد الأفريقي بعد تعليق عضويتها لمدة 3 سنوات منذ 21 أكتوبر 2021، بمبادرة مصرية منذ تولي مصر رئاسة مجلس السلم والأمن الأفريقي في أكتوبر 2024، وبالتالي عودة الاتحاد الأفريقي لتبني ودعم ومراقبة وصول المساعدات الإنسانية لمناطق التضرر ووقف إطلاق النار ومنع التقسيم الداخلي، وعودة المرحلة الانتقالية مع الاعتراف بمؤسسية الدولة والممثلة في حكومة مجلس السيادة، مع ضمان تحقيق الاستقرار لضمان عودة النازحين، والوصول إلى حكومة موحدة دون تهميش أي فصائل، مع إنهاء تجميد عضوية السودان في مجموعة “الإيجاد”.
ختامًا، يسهم تنفيذ هذا السيناريو في التوصل إلى حل سياسي، والوصول إلى حكومة انتقالية مدعومة إقليميًا ودوليًا، والعودة إلى طاولة المفاوضات بشروط تتضمن التأكيد على وحدة السودان وسلامة أراضيه، وهي الرؤية التي تدعمها القاهرة، على أن تكون تحت مظلة أفريقية لمراقبة الاتفاق. ذلك مع وضع سياسات لتعميق الاستقرار ودعم سبل التنمية المستدامة عبر إعادة البنية التحتية وتوزيع الأرباح والتكاليف لضمان عدم التحول لصراع على الموارد داخليًا، بجانب تنوع التعاون الاقتصادي الإقليمي والدولي، مع ضمان وجود تمويل دولي لاستدامة الاستقرار وضمان عودة النازحين.
باحثة بالمرصد المصري