السودان

هل ينتقل وقف إطلاق النار من غزة إلى السودان؟

مع التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة وبداية تنفيذه يوم 19 يناير 2025، كانت هناك حرب أخرى سُمّيت إعلاميًا بالحرب المنسية لعدم تسليط الضوء عليها وهي الحرب في السودان. وفي ظل حالة عدم اليقين الذي تعيشها المنطقة العربية، يمكننا تسليط الضوء على الوضع في السودان، وكيف يمكن أن يصل السودان أيضًا إلى نوع من الاستقرار بعد سنوات من الاضطرابات خلّفت نتائج كارثية على مختلف المستويات.

أولاً التأثير العالمي وعلى المنطقة: تناول موجز التقرير السنوي للإسكوا (لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا) حول تأثير النزاعات والحروب على الاقتصاد في المنطقة، تأثير العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان والأراضي السورية، وأنه قد يؤدي إلى تحقيق نمو بطيء في إجمالي الناتج المحلي الإجمالي يصل إلى 2.5% عام 2024، مع توقع أن يتسارع النمو بنحو 3,9% عام 2025، ثم العودة إلى نسبة 3,7% عام 2026. مع تحديد مصر والأردن كأكثر الدول تأثرًا بالحروب الإقليمية نتيجة تأثر الحركة في قناة السويس في مصر وحركة السياحة وتدفق رؤوس الأموال في الأردن، ولكن الاعتماد على الغاز والفوسفات هو ما سيسهم في تحقيق نمو للدول متوسطة الدخل. ونتيجة التغيرات المناخية وارتفاع أسعار الفائدة وتهديدات التجارة العالمية والكوارث المناخية، فلن يتجاوز حجم النمو العالمي 2.7% عام 2024.

كما أثرت الهجمات في البحر الأحمر من قبل الحوثيين نتيجة الأوضاع في غزة على حجم إنتاج النفط، فأوضح التقرير أن قرار منظمة الأوبك بخفض الإنتاج في النصف الثاني من عام 2023، جاء نتيجة استمرار حجم الطلب يزيد عن المعروض. ومع الركود العالمي في النصف الثاني من عام 2024 نتيجة تلك الهجمات، أدى ذلك إلى زيادة اعتماد دول مجلس التعاون الخليجي على زيادة استثماراتها في القطاعات الهيدروكربونية؛ للعمل على زيادة حجم نمو اقتصاديات تلك البلدان.

ومن المتوقع أن يعيش أكثر من 34% من سكان المنطقة العربية تحت خط الفقر خلال الفترة من 2024 – 2026، نتيجة الأوضاع المالية العالمية وارتفاع تكاليف التمويل، وتعرض البلدان للخطر بسبب الحروب والنزاعات وتأثيرها على عملية النزوح، وبالتالي قدرة البلدان على تحمل تكلفة الدين.

ثانيًا التأثير على دول الصراع: حدد التقرير ذاته الذي نشرته الأمم المتحدة انكماش حجم الاقتصاد في لبنان نحو 1.9% عام2024، وفي فلسطين انكمش بنحو 13,3%، وفي السودان 12,6% عام 2024.  ومع توقع تحسن الأوضاع في غزة والسودان، فمن المتوقع أن تنكمش تلك الاقتصادات بنحو 0,1% عام 2024 قبل أن تحقق معدلات نمو تصل إلى 3% عام 2025، 3.4% عام 2026، من خلال تقليل تهديدات النفط، وخفض كلفة الشحن. مع توقع انخفاض حجم التضخم إلى 5,3% عام 2025، مقارنة بنحو 6.7% عام 2024 في فلسطين، وفي السودان يصل إلى 80,5% عام 2025 بعد أن وصل إلى 119.4% عام 2024.

أظهرت الأوضاع الاقتصادية المتردية وعدم الاستقرار السياسي والأمني وتأثيرها على دول النزاع أو الجوار أو اقتصاديات الدول منخفضة ومتوسطة وعالية الدخل في المنطقة، وامتداد أثرها إلى العالم أجمع؛ الحاجة إلى التكاتف للوصول إلى حل للأزمات الحالية، والتي في حال نجاحها ستسهم في تحقيق استقرار في ظل حالة عدم اليقين التي كانت تعيشها المنطقة، ومنها احتمالية عدوى الهدوء وانتقاله من الوضع في غزة وانعكاسه على الهدوء الحذر من حركة الحوثي في البحر الأحمر، بجانب تسليط الضوء على الحرب في السودان ومحاولة التوصل إلى وقف إطلاق النار على غرار ما حدث في غزة، وعدم المضي في الحلول العسكرية “غير المنتهية”، ولكن هناك بعض التحديات التي قد تعيق هذا الأمر؛ ومنها:

الاتفاقات الهشة: فمنذ اندلاع الأزمة في السودان 15 أبريل 2023، دخلت البلاد في مراحل هدن هشة عدة، باستثناء الهدنة الأولى من نفس الشهر لإجلاء الأجانب وعمل ممرات آمنة، والتي ساهمت مصر فيها بشكل كبير واستقبلت عبر حدودها الكثير من النازحين الأجانب والسودانيين كذلك. فيما تعرض العديد من الاتفاقيات للخرق وعدم التنفيذ من طرفي النزاع؛ نتيجة خرق “الدعم السريع” للاتفاق، أو عدم موافقة الجيش السوداني بقيادة رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان للدخول في تفاوض أو التساوي مع الدعم السريع.

وذلك بداية من اتفاق جدة مايو 2023 برعاية أمريكية سعودية، ومؤتمر القاهرة بعنوان “دول الجوار لدعم السودان” يونيو 2023، والذي حاول  أن يضع حلًا أكثر شمولية، وتجميع الكيانات المدنية في القاهرة والتي خرجت بـ “الوثيقة الوطنية” لحل الأزمة في مايو 2024، وأعقبها مؤتمر القوى السياسية و المدنية السودانية بالقاهرة يوليو من نفس العام، هذا بجانب مبادرات “الإيجاد” التي رفض الجيش السوداني مبادئ الاتفاقية بدعم مفهوم وجود قوات من دول شرق فريقيا في السودان لمنع التدخلات الخارجية. ومع انعقاد اجتماعات جنيف الاخيرة كذلك من أجل الوصول إلى ممرات إنسانية وفتح معابر جديدة لإدخال المساعدات الإنسانية، إلا أن انتهاكات “الدعم السريع” قد حالت دون تحقيق أي اتفاقات.

الحل العسكري والعقوبات الدولية: لعل أكبر تحدٍ حاليًا يكمن في التعامل بالمثل مع طرفي النزاع، وهو الأمر الذي يرفضه رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإنهاء الصراع، من خلال مطالبته عدم قبول أي تفاوض حول إنهاء العمليات العسكرية دون انسحاب الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو(حميدتي) من كافة المناطق التي تسيطر عليها عسكريًا، والذي تؤدي حالات تبادل الهيمنة العسكرية بين الطرفين إلى طول أمد الحرب.

ولعل استعادة الجيش السوداني لعدد من الأراضي نتيجة التفوق الجوي والأسلحة الحديثة التي يستخدمها مقابل انسحاب وصفه البعض بالتكتيكي من الدعم السريع فيما يبدو أنه انسحاب اضطراري من بعض المناطق قد يدعم اصرار الجيش السوداني على عدم الجلوس للتفاوض غير بانسحاب كامل للدعم السريع من أراضي السيطرة، ولعل آخرها مدينة “ود مدني” التي سيطر عليها الجيش السوداني باعتبارها مدينة استراتيجية محورية بين خمس ولايات وبها مشروع الجزيرة الزراعي والأقرب إلى العاصمة، وعلى طريق مرور المسعدات الإنسانية. هذا بجانب تطبيق الولايات المتحدة خلال إدارة الرئيس السابق جو بايدن عقوبات مماثلة على طرفي الحرب، من خلال فرض عقوبات على “حميدتي” باتهامه بارتكاب جرائم إبادة جماعية، وبعدها بأسبوع تم توقيع عقوبات من الخزانة الأمريكية على الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وهو ما رفضته الإدارة السودانية وعقّد احتمالية الرضوخ لتلك العقوبات والاستمرار في الموقف اللا تفاوضي، وهو ربما سيتغير بعد وصول “ترامب” إلى البيت الأبيض.

مع دخول اتفاق وقف إطلاق النار في غزة حيز التنفيذ، ومحاولات إدارة ترامب اتخاذ خطوات أكثر سعيًا لإنهاء الحروب، في ظل تداخل الأزمات في المنطقة؛ قد يكون تسليط الضوء على الحرب في غزة والبدء في أعمال إعادة الإعمار، بداية لدعم للاستقرار في المنطقة ومن ثم دعم اقتصادات دولها. ولذلك يمكن اقتراح سبل الوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في السودان على النحو التالي:

مبادرات الحل وعودة السودان للاتحاد الأفريقي: تعد تحركات قائد الجيش السوداني الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان الأخيرة في الدول الأفريقية الخمس وتضم (مالي، وغينيا بيساو، وموريتانيا، والسنغال، وسيراليون) من أجل إعادة الوجود السوداني في الاتحاد الأفريقي بعد تعليق عضويتها لمدة 3 سنوات منذ 21 أكتوبر 2021، لتعود المبادرة المصرية عند توليها رئاسة مجلس السلم والأمن الأفريقي بشأن الدعوة لعودة السودان إلى الاتحاد الأفريقي في أكتوبر 2024، وعودة الحديث مرة أخرى عند لقاء وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي ورئيس مجلس السيادة 15 يناير 2025 في بورتسودان.

ويمكن النظر إلى تبني عودة السودان إلى الاتحاد الأفريقي ليكون بمثابة عودة للحل السياسي من البيت الأفريقي، ودعم ومراقبة التوصل لوقف إطلاق النار، وعودة المرحلة الانتقالية مع الاعتراف بمؤسسية الدولة والممثلة في حكومة مجلس السيادة، مع ضمان إيصال المساعدات الإنسانية وتحقيق الاستقرار لضمان عودة النازحين، والوصول إلى حكومة موحدة دون تهميش أي فصائل، خاصة في ظل تبني الرئيس الموريتاني باعتباره رئيس الاتحاد الأفريقي الحالي محمد ولد الغزواني لمبادرة موريتانية لإنهاء الحرب في السودان، والتي سيدعمها عودة السودان للاتحاد الأفريقي وانهاء تجميد عضويتها في “الإيجاد” للاعتراف بشرعية الحكومة الحالية يسهم في التوصل لحل.

إطلاق عملية سياسية وإعادة الإعمار: على الرغم من إعلان “البرهان” خلال زيارته الأخيرة إلى غينيا بيساو أنه لن يتراجع عن الحل العسكري ولن يتعامل مع “الدعم السريع” بشكل متساو ومطالبته إياهم بالانسحاب من كافة الأراضي السودانية، خاصةً مع التفوق الميداني الأخير الذي حققته قوات الجيش السوداني؛ إلا أن عودة السودان لطاولة المفاوضات بشروط جديدة تتضمن التأكيد على وحدة السودان وسلامة أراضيه تحت مظلة أفريقية لمراقبة الاتفاق سيكون حلًا متاحًا، خاصةً مع تولي الرئيس دونالد ترامب الذي من المتوقع أن يولي اهتمامًا أكبر بإنهاء الحروب وتصويره بأنه صانع السلام كما جاء في خطاب تنصيبه، وكذلك في ظل رفع سياسة أميركا أولاً ومواجهته لتصاعد النمو الصيني في أفريقيا.

لذا سيكون ملف التنمية والتسوية السياسية وما يقوده إلى ملف إعادة الإعمار الحل الذي يمكن تبنيه لتحقيق المكاسب التنموية للشعب السوداني، وتعميق الاستقرار عبر التنمية، ولضمان هذا يجب العمل على ما يلي:

  • إعادة توزيع الأرباح والتكاليف لضمان عدم التحول لصراع على الموارد داخلياً، بجانب تنوع دخول الدول الإقليمية في عملية الإعمار وضمان وجود وتمويل دولي لعدم التدخل لصالح أحد أطراف الصراع من إحدى القوى الدولية والإقليمية.
  • الدخول في جهود إعادة الإعمار سيضمن عدم التصعيد مرة أخرى من أجل الحفاظ على الأموال المستثمرة في مجالات التنمية، مع إشراك القوى الداخلية في الخطط التنموية لتحقيق الاندماج الوطني والمساهمة في بناء الدولة وتحقيق التنمية الشاملة للولايات السودانية.
  • إطلاق مؤتمر أفريقي لإعادة الإعمار في دول الصراع الأفريقية، بدعوة المنظمات الدولية ومصادر توفير التمويل الدولي للمساعدة في الاستثمار أو تقديم المساعدات الخارجية لتمويل عمليات إعادة الإعمار، لتوفير فرص العمل للمجتمع المحلي، وتحقيق أرباح للمؤسسات والكيانات المشاركة.
  • ضمان الانخراط في عملية سياسية من شأنه أن يرفع العقوبات التي تم فرضها مؤخرًا من الولايات المتحدة. فمن المتوقع أن يلغيها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باعتبار أن العقوبات لا تمثل ضغطًا للحل، بل تؤدي إلى نتائج عكسية، وربما سيحول اتجاهه للتعاون كبديل عن استخدام سياسة العصا والجزرة.

أخيرًا، أظهرت الحرب على غزة التداخل المعقد لكافة دول المنطقة، والتي لن تؤثر فقط على دول الإقليم ودول الجوار، بل توسع تأثير الصراع على العالم أجمع، وبالتالي فإن فترة تحقيق الهدوء والاستقرار في المنطقة لاستعادة القدرات النوعية أصبحت ضرورة ملحة، وبالتالي فإن خفوت صوت الحرب في غزة سيسهم في تركيز الضوء على حروب أخرى وأهمها الوضع في السودان وتحقيق وحدة الصومال، وربما هو ما سنشهده خلال الفترة المقبلة، في ظل الدعم المصري المستمر لدول الجوار والحفاظ على أمن ووحدة أراضيها واستقرارها.

كاتب

رحمة حسن

باحثة بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى