اتسمت زيارة رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان إلى القاهرة، يوم الاثنين الموافق 28 أبريل 2025، بدعوة من الرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي”، بخصوصية وأهمية استثنائية للغاية؛ في ضوء التطورات الميدانية الأخيرة في مسار المعارك العسكرية في الحرب الدائرة التي دخلت عامها الثالث منذ منتصف أبريل 2023، والتي تسببت في أزمة إنسانية حادة. وتعد هذه الزيارة أول زيارة “للبرهان” بعد استعادة الجيش السوداني السيطرة على العاصمة الخرطوم نهاية شهر مارس الماضي. بجانب ذلك، اكتسبت الزيارة طابعًا استراتيجيًا في مسار تعميق العلاقات الثنائية بين مصر والسودان.
دلالات الزيارة
ضمن هذا السياق، يمكن توضيح دلالات توقيت وأهمية الزيارة على النحو التالي:
1– زخم الانتصارات الميدانية للجيش السوداني:
جاءت هذه الزيارة عقب تحقيق الجيش السواني انتصارات واسعة النطاق في العاصمة الخرطوم وولايات الوسط (الجزيرة، وسنّار)، بالإضافة إلى الانفتاح نحو إقليم دارفور بغرب السودان لفك الحصار عن مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، حيث الجيش استطاع دحر ميلشيا الدعم السريع من المواقع الاستراتيجية والمناطق الحيوية التي سيطرت عليها في الخرطوم منذ اندلاع الحرب، وعزز هذا التقدم الميداني من موقف الجيش في الحرب، حيث تحوّل من حالة الدفاع إلى الهجوم واستعادة زمام المبادرة. وتدور الاشتباكات العسكرية الحالية في محاور رئيسة أبرزها: محور جنوب وغرب مدينة أم درمان، ومحور مدينة الفاشر. بجانب ذلك، استهداف مسيرّات تابعة “للدعم السريع” لعدة مواقع للبنى التحية ومحطات توليد الكهرباء في الولاية الشمالية ولاية نهر النيل بما في ذلك: خزان سد مروي، ومطاري دنقلا وعطبرة، والأفعال الانتقامية التي تقوم بها “الدعم السريع” بعد خسارتها في الخرطوم من خلال شن الهجمات على معسكرات النزوح والإيواء كما حدث في مخيمات زمزم وأبو شوك وغيرها.
2– ثبات الموقف المصري تجاه السودان:
أكدت الزيارة حرص مصر الدائم من خلال مقاربتها تجاه السودان التي تقوم على عدة مبادئ وثوابت راسخة التي تشمل؛ الحفاظ على وحدة وسيادة واستقرار السودان، وحماية مقدرات الشعب السوداني، ودعم مؤسسات الدولة الوطنية، ورفض التدخلات الخارجية، ورفض المساعي الرامية لتشكيل الحكومة الموازية التي تهدد بتقسيم السودان. وتمثلت الرؤية المصرية حيال الحرب الدائرة في السودان في مجموعة من المحددات؛ وقف إطلاق النار بشكل شامل ومستدام، وعدم التدخل الأجنبي في السودان، وضرورة الحفاظ على وحدة مؤسسات وشعب السودان، وضرورة التوصل إلى حل شامل للأزمة السودانية، وتنسيق وتوحيد المبادرات السابقة، ومطالبة الوكالات الإغاثية والجهات المانحة بتوفير الدعم اللازم.
وظهر ذلك جليًا في التحركات المصرية الحثيثة ومنها استضافة قمة القاهرة لدول جوار السودان التي انعقدت (يوليو 2023)، ومؤتمر القضايا الإنسانية في السودان (نوفمبر 2023)، ومؤتمر القوى السياسية والمدنية السودانية تحت شعار “معًا لوقف الحرب” (يوليو 2024). بالإضافة إلى ذلك، جهود مصر في استقبال العدد الأكبر من اللاجئين السودانيين، وتقديم كافة أشكال الدعم الإنساني والإغاثي والنفسي للمتضررين من الحرب السودانية. بجانب تسهيلات حركة العائدين السودانيين عبر المعابر الحدودية (أشكيت وأرقين)، فوفقًا لتقرير جديد لمنظمة الهجرة الدولية، هناك عودة لنحو 50 ألف سوداني من مصر خلال شهر أبريل الجاري، ليرتفع عدد العائدين إلى السودان لنحو 165 ألف شخص.
3- تعزيز مسارات التعاون بين القاهرة والخرطوم:
أسفرت جلسة المباحثات المشتركة بين البلدين عن الاتفاق على مجموعة من الخطوات المستقبلية في مجالات التعاون والشراكة الاستراتيجية أبرزها: المساهمة المصرية الفعالة في ملف إعادة الإعمار وتأهيل ما أتلفته الحرب، في ضوء ما أفرزته الحرب من تداعيات كارثية على الكباري والجسور (الحلفايا، وشمبات)، ومحطات توليد الطاقة الكهربائية (سد مروي)، مع التأكيد على استعداد الشركات المصرية للمساهمة في جهود إعادة إعمار السودان من أجل تحقيق جهود التعافي المبكر وتحسين الأوضاع وإصلاح البنية التحية بشكل أسرع، في ظل إمكانيات وخبرات الشركات المصرية بالاستناد إلى التجارب السابقة في هذا المجال. علاوة على ذلك، ضرورة تكثيف الجهود لتوفير الدعم والمساعدة اللازمين للسودانيين المقيمين في مناطق الحرب، في ظل معاناة النازحين من ويلات الحرب ونقص الخدمات الأساسية (المياه، الغذاء، الصحة، الكهرباء، والتعليم).
بالإضافة إلى مواصلة المشروعات الاستراتيجية في عددٍ من المجالات الحيوية مثل الربط الكهربائي، والسكك الحديدية، والتبادل التجاري، والثقافي، والعلمي، والتعاون في مجالات الصحة، والزراعة، والصناعة، والتعدين، وغيرها من المجالات، بما يحقق هدف التكامل المنشود بين البلدين، والاستغلال الأمثل للإمكانات الضخمة للبلدين وشعبيهما. ضمن هذا الصدد، توجد مجموعة من المشروعات الاستراتيجية المشتركة بين البلدين ومنها خطط إنشاء محطة سكك حديدية تبادلية في مدينة أبو سمبل جنوب غرب أسوان حتى وادي حلفا شمال السودان، والتخطيط لإنشاء مناطق لوجستية في الموانئ البرية على الحدود المشتركة (قسطل- أرقين- رأس حدربة).
4- تنسيق الرؤى حيال القضايا الإقليمية ذات الاهتمام المشترك:
تتشابك القضايا والتحديات والتهديدات المحيطة بكل من مصر والسودان في ظل الارتباط الوثيق بين الأمن القومي لكليهما، بما يستدعي تنسيقًا وثيقًا حيال هذه التهديدات والقضايا وتحديدًا في منطقة القرن الأفريقي، وإقليم البحر الأحمر، من أجل ضمان تحقيق الأمن والاستقرار في هذه المنطقة الحيوية، في ظل تهديدات أمن الممرات البحرية، مع عودة نشاط القرصنة الصومالية، وتصاعد هجمات جماعة الحوثي في اليمن، وتنامي نشاط حركة الشباب الإرهابية في الصومال. كما أكدت الزيارة على مواصلة التنسيق والعمل المشترك لحفظ الأمن المائي للدولتين، ورفض الإجراءات الأحادية في حوض النيل الأزرق، وضرورة التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم يراعي مصالح الدول، وإعمال القانون الدولي لتحقيق المنفعة المشتركة لجميع الأشقاء بحوض النيل.
حاصل ما تقدم، أكدت الزيارة عمق العلاقات بين مصر والسودان باعتبارهما “جسدًا واحدًا”، في ضوء الروابط التاريخية، ووحدة المصير المشترك، وتنوع مجالات وأبعاد ومرتكزات التعاون المشترك بين البلدين، في ظل الرغبة في تحقيق التكامل بينهما في المجالات الحيوية، مع وصول مسار العلاقات لمرحلة من التفاهم المشترك والشراكة الاستراتيجية تجاوزت نمط العلاقات الثنائية التقليدية، بدخولها مرحلة من التنسيق الاستراتيجي الدائم، والتشاور السياسي رفيع المستوى بين البلدين حيال القضايا محل الاهتمام المشترك وتحديدًا في ملف المياه، وتطورات الأوضاع في منطقة القرن الأفريقي، وأمن البحر والأحمر. كما أكدت الزيارة أهمية الدور المحوري لمصر في وقف الحرب خلال المرحلة المقبلة من خلال التعويل على ثقلها وجهودها في الملف السوداني عبر تنشيط مبادرة دول الجوار أو جمع كافة القوى السودانية على طاولة التفاوض من أجل حوار سوداني- سوداني.
