لم الشمل: قراءة في مخرجات ونتائج مؤتمر القاهرة للقوى السياسية والمدنية السودانية
تحت شعار معًا من أجل وقف الحرب في السودان، استضافت القاهرة يومي السابع والثامن من يوليو الجاري، مؤتمرًا للقوى المدنية والسياسية السودانية بمختلف أطيافها، في خطوة نحو توحيد جبهات القوى المدنية المنقسمة، بما يوفر فرصة لبناء توافق سياسي حول مستقبل العملية السياسية وقضايا الانتقال السياسي، كخطوات تالية على قضايا وقف إطلاق النار وإيصال المساعدات الإنسانية، التي فرضتها الحرب على أجندة التفاوض بين القوى العسكرية المتصارعة.
ورغم انتهاء المؤتمر دون تحقيق الهدف المنشود بتوافق القوى المدنية لاستمرار التمسك بذات الرؤى المتباعدة حول الموقف من الحرب الجارية من جهة والتصورات حول مستقبل العملية السياسية من جهة أخرى، إلا أنه يعد خطوة متحققة على طريق شاق في تقريب وجهات النظر، باعتبار أن هذه هي المرة الأولى التي يوافق فيها الطرفان على الجلوس سويًا، مما يوفر مرجعية يمكن البناء عليها فيما هو قادم من جهود لتطوير المواقف السياسية والدبلوماسية وبناء التوافق.
مواقف وقوى متباينة
منذ أن وجهت الخارجية المصرية الدعوة للقوى المدنية السودانية في أواخر شهر مايو الماضي، لعقد مؤتمر جامع لمختلف القوى المدنية، وهناك ترقب بشأن مستوى الحضور والمشاركة من مختلف القوى، التي رفضت في مناسبات سابقة عديدة الجلوس معًا، مما جعل الدعوات مقدمة من القاهرة على أساس الأحزاب والكيانات فرادى وليس على أساس التكتلات والتجمعات الرئيسية، والتي تتمثل في تكتلين رئيسيين، وهما تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية “تقدم” والكتلة الديمقراطية.
حضور متنوع
شهد المؤتمر حضورًا موسعًا من مختلف القوى، إذ تم توجيه الدعوة إلى 50 شخصية من القيادات السياسية والمدنية ورجال الدين والإدارات الأهلية، حيث تم توجيه الدعوة على أساس حزبي لا على أساس التكتلات، خاصة الكتلتين الأبرز المتمثلتين في الكتلة الديمقراطية “قوى الميثاق الوطني” والحرية والتغيير “تنسيقية تقدم”.
ومن أبرز الشخصيات التي وجهت إليها دعوة الحضور، رئيس هيئة القوى المدنية الديمقراطية “تقدم” عبد الله حمدوك، ورئيس حزب الأمة فضل الله برمة ناصر، ورئيس المكتب التنفيذي لحزب التجمع الاتحادي بابكر فيصل، ورئيس حزب المؤتمر عمر الدقير، ورئيس حزب البعث كمال بولاد، ورئيس حركة تحرير السودان- المجلس الانتقالي الهادي إدريس، وزعيم تجمع قوى تحرير السودان الطاهر حجر، بجانب ممثلي المهنيين والنقابات والمجتمع المدني ولجان المقاومة. كذلك أكد رئيس حزب البعث العربي الاشتراكي علي السنهوري حضوره المؤتمر، في أول مشاركة لافتة له منذ مغادرته قوى الحرية والتغيير، بينما هاجم مصطفى تمبور، رئيس حركة تحرير السودان، المؤتمر رافضًا المشاركة، إيمانًا منه بأنه لن يأتي بجديد.
بالإضافة إلى ما سبق، تمت دعوة نائب رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي جعفر الميرغني، ورئيس حزب الأمة مبارك الفاضل، ورئيس المجلس الأعلى للبجا والعموديات المستقلة محمد الأمين ترك، ورئيس حركة تحرير السودان مني أركو مناوي، وقائد حركة العدل والمساواة جبريل إبراهيم، ورئيس الحركة الشعبية- شمال مالك عقار. تضمنت الدعوة كذلك، رئيس الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة الأمين داؤود، ورئيس حزب التحرير التجاني السيسي، إضافة إلى شخصيات وطنية بينها السفير نور الدين ساتي، والواثق كمير، وصديق أمبدة، وعالم عباس، والمحبوب عبد السلام، والشفيع خضر. وعلى الجانب الآخر، فقد أعلنت الحركة الشعبية – شمال، برئاسة عبد العزيز الحلو، عدم المشاركة، إضافة إلى اعتذار نائبة رئيس التيار الثوري الديمقراطي، بثينة دينار، التي تنتمي إلى تيار تقدم، نظرًا لعدم وضوح الرؤية للمشاركة، بحسب ما عبرت.
كواليس المؤتمر
انعكست الانقسامات على مستوى التمثيل على سير وقائع المؤتمر، إذ كشفت الأخبار عن رفض ممثلي الكتلة الديمقراطية الجلوس مع ممثلي تنسيقية تقدم، مما أدى في نهاية الأمر إلى عقد ثلاث جلسات تناقش وقف الحرب والمساعدات الإنسانية والعملية السياسية، مما وفر فرصة لبعضهم لحضور الجلسات التي لا يحضرها الطرف الآخر، فيما أصر البعض على الحضور بشكل مشترك مع ممثلي القوى الأخرى.
وعقب انتهاء جلسات المؤتمر، أثير الجدل مرة أخرى حول صياغة وتلاوة بيان ختامي للمؤتمر، إذ اتفق على تمثيل ثلاثة أشخاص لكل طرف مع أربعة ميسرين، لصياغة بيان ختامي متوافق عليه، لكن رفضت قيادات الكتلة الديمقراطية – مالك عقار، مني أركو مناوي، جبريل إبراهيم- أن يكون هناك بيان ختامي.
وارتبط هذا الموقف، برفض الكتلة الديمقراطية لعدم إثارة وإدانة انتهاكات الدعم السريع من جانب تنسيقية تقدم، التي تثار الشكوك حول انحيازها للدعم السريع. فتمسكت تنسيقية تقدم بذكر انتهاكات الجيش والدعم السريع، بينما رفضت الكتلة الإشارة إلى انتهاكات الجيش، مما أدى في النهاية لصيغة توافقية تنص على ذكر انتهاكات طرفي الصراع.
ومع التمسك بضرورة الخروج ببيان ختامي يسلط الضوء على الأزمة، تمسكت القيادات الممثلة للكتلة الديمقراطية، وتحديدًا مالك عقار نائب رئيس مجلس السيادة، ومني أركو مناوي حاكم إقليم دارفور، وجبريل إبراهيم وزير المالية، واشترطوا إضافة قضايا حركاتهم بشكل منفصل لا أن يتم التعامل معهم كجزء من الجيش الذي أعلنت حركاتهم الانحياز لصفوف القتال معه، على أن تتم مناقشة هذه القضايا في كافة المنابر التفاوضية بين الجيش والدعم السريع، مما يعيد طرح إشكالية الحركات المسلحة المنضوية في اتفاق جوبا للسلام، وآفاق التعامل المستقبلي معها. وركز البيان الختامي للمؤتمر على التأكيد على ذات القضايا والأولويات الرئيسية المطروحة، بما في ذلك وقف الحرب وإيصال المساعدات الإنسانية واعتماد الحوار السوداني كحل للأزمة السودانية.
تباين المواقف
أعقب البيان الختامي لمؤتمر القاهرة، بيانات تعبر عن التناقضات في صفوف القوى المختلفة، إذ عبر وزير المالية السوداني ورئيس حركة العدل والمساواة، جبريل إبراهيم، عن أن المؤتمر ليس معنيًا بإنهاء الحرب ولكنه معني أكثر بتحقيق توافق سياسي سوداني، إذ أن مسار وقف إطلاق النار لا يزال طويلًا، فيما عبر رئيس تنسيقية تقدم عبد الله حمدوك عن الإنجاز الذي حققه المؤتمر بجمع الفرقاء للمرة الأولى.
وعلى الجانب الآخر، انتقد الهادي إدريس نائب رئيس تنسيقية تقدم، مواقف قيادات الكتلة الديمقراطية، الذي جاء موقفهم معبرًا عن الرؤى المحسوبة على حكومة بورتسودان، في وقت كانت هناك آمال عريضة من مؤتمر القاهرة، الذي يعد الأول من نوعه الذي جمع الفرقاء السياسيين السودانيين، مما يعكس الجهد المصري المتواصل في هذا الصدد.
ووجدت مخرجات المؤتمر ترحيبًا من مختلف القوى السياسية بما في ذلك رئيس تنسيقية تقدم عبد الله حمدوك، وحزب الأمة القومي والاتحاد الأصل- محمد عثمان الميرغني، فيما اعترض حزب المؤتمر الشعبي على عدم دعوته، إذ أشار إلى أن الفئة الحاضرة هي فئة مفصولة من الحزب، بينما تمسك الحزب الشيوعي بموقفه الثائر وتأييده لاستمرار النضال مع الجماهير.
وانعكست الاستقطابات بين القوى السياسية ليس فقط حول الأجندة والقضايا المستقبلية محور النقاش والتوافق، ولكن أيضًا حول المشاركين ومن يمكنهم المشاركة في رسم ملامح المستقبل، في رفض تنسيقية تقدم المشاركة في الاجتماع التحضيري الذي دعا إليه الاتحاد الأفريقي خلال الفترة 10-15 يوليو الجاري، نظرًا لحضور شخصيات محسوبة على حزب المؤتمر الوطني، وهو ما يعكس في ذات الوقت الإنجاز الذي حققه مؤتمر القاهرة بجمع القوى التي تحمل رؤى متنافرة حول العملية السياسية.
وانعكست هذه التناقضات في الترحيب المشروط بانعقاد مؤتمر القاهرة، إذ لطالما أتت تحفظات تقدم على إشراك القوى المحسوبة على حزب المؤتمر الوطني، بينما جاء ترحيب وزارة الخارجية السودانية مشروطًا بعدم حضور المنظمات الإقليمية التي امتنعت عن إدانة انتهاكات الدعم السريع، وتحديدًا منظمتي الإيجاد والاتحاد الأفريقي.
أولويات ورؤى مصرية
انعقد المؤتمر في ضوء البحث عن حلول جذرية للأزمة السودانية، والتي أجمع الوسطاء باختلاف اتجاهاتهم ومنصاتهم على ضرورة إشراك القوى المدنية، بما يسمح ببلورة رؤية سياسية حاكمة للمسار الانتقالي، في أعقاب وقف إطلاق النار وتيسير إيصال المساعدات. إذ انعقد مؤتمر القاهرة، لسماع رؤى القوى السياسية السودانية من خلال الجلسات المتوازية، بما يسمح بتحديد محددات الحوار السوداني- السوداني.
وتأتي هذه الخطوة في ضوء التوافق حول ضرورة توحيد القوى السياسية السودانية، تمهيدًا للمرحلة التالية على وقف إطلاق النار، إذ لا يمكن بناء توافق مستدام أو ضمان وقف مستدام لإطلاق النار دون وجود جبهة مدنية ضامنة للاتفاقات، بحسب ما أشارت بعض التجارب الأفريقية تاريخيًا.
اتساقًا مع هذا الإجماع الدولي، فإن السياسة المصرية قائمة على قناعة بأن الحلول يتعين أن تكون وطنية خالصة، عبر حوار وطني سوداني – سوداني، مما لفتح قناة اتصال مباشر مع القوى المدنية السودانية منذ بدء الانتقال السياسي، بحيث لا يتم اقتصار الرؤى والحلول على الأطراف العسكرية، في تماهٍ مع محددات الانتقال السياسي بمشاركة مدنية، وهو ما انعكس بصورة جلية منذ بدء الصراع، مع استقبال وفد الحرية والتغيير في أواخر يوليو 2023، وتبعه جولة أخرى في أغسطس 2023، هذا فضلًا عن استضافة وفد الكتلة الديمقراطية في جولتين في إطار مساعي الكتلة لإعادة بلورة وتوحيد جهودها، في إطار مساعي توحيد القوى المدنية.
وعلى الجانب الآخر، كانت هناك أدوار دبلوماسية مصرية على مستوى المفاوضات المتعلقة بوقف إطلاق النار والتواصل بين طرفي الصراع، والتي تمثلت تحديدًا في مؤتمر قمة دول الجوار السوداني، التي انعقدت في يوليو 2023، في محاولة لبناء توافق بين دول الجوار السوداني، حول الإطار التفاوضي المتصل بوقف إطلاق النار، في إطار المسارات التفاوضية المتعددة المطروحة، وتحديدًا مباحثات جدة ومسار الإيجاد.
في النهاية، رغم محدودية الإنجاز المتحقق، حقق المؤتمر إنجازًا بجمع القوى للمرة الأولى بعد سنوات من الانقسام والتجاذب، بما يعد خطوة أولية نحو بناء توافق مشترك بين القوى السياسية، بما يضمن المشاركة في المفاوضات المستقبلية حول مجمل العملية السياسية. ويمثل هذا إنجازًا، مقارنة بكافة المبادرات والمنصات التي لا تزال تسعى لجمع الفرقاء دون تقدم يذكر، والتي كان آخرها اجتماعات الاتحاد الأفريقي، التي رفضت تنسيقية تقدم حضورها، وكذلك مباحثات جنيف بشأن القضايا الإنسانية، بمشاركة الأطراف العسكرية، والتي رفضت اللقاء المباشر، بما يكشف استمرار تباعد المسافات بين كافة الأطراف المدنية والعسكري