الاقتصاد الدولي

الاقتصاد الإبداعي: الابتكار كلمة السر في التنمية

وسط هذا الزخم من التطور التكنولوجي السريع الذي يشهده العالم، يأتي الابتكار كأحد أهم أدوات التنمية إن لم يكن أهمها في تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، فلم يعد الأمر مقتصرًا على وجود موارد طبيعية من عدمه، بل أصبح الأمر يتعلق بالابتكار والمعرفة في إدارة هذه الموارد من أجل تحقيق التنمية واستدامتها، وتأكيدًا على ذلك أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2017 عن تخصيص يوم 21 أبريل من عام ليكون يومًا عالميًا للابتكار وكذلك وضع مؤشر عالمي للابتكار، وأصبح الابتكار والمعرفة والبحث العلمي من الركائز الأساسية التي يقوم عليها الاقتصاد، وبذلك أصبح اقتصاد المعرفة قائمًا بذاته واحتل مكانة رئيسة في استراتيجيات الدول للتنمية المستدامة، ومؤشرًا مهمًا على تقدمها في المجالات المعرفية المختلفة أو في الاقتصاد ككل. 

وعلى الرغم من اشتراك جميع الأهداف الأممية للتنمية المستدامة السبعة عشر في التأكيد على الابتكار والتطور التكنولوجي في تحقيقها، إلا أن الهدف التاسع المتعلق بـ” الصناعة والابتكار والهياكل الأساسية” يؤكد بشكل مباشر على إقامة بُنى تحتية قادرة على الصمود، وتحفيز التصنيع الشامل للجميع، وتشجيع الابتكار والبحث العلمي وتحسين القدرات التكنولوجية في القطاعات المختلفة.

اقتصاد المعرفة والاقتصاد الإبداعي

ظهر مصطلح اقتصاد المعرفة في أواخر القرن العشرين مع انتشار الصناعات المتقدمة، ومع التطور السريع الذي يشهده العالم على جميع الأصعدة وخاصة الاقتصادي منها، أصبحت المعرفة تشكل ركيزة أساسية في تغيير أنماط النمو الاقتصادي للدول المتقدمة والنامية على حد سواء، وهناك من يُعرّف اقتصاد المعرفة على أنه أحد أنواع الاقتصاد الذي يرتكز بشكل أساسي على كمّ المعرفة والمعلومات المتاحة، وعن كيفية الوصول إلى هذه المعلومات والقدرة على ذلك من عدمه، بمعنى أنه يعتمد على رأس المال الفكري أو المعرفة والابتكار. لذا يعتبر العنصر البشري وتطور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات من الأصول الأساسية لاقتصاد المعرفة.  

ويعرف البنك الدولي اقتصاد المعرفة من خلال توافر أربع ركائز وهي: المؤسسات التي تقدم حوافز لريادة الأعمال، وتوافر العمالة الماهرة ونظام تعليمي جيد، وإمكانية الوصول للبنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، بالإضافة إلى بيئة ابتكارية تشمل الأوساط الأكاديمية، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني.

وفي عام 2019، وفي أثناء انعقاد الدورة 74 للجمعية العامة للأمم المتحدة، تم إعلان 2021 عامًا لـ«الاقتصاد الإبداعي» من أجل الوصول إلى التنمية المستدامة في العالم، وهذا إعلان واعتراف بأن «الاقتصاد الإبداعي» يأتي في مقدمة الحلول التي من المفترض أن يلجأ إليها العالم لمواجهة التحديات والصعوبات. وربما ليس هناك تعريف محدد للاقتصاد الإبداعي إلا أنه يعتمد بشكل رئيس على الإبداع والابتكار في كافة القطاعات، حيث لا يزال الإبداع والاقتصاد الإبداعي يشكلان مفهومًا أخذًا في التطور. ويستند تعريف الإبداع إلى التفاعل بين الإبداع البشري والأفكار، والملكية الفكرية، والمعرفة، والتكنولوجيا، في حين يشمل الاقتصاد الإبداعي جميع القطاعات التي تتمحور حول الأنشطة الإبداعية. ويرتبط مفهوم الاقتصاد الإبداعي ارتباطًا وثيقًا بـ”اقتصاد المعرفة”، الذي يؤدي دورًا رئيسًا في تحفيز النمو الداخلي من خلال الاستثمار في رأس المال البشري.

وقد يعرف الاقتصاد الإبداعي بـ«الاقتصاد البرتقالي» وهو مصطلح صاغه “فيليبى بويتراجو ريستريبو” و “إيفان دوكي ماركيز”، مؤلفا كتاب «الاقتصاد البرتقالي: فرصة لا حصر لها»، وقد تم إطلاق لفظ «برتقالي» على «الاقتصاد الإبداعي»، نظرًا إلى أن اللون البرتقالي يُعد رمزًا للثقافة والإبداع والهوية عند المصريين القدماء.

حجم الاقتصاد الإبداعي

يشارك الاقتصاد الإبداعي بنحو 6.1% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ومن المتوقع أن ينمو الاقتصاد الإبداعي بنسبة 40% بحلول عام 2030 ، وتوفر الصناعات الإبداعية حوالي 6.2% من إجمالي فرص العمل، وتسهم بعائدات سنوية تصل إلى حوالي 2 تريليون دولار، وتعد الصناعات الإبداعية اليوم من بين أكثر القطاعات ديناميكية في الاقتصاد العالمي وتوفر فرصًا جديدة لنمو اقتصاد البلدان النامية، ومن بين أبرز الصناعات الإبداعية الهندسة المعمارية، والفنون والحرف اليدوية، والتصميم، والأزياء، والأفلام، والفيديو، والتصوير الفوتوغرافي، والموسيقى، والفنون المسرحية، والبحث والتطوير، والبرمجيات، وألعاب الكمبيوتر، والنشر الإلكتروني، والتلفزيون والراديو.

وشهد عام 2019، قفزة نوعية من حيث إنتاج وتصدير الصناعات والخدمات الإبداعية أو الاستثمار في البحث العلمي والابتكار من عام 2020 بسبب ظروف جائحة كورونا، ولكن سرعان ما ضاعفت الدول استثماراتها بنسبة 10% عام 2021 بما يعادل حوالي 900 مليار دولار وكانت هذه الزيادة في 4 مجالات رئيسة وهي: تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، المعدات الكهربائية، البرمجيات وخدمات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، التكنولوجيا الحيوية والمستحضرات الدوائية، والإنشاءات والصناعات المعدنية. 

الصين أكبر سوق للاقتصاد الابداعي

تنتج التجارة في السلع والخدمات الإبداعية عائدات متزايدة للدول، وزادت صادرات السلع الإبداعية بأكثر من 2.5 ضعف خلال العقدين الماضيين، وكذلك تضاعفت صادرات الخدمات الإبداعية أيضًا خلال العقد الماضي. وتعد الصين حاليًا أكبر سوق للاقتصاد الإبداعي في العالم مع توقعات بالتوسع، حيث بلغت حجم الصادرات من السلع والخدمات الإبداعية ما يمثل 32.2% من الصادرات العالمية، وحوالي 6.5% من إجمالي صادرات البلاد. 

وتأتي الولايات المتحدة الأمريكية بعد الصين في حجم سوق الاقتصاد الإبداعي، حيث بلغ حجم صادرات السلع والخدمات الإبداعية 2.35 من إجمالي صادرات البلاد، ما يمثل حوالي 6.2% من إجمالي الصادرات العالمية للسلع الإبداعية. وكذلك تعد أكبر مصدري الخدمات الإبداعية بنحز 206 مليار دولار، وبلغ معدل نشاط ريادة الاعمال لقياس الأعمال الجديدة عام 2021 حوالي 16.5%. 

السلع والخدمات الإبداعية

تختلف السلع الإبداعية عن الخدمات الإبداعية، فهناك ما يقرب من 196 سلعة إبداعية في مجالات متعددة، بينما هناك عدد أقل من الخدمات الإبداعية. ربما يوضح الجدول التالي أهم السلع والخدمات الإبداعية: 

السلع الإبداعيةالخدمات الإبداعية
الحرف الفنية )الحرف اليدوية – الفنية)البحث والتطوير
التصميم ( المعماري – الأزياء – الفني)البرمجيات
المواد السمعية والبصرية ( الأفلام – الأسطوانات)خدمات المعلومات
النشر والكتابة ( الصحف – المطبوعات)الخدمات السمعية والبصرية
الوسائط الجديدة ( الوسائط المسجلة – ألعاب الفيديو)الإعلان والتسويق
الفنون المسرحية ( الآلات الموسيقية والأدوات المسرحية)الخدمات الثقافية والترفيهية
الفنون البصرية ( التصوير – الرسم- النحت)الهندسة المعمارية
شكل (1): يوضح الصادرات العالمية من السلع والخدمات الإبداعية، 2010- 2020 (بالمليار دولار)

وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، تصدِّر الاقتصادات النامية سلعًا إبداعية أكثر من البلدان المتقدمة؛ حيث يستحوذ أكبر 10 مصدرين على 68.2% من صادرات السلع الإبداعية، بينما تأتي البلدان المتقدمة على قائمة أكبر المستوردين؛ حيث يستحوذ أكبر 10 مستوردين للسلع الإبداعية على 63% من الواردات.

ومن الجدير بالذكر أن صادرات أكبر 10 مصدرين للصناعات الإبداعية في عام 2020 كانت تمثل نحو 68.2% من إجمالي الصادرات العالمية من الصناعات الإبداعية، وهنا تجدر الإشارة إلى أن الصين كانت في عام 2020 من أكبر مصدر للسلع الإبداعية بمقدار 169 مليار دولار، تليها الولايات المتحدة بنحو 32 مليار دولار، وإيطاليا بنحو 27 مليار دولار، وألمانيا بنحو 26 مليار دولار، وهونج كونج بنحو 24 مليار دولار.

في حين تصدرت الولايات المتحدة الأمريكية قائمة الدول المستوردة للسلع الإبداعية في عام 2020، بمقدار 108 مليارات دولار، تليها هونج كونج بنحو 30 مليار دولار، وألمانيا بنحو 30 مليار دولار، ثم المملكة المتحدة بنحو 24 مليار دولار، وفرنسا بنحو 22 مليار دولار، والصين 20 مليار دولار.

شكل (2): يوضح صادرات السلع الإبداعية من الدول النامية والمتقدمة، 2002- 2020 (بالمليار دولار)

شكل (3) : يوضح صادرات الخدمات الإبداعية من الدول النامية والمتقدمة، 2010- 2020 (بالمليار دولار)

مصر والاقتصاد الإبداعي

تشكل الصناعات الإبداعية رافدًا مهمًا في الاقتصاد المصري، حيث تُسهم بنحو مليار وربع المليار دولار من إجمالي الصادرات المصرية، وفقًا لتقرير UNCTAD الصادر عام 2018. وتسعى مصر إلى زيادة الاستثمارات في هذا القطاع، عبر طرح مشروعات جديدة، وتهدف إلى خلق بيئة محفزة لرواد الأعمال والمبدعين المصريين والأجانب، تمكنهم من تطوير منتجاتهم وعلاماتهم التجارية، حتى يتمكنوا من الوصول والمنافسة بها في الأسواق العالمية. 

وكذلك أولت استراتيجية التنمية المستدامة (رؤية مصر 2030) اهتمامًا واضحًا بالصناعات الابداعية، فقد نص الهدف الأول في محور الثقافة على: “دعم الصناعات الثقافية كمصدر قوة للاقتصاد، فيما يعرف بالاقتصاد الإبداعي، أو الاقتصاد البرتقالي”.

أخيرًا، يتسم مفهوم الاقتصاد الإبداعي وتعريفه بتنوعهما، فهمًا مرآة للتنوع الثقافي للبلدان، لكنهما ينبعان أيضًا من اختلاف الهياكل الاقتصادية والمنهجيات الإحصائية والتصنيفات المستخدمة. فلكل مفهوم أساس منطقي معني للغرض من الصناعة الإبداعية وطريقة تفعيلها. مما يمكن أن تساعد البلدان على وضع تصور اقتصادها الإبداعي وصناعاتها بطريقة أكثر تنسيقًا، ولكن لابد من الاعتراف بأهمية الاقتصاد الإبداعي ووضع مؤشرات وتصورات، وتشجيع الحكومات على العمل مع المؤسسات الدولية على وضع مفهوم واضح للاقتصاد الإبداعي وتطور السلع والخدمات الابداعية

ومن الضروري أيضًا رسم خريطة للاقتصاد الابداعي والصناعات الإبداعية وقياسهما، بما يشمل مساهمتهما في التجارة الدولية. ويمكن أن يوفر قياس أدلة ورؤى يستفيد منها واضعو السياسات في تصميم وتخطيط وتنفيذ سياسات تستهدف الصناعات الإبداعية وأخرى تحفيز خلق فرص العمل، والنمو اقتصادي وزيادة عائدات التصدير، وتحديد السمات المكانية للصناعات الإبداعية، وتعزيز السياحة. 

المصادر: 

  1. https://www.thepolicycircle.org/minibrief/the-creative-economy/
  2. https://unctad.org/publication/creative-economy-outlook-2022
+ posts

باحثة ببرنامج السياسات العامة

أمل اسماعيل

باحثة ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى