إعلان قازان: رؤية جديدة لمستقبل “بريكس”
شهدت قمة “بريكس” السادسة عشرة، التي عُقدت في مدينة قازان بروسيا خلال الفترة من 22 إلى 24 أكتوبر 2024، مجموعة من القرارات الاستراتيجية التي تعكس طموح دول التكتل لتعزيز دورها كمحور اقتصادي وسياسي بديل للغرب. ففي خضم تصاعد الانقسامات الجيوسياسية وتزايد التحديات الاقتصادية، تناولت القمة قضايا محورية مثل تأسيس عملة موحدة وتقليص الاعتماد على الدولار الأمريكي، بالإضافة إلى توسيع عضوية المجموعة لاستيعاب دول شريكة جديدة، مما يسهم في خلق نظام مالي عالمي متعدد الأقطاب ويعزز التعاون بين الدول النامية. كما يُعد إدراج دول شريكة خطوة تحول نوعي في مسار توسع “بريكس”، حيث يسمح لهذه الدول بالمشاركة في فعاليات المجموعة دون حق التصويت الكامل. وفي الوقت ذاته، تُبرز مخرجات القمة رؤية “بريكس” لتعزيز الاستقلال الاقتصادي ومواجهة تحديات مثل الأمن الغذائي وتغير المناخ عبر التعاون الدولي، في وقت يسعى فيه التحالف إلى تقليص التأثير الغربي على اقتصادات الدول النامية وتوفير فرص جديدة للتنمية المستدامة.
إعلان قازان.. رؤى جديدة مشتركة
خلال قمة قازان، اتفق قادة دول “بريكس” على “إعلان قازان”، والذي يمثل تحولًا نوعيًا في توثيق الرؤى المشتركة لهذا التكتل تجاه النظام الدولي الحالي. تتضمن هذه الوثيقة 134 نقطة موزعة على 43 صفحة، مما يجعلها الأطول والأكثر تفصيلًا مقارنةً بالوثائق السابقة، مثل وثيقة “قمة جوهانسبرج” في أغسطس 2023 التي احتوت على 94 نقطة، ووثيقة “قمة بكين” في يوليو 2022 التي شملت 75 نقطة. يعكس هذا التوسع التدريجي زيادة التفاعل بين الدول الأعضاء وحرصها على صياغة رؤية شاملة ومتعددة الأبعاد لتعزيز التعاون بين الدول الناشئة.
تضمن إعلان قازان مقدمة وأربعة أقسام رئيسة، على النحو التالي:
- تعزيز التعددية: تناول هذا القسم أهمية دعم نظام عالمي متعدد الأقطاب بما يعكس مصالح جميع الدول، مع التأكيد على ضرورة إصلاح المؤسسات الدولية لتصبح أكثر شمولية وتمثيلًا.
- الأمن العالمي والإقليمي: يركز هذا القسم على التهديدات الأمنية التي تواجه العالم اليوم، سواء كانت محلية أو إقليمية، ويؤكد على أهمية التعاون في سبيل تحقيق الاستقرار والسلام.
- التعاون المالي والاقتصادي: يتناول هذا القسم تعزيز الشراكات الاقتصادية بين الدول الأعضاء، وتطوير أنظمة مالية مستدامة، بالإضافة إلى التأكيد على أهمية التجارة الحرة والنزيهة وتعزيز البنى التحتية الاقتصادية.
- التبادل الإنساني: يركز هذا القسم على دعم التبادل الثقافي والتعليمي والعلمي، وتعزيز الروابط بين الشعوب على أسس من التفاهم المتبادل والاحترام.
ويتميز “إعلان قازان” بكونه يوضح رؤية موحدة ومفصلة حول القضايا العالمية الأساسية والأزمات الإقليمية الملحة، حيث تسعى دول “بريكس” من خلاله إلى تحديد معالم نظام عالمي يعكس مصالحها المشتركة. وعلى الرغم من عدم احتوائه على جداول زمنية أو خرائط طريق محددة لتنفيذ ما اتُفق عليه فإنه يُحدد أهدافًا رئيسة يمكن تحقيقها في السنوات المقبلة، مثل تعزيز الاستقلال الاقتصادي للدول الأعضاء وتحقيق التنمية المستدامة. ويعد الوصول إلى اتفاق متعدد الأطراف على وثيقة بهذا الحجم أهمية كبيرة، خصوصًا مع انضمام أعضاء جدد إلى التكتل، مما يعكس الجهود الكبيرة التي بذلها الخبراء والدبلوماسيون من الدول الأعضاء لتنسيق الرؤى والتطلعات المشتركة.
أبعاد جديدة لتعاون “بريكس”
يظهر إعلان قمة قازان رغبة مجموعة “بريكس” في توسيع نطاق تفويضها ليشمل معالجة القضايا المتعلقة بالأمن والتنمية في آن واحد. وعلى عكس التركيز على مجالات محددة مثل تعزيز التجارة بين الأعضاء، تبنت المجموعة نهجًا متعدد الأبعاد، مما يتيح لها العمل كـ”مختبر” لحوكمة عالمية ذات مهام متنوعة. يشمل هذا النهج معالجة مجموعة واسعة من القضايا، منها التجارة والتمويل والاستقرار الاستراتيجي، بالإضافة إلى موضوعات مثل عدم انتشار أسلحة الدمار الشامل، وإصلاح الأمم المتحدة، ومكافحة الإرهاب، وتغير المناخ، وإدارة الهجرة. ويهدف هذا التوجه إلى تطوير آليات جديدة للتعاون العالمي تلبي احتياجات العصر الحالي.
في السياق ذاته، فإن التنوع والتوسع في أنشطة مجموعة “بريكس” يعزز فرص النجاح في مبادراتها المتعددة، حيث يتيح نهج “حل المشاكل” للمجموعة تجاوز العوائق البيروقراطية وتعزيز التنسيق الفعّال بين المجالات المختلفة. وخاصة في السياق التنموي، حيث تواجه مجموعة “بريكس” معضلة تتمثل في التوازن بين جهودها الرامية إلى إصلاح المؤسسات الاقتصادية والنقدية القائمة، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللتين تتسمان بطابع غربي، وبين تطوير بدائل خاصة بها، مثل بنك التنمية الجديد، وآلية احتياطي الطوارئ لدول “بريكس” .
في الوقت ذاته تدعو الوثيقة إلى دعم منظمة التجارة العالمية كمنصة دولية لتعزيز العلاقات الاقتصادية، مع التركيز على تحرير التجارة بين دول “بريكس”. كما تعبر عن قلقها إزاء “التدابير القسرية الأحادية غير القانونية”، مثل العقوبات، التي تعتبرها عائقًا أمام النمو الاقتصادي العالمي وتحقيق أهداف التنمية المستدامة. وتؤكد المجموعة أن هذه التدابير تقوض ميثاق الأمم المتحدة والنظام التجاري متعدد الأطراف، خاصة في ظل ما تواجهه دول “بريكس” من عقوبات أحادية من الغرب، وهو ما يعزز توجهها نحو تقليل الاعتماد على المؤسسات الغربية التقليدية.
في السياق ذاته، استعرض إعلان قمة “بريكس” مقترحات جديدة ذات طابع اقتصادي ومالي، بما في ذلك اقتراح روسيا لإنشاء نظام “BRICS Clear” للتداول المالي، والذي يهدف إلى تقليل الاعتماد على الدولار من خلال استخدام العملات الوطنية وتقنيات “البلوك تشين” في التجارة الدولية. ونظرًا لأن هذه الأفكار تحتاج إلى دراسات تقنية معمقة، فقد قررت المجموعة دراسة هذه المقترحات على مستوى الخبراء قبل اتخاذ أي خطوات عملية. وفي إطار التعاون الاقتصادي، يركز الإعلان على تحديث البنية التحتية للنقل واللوجستيات داخل المجموعة، خاصة بعد زيادة عدد الأعضاء، مما يجعل هذا المشروع أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى. كما اقترحت المجموعة تبادل الحبوب بين دول “بريكس”، حيث تضم بعضًا من أكبر مصدري ومستوردي الحبوب عالميًا، مما يسهل تحقيق هذا الهدف. علاوة على ذلك، تتجه المجموعة نحو توسيع دورها في أسواق الطاقة العالمية، حيث تضم أكبر الدول المنتجة والمستهلكة للهيدروكربونات، مما يتيح لها فرصة بارزة للعب دور مؤثر في إدارة هذا القطاع الحيوي.
كما يشير إعلان قازان إلى استعداد مجموعة “بريكس” الموسعة لبدء مرحلة جديدة في تاريخها، حيث تهدف إلى تعزيز دورها كقوة مؤثرة في الحوكمة العالمية، خاصة في ظل ضعف تمثيل الجنوب العالمي في المؤسسات الدولية. ورغم عدم تبنيها لموقف مناهض للغرب، فقد صاغت المجموعة وثيقتها بعناية لتجنب أي مؤشرات على التحالف ضد الغرب، بينما تعترف بوجود مواجهة حتمية بين الغرب الجماعي وبقية العالم.
وتسعى “بريكس” كذلك إلى تعزيز نفوذها السياسي والاقتصادي ورفع تمثيل الجنوب العالمي، دون أن تهدف إلى أن تكون بديلًا عن مجموعة السبع نظرًا لتنوع أعضائها. في الوقت ذاته يُتوقع أن يثير إعلان قازان اهتمامًا كبيرًا في الأوساط السياسية والأكاديمية، رغم احتمالية مواجهة بعض الانتقادات. ومع اقتراب القمة المقبلة والمُزمع انعقادها في البرازيل في 2025، فإن الطريق من قازان إلى أمريكا اللاتينية سيكون مليئًا بالتحديات والفرص، حيث يُتوقع أن تسهم هذه القمة في تعزيز التعاون بين دول “بريكس” وترسيخ دورها كحليف قوي للجنوب العالمي، مما ينذر بتحولات هامة في النظام الدولي.
مٌخرجات قمة “بريكس”
في السياق ذاته، برز محوران رئيسان خلال هذه القمة، أحدهما يتعلق بإطلاق عملة موحدة، والثاني يتعلق بالانفتاح على انضمام دول شريكة جديدة.
- أولًا: العملة الموحدة بين دول “بريكس”
تعد خطوة إنشاء عملة موحدة من أبرز مخرجات قمة “بريكس” الأخيرة، حيث تهدف هذه العملة إلى تعزيز التجارة البينية بين دول المجموعة وتخفيف الاعتماد على الدولار الأمريكي. وعلى الرغم من عدم تحديد جدول زمني محدد لإطلاق العملة أكدت دول “بريكس” نيتها استكمال الترتيبات القانونية والمالية اللازمة لتهيئة البيئة الاقتصادية المناسبة لهذه العملة.
يُتوقع أن تسهم هذه الخطوة في تعزيز سيادة الاقتصادات الناشئة؛ وذلك من خلال تخفيف الضغوط الناتجة عن تقلبات الدولار وسياسته النقدية، وبالتالي تقليل احتمالات التضخم والاستقرار المالي في الدول الأعضاء. فضلًا عن تشجيع التبادل التجاري والاستثماري عبر تسهيل المعاملات المالية والتجارية بعملة موحدة، ما يعزز التجارة البينية ويخفض التكاليف المتعلقة بأسعار الصرف.
ومع ذلك، فإن هناك تحديات كبيرة تواجه توحيد السياسات النقدية بين دول “بريكس”، بالإضافة إلى التباين في الأداء الاقتصادي والتضخم بين الأعضاء. هذه العوامل تجعل تنفيذ هذا المشروع طموحًا يتطلب توافقًا وتنسيقًا قويًا على المدى البعيد. كما أن الحاجة إلى تعزيز التبادل التجاري والاستثماري، عبر تسهيل المعاملات المالية بعملة موحدة، تبقى مرتبطة بإيجاد حلول للتحديات القائمة لضمان نجاح هذا المشروع.
- ثانيًا: انضمام دول شريكة جديدة
كان الموضوع الخاص بانضمام دول شريكة جديدة للتحالف أحد المخرجات البارزة للقمة، فقد مُنحت صفة “دول شريكة” لـ 13 دولة، من بينها تركيا وكازاخستان وأوزبكستان والجزائر. وتختلف هذه العضوية عن العضوية الدائمة في أن الدول الشريكة ستحصل على فرصة المشاركة في فعاليات واجتماعات “بريكس”، لكنها لن تملك صلاحيات التصويت الكاملة التي تملكها الدول الأعضاء.
ويهدف هذا الاتجاه إلى توسيع قاعدة التحالف من خلال خلق شبكة أكبر تضم دولًا أخرى تشارك دول “بريكس” الأصليين نفس الاهتمامات الاقتصادية والسياسية، وذلك لتقليل الاعتماد على النظام العالمي الذي تهيمن عليه دول الغرب. فضلًا عن إشراك الدول النامي؛ إذ إن الكثير من الدول الشريكة تعد من الأسواق الناشئة التي تواجه تحديات اقتصادية وسياسية مشابهة لدول “بريكس”. وإتاحة الفرصة لهذه الدول للمشاركة يتيح أمامها فرص التمويل والاستثمار البديل بعيدًا عن المنظمات المالية التقليدية مثل صندوق النقد الدولي.
ختامًا، تؤكد مخرجات قمة “بريكس” الـ16 في قازان التوجه الاستراتيجي للمجموعة نحو تعزيز دورها كقوة مؤثرة في النظام الدولي، مع سعيها إلى توسيع قاعدتها من الدول المتحالفة وتطوير أدوات مالية مستقلة. وعلى الرغم من التحديات الكبيرة المتمثلة في التباينات الاقتصادية والسياسية بين الأعضاء، فإن الزيادة في عدد الدول الراغبة في الانضمام إلى “بريكس” تعكس الطموح المتزايد لتعزيز الأدوار الاقتصادية والسياسية للدول النامية. ومن خلال التركيز على التعاون المتعدد الأطراف وتعزيز التضامن، يمكن أن تكون “بريكس” نقطة تحول في إعادة هيكلة النظام الدولي، مما يمنحها فرصة حقيقية لتكون فاعلًا رئيسًا في تشكيل الأجندة العالمية المستقبلية. إلا أن نجاح هذه المبادرات يعتمد على قدرتها على الابتكار والتكيف مع التحديات الجديدة، مما يتيح لها الفرصة لتحقيق تأثيرات إيجابية على القضايا العالمية المشتركة.
المصادر
- Vanshika Saraf, “BRICS Summit Was a Vote of Support for Global Governance Reform, Not for Russia”, (The diplomat, October 28, 2024), URL: https://thediplomat.com/2024/10/brics-summit-was-a-vote-of-support-for-global-governance-reform-not-for-russia/
- Андрей Кортунов, “«Манифест нового мирового порядка»: разбираем Казанскую декларацию БРИКС”, (Russia council, 25 октября 2024), URL: https://russiancouncil.ru/analytics-and-comments/comments/manifest-novogo-mirovogo-poryadka-razbiraem-kazanskuyu-deklaratsiyu-briks/?sphrase_id=163405712
- Владимир Кулагин, “Как завершался саммит БРИКС в Казани”, (vedomosti, 25 октября), URL: https://www.vedomosti.ru/politics/articles/2024/10/25/1070828-kak-zavershalsya-sammit-briks
- “Путин объявил о завершении 16-го саммита БРИКС: Новые члены органично влились в семью”, (eadaily, 24 октября 2024), URL: https://eadaily.com/ru/news/2024/10/24/putin-obyavil-o-zavershenii-16-go-sammita-briks-novye-chleny-organichno-vlilis-v-semyu