
ماذا تعني الثورة الصناعية الرابعة؟
ظهر مصطلح “الثورة الصناعية الرابعة” في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس -سويسرا، عام 2016، وكان ينبأ بثورة تكنولوجية جديدة ستغيِّر بشكل أساسي الطريقة التي نعيش ونعمل ونرتبط بعضنا بالبعض الآخر بها، وإن حجم التحوُّل ونطاقه وتعقيداته، سيكون مختلفاً عما شهدته البشرية من قبل.
فقد فاق التطور الهائل، الذي نشهده، ما أحدثته الثورات الثلاث السابقة، فلم يعد تغيرا في نمط الحياة فقط، فقد تميَّزت كل واحدة من الثورات الصناعية الثلاث السابقة باختراقٍ تكنولوجي أو علمي كبير، أحدث نقلةً في أنماط الاقتصاد والإنتاج، ثم في الحياة الاجتماعية والفردية، وعلاقة الإنسان بالطبيعة والأشياء على مستوى العالم بأجمعه.
الثورة الصناعية الأولى
تُعد هذه الثورة انقطاعا كبيرا عن تاريخ طويل من نمط الحياة البدائي ووسائل الانتاج والعلاقات البدائية التي استمرت لآلاف السنين، إلى أحوال أخرى مختلفة، وقد حصلت بفعل اختراع المحرِّك البخاري في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، وهو آلةٌ تستخدم قوة البخار لأداء عمل ميكانيكي بواسطة الحرارة، وينتج عنها طاقة وكانت الناتج كالاتي:
*- تحوُّل كبير من الاعتماد الواسع على طاقة الحيوانات والجهد العضلي للبشر والكتلة الحيوية للطاقة (الحطب وغيره)، إلى استخدام الطاقة الميكانيكية والوقود الأحفوري، كالفحم الحجري في ذلك الوقت، ونتج عن ذلك أن بدأت الآلات التي تعمل بالبخار تحل محل الأيدي العاملة مما أدى إلى نمو كبير في صناعات الفحم والحديد وسكك الحديد والنسيج.
وقاد هذا التوسع في هذه الصناعات الكبيرة إلى تدهور نمط الإنتاج التقليدي السابق في الأرياف والهجرة منها، فبدأنا نشهد في هذه الفترة توسع المدن وتقسيم العمل، وظهرت في بريطانيا أولا ثم الولايات المتحدة الامريكية.
الثورة الصناعية الثانية
حدثت نتيجة ظهور الكهرباء والإنتاج الشامل في خطوط التجميع في أواخر القرن التاسع عشر. وتميَّزت بأنها فتحت الأبواب أمام كثير من الاكتشافات والاختراعات الكبيرة الأخرى. ومن أبرز معالمها:
– ظهور محرِّك الاحتراق الداخلي الذي أحدث ثورة في صناعة النقل، كالسيارات والطائرات وغيرها.
– وحل البترول محل كل مصادر الطاقة الأخرى آنذاك.
– ظهور ما سمي بالمجتمع الاستهلاكي نتيجة انتاج السلع الاستهلاكية بكميات كبيرة.
الثورة الصناعية الثالثة
عندها يبدأ عصر جديد من التكنولوجيا، فجاءت نتيجة ما يسمي بالرقمنة (Digitization) والمعالِجات الدقيقة للبيانات والمعلومات والإنترنت وبرمجة الآلات والشبكات، في النصف الثاني من القرن العشرين، ومن خلالها ظهر الكمبيوتر وما أحدثه في عالم تخزين ومعالجة المعلومات وظهر معاها ما يلي:
-استخدام الألة وبرمجتها ورقمتنها، ما جعلها تحلُّ شيئاً فشيئاً محل الانسان. بالإضافة الي ثورة في عالم الاتصالات نتيجة ظهور الانترنت، وأدَّى التطور في خوادم (Server ) الكمبيوتر وقدراتها المتنامية باستمرار على تخزين المعلومات ومعالجتها إلى صعود المنصات الرقمية العملاقة مثل (فيسبوك، تويتر، جوجل.. الخ)، وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي التي أثرت على العلاقات الاجتماعية التقليدية.
الثورة الصناعية الرابعة
تعتبر الثورة الصناعية الرابعة هي التطور الطبيعي للثورة الصناعية الثالثة، خاصة مع ظهور الحاسب الالي وقدرته على معالجة وتخزين المعلومات، وكذلك الانترنت، فأدي ذلك الي ظهور تكنولوجيات ناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، وإنترنت الأشياء، والمركبات ذاتية القيادة، والطباعة ثلاثية الأبعاد، وتكنولوجيا النانو، والتكنولوجيا الحيوية، وعلم المواد، والحوسبة الكمومية، وسلسلة الكتل (Blockchain)، وغيرها.
فيمكن القول إن الثورة الصناعية الثالثة هي الرقمنة البسيطة، أما الثورة الصناعية الرابعة فتمثل الرقمنة الابداعية القائمة على الخوارزميات والتقنيات المتفاعلة والابتكار.
وتعتمد هذه الثورة على البنية التحتية وتقنيات الثورة الصناعية الثالثة، إلا أنها تقترح طرقاً جديدةً تماماً، بحيث تصبح التكنولوجيا جزءاً لا يتجزأ من المجتمع وحتى من أجسامنا البشرية كأفراد مثل:
– المدن الذكية، تعلم الالة وتقنيات الزكاء الاصطناعي، وتكنولوجيا الفضاء الخارجي.
– تقنيات التعديل الجيني والهندسة الوراثية.
– تقنيات سلاسل الكتل Blockchain وتطبيقاتها
ويبقي السؤال هل الدول والحكومات مستعدة للتحولات نتيجة الثورة الصناعية الرابعة؟
العالم والثورة الصناعية الرابعة
تكمن أهمية الثورة الصناعية الرابعة بأنها ستمثل عصب الاقتصاد في المستقبل حيث لن يكون للنفط الثقل الاقتصادي كما هو معروف الآن، ولكن هناك ملامح أكثر أهمية تميز الثورة الصناعية الرابعة ومنها:
إنتاج المعلومات:
يشهد العالم حالياً ظاهرة البيانات الضخمةBig Data) )، أو ما يمكن أن نطلق عليه «ثورة البيانات» ، فالبيانات تنمو بسبب تزايد تجميعها ، وساعد على ذلك ظهور الهواتف المحمولة بما لها من قدرة على التقاط المعلومات، وبروز الذكاء الصناعي وإنترنت الأشياء ، ومنذ ثمانينات القرن الماضي، تتضاعف السعة العالمية لتخزين البيانات كل 40 شهراً ، وبحسب بعض التقديرات، فإن 90% من البيانات في العالم تم إنتاجها في العامين الماضيين، ويُتوقع أن تزيد بمقدار 40% سنوياً ، ويوماً بعد يوم ، تتجلى أهمية البيانات الضخمة ومنافعها العامة في مجالات مختلفة ، تشمل الصحة وتحسين الخدمات والأبحاث والأمن ومكافحة الجرائم وغيرها، وتتيح التطورات في مجال الحوسبة الرقمية وعلم البيانات معالجة البيانات الضخمة وتحليلها آنياً.
أنماط الإنتاج:
تمثل الثورة الصناعية تقدمًا كبيرًا في التكنولوجيا وفي تحسين الإنتاجية بالإضافة إلي التحول في أنماط الإنتاج والعلاقات بين عناصر عمليات الإنتاج ، حيث تقوم الثورة الصناعية الرابعة على تمكين الاتصال الكامل لجميع المعلومات ذات الصلة في كل مرحلة من مراحل سلسلة الإنتاج ، وذلك من خلال إنشاء قطاعات إنتاج منفصلة لكل عملية ، موضحة كيفية ارتباطها ببعضها البعض ، وتجمع بين العديد من العمليات مثل تحسين كفاءة الإنتاج ، وتوفير الطاقة وتقليل الانبعاثات ، مما يجعل التصنيع جزءًا من صناعة المعلومات ، وفي الوقت نفسه ، يمكن أن يجعل الإنتاج مرنًا ويسمح بالتخصص الشامل ، مما يتيح إنتاج منتجات مختلفة في نفس خط الإنتاج ، مما سيحدث ثورة في مجالات الإنتاج والتخزين والنقل.
اقتصاد المشاركة
أدى انتشار الاندماجات الاقتصادية، وصعود أهمية الابتكار والتطوير والمشروعات الناشئة في الاقتصاد العالمي إلى تغير ثوابت مركزية في التفاعلات الاقتصادية على مستوى العالم؛ إذ لم تعد الملكية للأصول الثابتة المادية والبشرية مثل : رأس المال ، والعمل من ضمن العناصر الرئيسية لدورة الإنتاج ، وبات بمقدور الأفراد تشغيل مشروعات كاملة دون امتلاك الأصول اعتمادًا على الأنماط غير التقليدية لاقتصاد المشاركة.
وفي هذا الإطار، يمكن للأفراد العاديين تنفيذ مشروعات ابتكارية دون امتلاك الأصول ذات التكلفة العالية، ومن الأمثلة النموذجية لهذا النوع من المشاركة؛ الخدمات عبر الإنترنت، مثل Uber وخدمة Didi الصينية، التي تتيح للعملاء الحصول على خدمات سيارات الأجرة من القطاع الخاص ، وأصحاب السيارة ، والذى انعكس تأثيره ليس فقط على خدمة سيارات الأجرة ، ولكن أيضا على صناعة النقل بأكملها ، وربما في المستقبل القريب ، لن نحتاج إلى سائقين على الإطلاق.
حجم العمالة للشركات الناشئة
إن حقيقة إنشاء شركة ناشئة مع عدد أقل بكثير من العمال مقارنة بعشرة أعوام مضت أصبح أمراً ممكناً الآن ؛ لأن الشركات الرقمية لها تكاليف هامشية تميل أحيانا إلى الصفر، بالإضافة إلى ذلك ، فإن واقع العصر الرقمي هو أن العديد من الشركات الجديدة توفر “سلع المعلومات” مع انخفاض هائل في تكاليف التخزين والنقل وغيرها. على سبيل المثال ، لم تتطلب الشركات مثل Instagram أو WhatsApp الكثير من التمويل للبدء.
زيادة رفاهية الحياة
إن تنامى تطور التقنيات الرقمية بسرعة مذهلة مقارنًةً بالثورات الصناعية السابقة؛ فإن التأثير العظيم لهذه التحولات أصبح جليا في الخدمات والإنتاج ، وأصبح بلايين البشر يتواصلون بواسطة الهواتف المحمولة مع إنترنت ذات سرعات خيالية ، وقدرات غير محدودة للوصول إلى المعلومة ، إضافًةً إلى إنجازات تكنولوجية غير مسبوقة في مجالات الذكاء الاصطناعي والروبوتات، وإنترنت الأشياء ، والمركبات الذاتية القيادة ،والطباعة الثلاثية الأبعاد، والعملات الرقمية، وتقنيات النانو ، والتكنولوجيا الحيوية ، وعلوم المواد ، والحوسبة الكمومية ؛ والذى انعكس في النهاية على رفاهية الأفراد والمجتمعات.
تنافس الدول لتحقيق الثورة الصناعية الرابعة
تتسارع الدول والحكومات في توطين هذه التقنيات واستخدامها ففي عام 2017 كشفت الصين عن خطة طموحة للاستثمار في مجال الذكاء الاصطناعى خصصت لها 22 مليار دولار على مدى خمس سنوات هذا مع العلم أن الصين تتنافس مع أمريكا الآن على المقعد الأول عالميا في هذا المجال. وفى يناير 2018 وقعت دولة الإمارات اتفاقية تعاون مع المنتدى الاقتصادي العالمي لإنشاء مركز الثورة الصناعية الرابعة لإعطاء دفعة للحصول على تقنيات المستقبل.
كما أهتمت فرنسا بهذا المجال وخصصت مليار ونصف يورو لمدة 5 سنوات لأبحاث الذكاء الاصطناعي، فتم إعلان شركة آي. بى .ام الأمريكية العملاقة عن مشاركتها بالخبرة التكنولوجية في عدد من مراكز البحوث الفرنسية وتلاها شركات ألمانية ويابانية أخرى في هذا المضمار.
وعكست ميزانية وزارة الدفاع الفرنسية لعام 2019 مزيدا من الاهتمام بتطوير تطبيقات عسكرية تعتمد على الذكاء الاصطناعى فخصصت 2.8 مليار يورو لتكثيف برامج البحث والتطوير لإنتاج أسلحة ذكية لتتوافق مع حروب المستقبل والإعداد لإنشاء وكالة وطنية للابتكار العسكري.
وفي أكتوبر 2018 افتتح رئيس الوزراء الهندي مونى مركز الثورة الصناعية الرابعة في بلاده وذلك بهدف أن تصبح الهند مركزا عالميا للبحث في مجالاتها وأشار إلى أن هذه الثورة تفتح أمام الهند آفاقا جديدة في مجال الإنتاج والخدمات وتوجد الفرصة لمزيد من الشراكات بين الدولة والقطاع الخاص.
وتتنافس الدول في تبنى تطبيقات ومبتكرات الثورة الصناعية الرابعة نظرا لما تجنيه من وراء ذلك من فوائد في مجالات زيادة الإنتاج الصناعي والزراعي وتحسين جودته وتطوير الخدمات الحكومية وزيادة التصدير وتطوير نظام التعليم بما يشجع قيم الابتكار وتحقيق الشمول المالى والاجتماعي بحيث تتوافر صورة رقمية عن كل هيئة ومؤسسة ومواطن.
مصر والثورة الصناعية الرابعة
لم تغفل مصر الاتجاه العالمي نحو تطبيقات وملامح الثورة الصناعية الرابعة، وإنما أعلنت عن خطط الدولة في التحول الى المجتمع الرقمي والعدالة الرقمية بما يسهم في تحقيق الاصلاح الإداري وتطوير الخدمات الحكومية وتحسينها ومكافحة الفساد وأن هناك جهودا كبيرة لتطوير البنية المعلوماتية المصرية والتي تشارك فيها وزارة الاتصالات مع عدد من الوزارات الأخرى. كما أن هناك قرارا بالدخول في مجال صناعة الالعاب الإلكترونية والاهتمام بتدريب الشباب في هذا المجال.
وأعلنت مصر كثيرا من المبادرات القومية للتحول للاقتصاد الرقمي واستراتيجيات وطنية للتحول الرقمي والذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا المعلومات والابتكار، كما تم تأسيس المجلس الأعلى للتحول الرقمي، و تأسيس مجلس وطني للذكاء الاصطناعي يتبع مجلس الوزراء المصري عام 2019 ، و إنشاء المجلس القومي للمدفوعات، وإنشاء المجلس الأعلى للأمن السيبرانى وغيرها من المبادرات القومية وعلي رأسها مشروع ” مصر الرقمية” التي تقود الدولة في طريق التحول الرقمي ومن ثم الاقتصاد الرقمي واقتصاد المعرفة .وذلك لتحسين الاداء في عدد من القطاعات مثل النقل وتطوير البنية التحتية للنقل والطرق وتطوير منظومة التعليم والتكنولوجيا المالية والشمول الرقمي والأمن والسلامة وتأمين الاشخاص والمنشآت والمدن والمجتمعات الذكية. وكلها مجالات ومحاور من الضروري أن تصبح جزءا من عملية التغيير الكبرى التي تتم في بلادنا. وحسب ترتيب مصر على دليل التنافسية العالمية والدولية وفقا لمؤشرات الثورة الصناعية الرابعة مازال أمامنا شوط كبير علينا ان نعمل جميعا لاجتيازه سواء على مستوى الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني والإعلام. وعلينا أن ننمي وعي الرأي العام بالتحولات الكبيرة في العالم وأهمية انخراط مصر فيها.
باحثة ببرنامج السياسات العامة



