
“سد النهضة”.. السودان يعرض “مسودة اتفاق شامل” على مجلس الأمن
على خُطى مصر وإثيوبيا، قدّم السودان خطابًا رسميًا إلى مجلس الأمن الدولي أمس الأربعاء، بهدف إطلاع المجلس على آخر تطورات المشهد التفاوضي بشأن سد النهضة، مع التركيز على مبادرة “عبدالله حمدوك” رئيس الوزراء السوداني، التي هدفت إلى إستئناف المفاوضات الثلاثية، ودعا إليها جنوب أفريقيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كمراقبين، وردًا على الرسالتين الأخيرتين اللتين أرسلتهما مصر وإثيوبيا في 19 يونيو 2020، و 22 يونيو 2020.
لا بديل عن اتفاق شامل قبل الملء
أكدت دولة السودان في خطابها الثاني لمجلس الأمن ضرورة الوصول إلى اتفاق شامل غير مجزء قبل البدء في الملء من الجانب الإثيوبي، ففي حين أن السودان يعترف بحق إثيوبيا في تطوير مواردها المائية لصالح مواطنيها ورفاههم، فمن الحيوي أن تفعل إثيوبيا ذلك مع ضمان معالجة أي آثار سلبية محتملة وتخفيفها بشكل صحيح، بالتشاور والتنسيق الوثيقين مع الدول النهرية. علاوة على ذلك، يعتقد السودان بقوة أن أي قرارات من جانب واحد بشأن توقيت وقواعد ملء سد النهضة ستعرض ملايين الأرواح والمجتمعات للخطر.
وهي ذاتها الرسالة التي سعت السودان إلى ايصالها في خطابها الأول لمجلس الأمن في2يونيو2020، ردًا على الخطابين المصري والاثيوبي، وآنذاك. بعد أن تعثرت المفاوضات الثلاثية ولجأت مصر لمجلس الأمن للإستعانه به في حل الأزمة، ومنذ ان استؤنفت المفاوضات الثلاثية تم عقد سلسلة من النقاشات عبر الفيديو، تقدمت خلالها السودان بثلاث مسودات للإتفاق الشامل في 10 و 12 و 14 يونيو 2020، كانت آخرهم المسودة التي قدمتها السودان في 14يونيو2020، تستند هذه المسودات إلى الإجماع الذي تم تحقيقه حتى منتصف فبراير 2020 في واشنطن، بالإضافة إلى المناقشات الفنية الثنائية والمفاوضات الثلاثية التي عُقدت خلال الفترة من 19مايو2020، حتى17 يونيو2020.
أبرز القضايا الخلافية وكيفية معالجة المقترح السوداني لها
أكد السودان في خطابه أن الأطراف الثلاثة أحرزت تقدمًا كبيرًا في أكثر من 90% من القضايا الفنية الرئيسية، ولا سيما الملء الأول، والتشغيل السنوي، وتدابير التخفيف. ومع ذلك، فيما يتعلق بالمسائل القانونية، ظهرت فجوة واسعة في القضايا ذات الطبيعة القانونية الملزمة للاتفاقية بما في ذلك التعديلات، وآلية حل النزاعات، وهو ما تحاول المبادرة السودانية تقديم حل وسط له.
وفيما يلي أبرز القضايا الخلافية وكيفية معالجة المقترح السوداني لها:
1- بالنسبة للملء وتدابير الجفاف:
يقترح السودان أن يتم ملء السد على مراحل، مع تسريع الملء أو تباطؤه وفقًا لكمية المياه في النهر، على أن تتم التعبئة خلال شهري (يوليو وأغسطس)، وربما في سبتمبر، إذا كان مستوى المياه خلال ذلك الشهر أعلى من المتوسط. وبمجرد ملء سد النهضة للمرة الأولى، سيتم تعبئته بعد ذلك موسميًا خلال موسم الفيضان (يوليو، واغسطس، وربما سبتمبر)، وفي حالة حدوث جفاف، يتبنى مقترح السودان تدابير التخفيف من خلال الرجوع لقواعد الملء الأول، والاستفادة بالمخزون الاستراتيجي المحجوز في السد، حيث يتم تحريره لتوليد الطاقة. ومع ذلك، فإن حالة سنوات الجفاف (شبه) الطويلة، وكيفية التعامل معها، لا تزال قيد المناقشة من قبل الدول الثلاث.
2- تبادل البيانات لضمان التشغيل الآمن للسدود:
تبنى اقتراح السودان آلية لتبادل البيانات على أساس شهري بين خزان سد النهضة وخزانات المصب، بينما يتم تباددل البينات بشكل يومي مع سد الروصيرص بسبب قربه من سد النهضة، وهو أمر بالغ الأهمية لضمان التشغيل الآمن لخزان روصيرص الذي يبلغ حجمة (عُشر) حجم سد النهضة.
3- الإشارة إلى اتفاق تقاسم المياه:
يظل التعنت الإثيوبي يسيطر على المشهد، فوفقًا لما ذكره السودان في خطابه، تُصر إثيوبيا على إدراج بند يفرض على البلدان الثلاثة أن تتوصل إلى اتفاق لتقاسم المياه في غضون 10 سنوات وفقا لإتفاق الإطار التعاوني “اتفاقية عنتيبي”، وهو اتفاق لم يوقعه السودان، ومصر ليست طرفًا فيه. كما أن مسألة تقاسم المياه خارج نطاق هذه الاتفاقية المخصصة لسد النهضة.
بالإضافة إلى ذلك، تُصر إثيوبيا أيضًا على إدراج بيان يفيد بأنها لا تعترف بمعاهدة عام 1959 بين مصر والسودان على الرغم من أن تلك المعاهدة لا علاقة لها بالاتفاق الجاري التفاوض عليه.
وهو ما يؤكد نوايا إثيوبيا من إستغلال الاتفاق لتحقيق أغراضها الخبيثة فيما بعد، واستخدامه للضغط على مصر والسودان في قضايا تقسيم المياه فيما بعد، والأعجب ان إثيوبيا ذاتها تذرعت في خطابها المرسل لمجلس الأمن بأن مصر هي من تحاول إقحام الحقوق التاريخية واتفاقية 1959 في المفاوضات، بينما يؤكد السودان في خطابة ان إثيوبيا هي من تحاول القيام بذلك، لأغراض دنيئة، وليست مصر.
في هذا السياق، لا يشير اقتراح السودان إلى أي معاهدات مائية قائمة مسبقًا لضمان عدم اعتبار أي طرف، من خلال التوقيع على الاتفاقية، بشكل ضمني أو عن غير قصد على أنه قد اعترف باتفاقية ليست طرفاً فيها. ويمضي الاقتراح ليقول إن الاتفاقية “لن تمس بحقوق أي من الدول الثلاث في التطورات الحالية والمستقبلية في اتجاه سد النهضة”.
4- آلية تسوية النزاعات:
ترغب إثيوبيا في قصر آلية تسوية المنازعات على الخيارات الفنية والسياسية فقط، في شكل “مبادئ توجيهية”، دون وجود اتفاق قانون ملزم، بينما ترفض كل من مصر والسودان هذا الأمر إذا لا جدوى من الاتفاق إذا لم يكن هناك جانب إلزامي في تنفيذه، حيث أن وجود عملية ملزمة لتسوية المنازعات أمر حاسم لاستدامة أي اتفاق يتم التوصل إليه.
وفي ظل رفض إثيوبيا اللجوء للمحاكم الدولية في حالة النزاع، اقترح السودان وجود آلية تدريجية تتضمن خيارات فنية وسياسية وأخيرًا قانونية، بنفس روح اتفاق إعلان المبادئ، فوفقا لهذا المقترح اذا حدث أي نزاع يتعلق بالاتفاقية، ستحاول لجنة التنسيق الفني (TCC) حله، وإذا فشلت، فسيتم تقديم المشكلة إلى المجلس الوزاري (MC)، وإذا لم يتم حلها، فسيتم تصعيد المشكلة لرؤساء الدول. وأخيرًا، إذا لم يتمكن رؤساء الدول من إيجاد حل، فستُعرض القضايا على هيئة تحكيم، لإصدار تقرير نهائي وملزم (تتكون هيئة التحكيم من 5 أعضاء، عضو من كل طرف، بالإضافة إلى اثنين مستقلين يعينهما الأمين العام لمحكمة التحكيم ويعين رئيس الهيئة من هذين العضوين). على ان تكون المدة المحددة لكل آلية لحل النزاع لا تتجاوز 30يومًا، يستطيع بعدها أي طرف منفردًا طلب التصعيد للآلية التالية.
ولضمان ان تكون الاتفاقية ملزمة قانونًا، يقترح السودان إدراج بند في الاتفاقية ينص على “ان الاتفاقية ملزمة قانونًا ولا يمكن تعديلها أو إنهائها بدون موافقة الأطراف الثلاثة”.
5- الأثر البيئي والاجتماعي للسد:
يحتوي مشروع مقترح السودان على التزام الأطراف الثلاثة باستكمال تقييمات الأثر البيئي والاجتماعي التي تم تأجيلها. هذه الدراسات مهمة لتحديد وتقييم الآثار وتحديد تدابير التخفيف المناسبة. ينص مشروع الاقتراح على أن “تقوم الأطراف بتقييمات الأثر البيئي والاجتماعي العابرة للحدود ذات الصلة، وتتناول توصيات هذه الدراسات بعد الموافقة عليها”.
وهو ما سيلزم إثيوبيا بإستكمال الدراسات التي رفضت إستكمالها من قبل، فمن غير المعقول ان يتم بناء سد بهذا الحجم على نهر عابر للحدود بدون استكمال الدراسات البيئية والاجتماعية العابرة للحدود، لتقييم مدى تأثر دول المصب بسد النهضة التي تدعي إثيوبيا عدم وجود تأثيرات سلبية له، ستساعد نتائج هذه الدراسات على تقليل الأثار السلبية ومحاولة تلافي جزء منها قدر الإمكان، أما حالة الجهل بهذه الآثار التي ترغب إثيوبيا في إستمرارها فقد تؤدي إلى نتائج كارثية.
مطالب السودان من مجلس الأمن
اختتم السودان خطابه بأنه يرى أن الدول الثلاث قريبة جداً من إبرام صفقة شاملة، وأن اقتراح السودان في 14 يونيو 2020 هو اتفاقية شاملة وعادلة ومتوازنة يجب أن تتبناها الدول الثلاث كأساس لاتفاقها. بالإرادة والالتزام السياسيين من الطرفين يمكننا إبرام هذا الاتفاق التاريخي.
وطلب السودان من مجلس الأمن النظر في ثلاثة أمور:
(1) دعوة قادة الدول الثلاث لإظهار إرادتهم السياسية والتزامهم من خلال حل القضايا القليلة المتبقية وإبرام اتفاق.
(2) دعوة الأطراف إلى اعتماد المسودة الشاملة التي قدمها السودان كأساس لوضع اللمسات الأخيرة على الاتفاق.
(3) ثني جميع الأطراف عن الإجراءات الأحادية بما في ذلك ملء الخزان قبل التوصل إلى اتفاق.
وختامًا، فإن خطاب السودان لمجلس الأمن يؤكد ثبات السودان على موقفها الذي أعلنته في خطابها الأول لمجلس الأمن بتاريخ 2يونيو 2020، ويعطي دلالة واضحة على تقارب وجهات النظر المصرية السودانية، في الوقت الذي تصر فيه إثيوبيا على تزييف الحقائق، واستخدام كل الطرق الملتوية لتحقيق أغراضها الخبيثة من وراء سد النهضة.
يذكر أن المسودة السودانية المطروحة بتاريخ14 يونيو 2020، قدمت حلولًا منطقية إلى حد كبير، تحتاج إلى مزيد من التطوير، ولكن إعتمادها كأساس للإتفاق قد يساعد في سرعة حل الأزمة، خاصة وان فرص الوصول لإتفاق تضيق مع الوقت.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية