
سلام أم استسلام؟.. كيف نقرأ محددات الاستراتيجية الأمريكية لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية؟
تشغل الولايات المتحدة موقعًا معقدًا على الساحة العالمية، توازن فيه بين صورتها كصانعة سلام ومكانتها كقوى عظمى تعطي الأولوية لمصالحها الاستراتيجية على حساب الاستقرار العالمي. ومنذ نهاية الحرب الباردة، اتبع الرؤساء الأمريكيون سياسة خارجية مختلطة بين الواقعية والليبرالية كانت سببًا في التدخلات الأمريكية في حرب الخليج (1990-1991)، وحرب أفغانستان (2001-2021)، وحرب العراق (2003-2011)، والتدخل في ليبيا وسوريا، والحرب بين روسيا وأوكرانيا، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ويمكن اعتبار نهج الرئيس دونالد ترامب في التعامل مع الصراعات العالمية محاولة لتبني نهج “سلام الصفقات” من خلال عدسة برجماتية، تركز على المكاسب الاقتصادية، وينعكس هذا النهج على الحرب الروسية الأوكرانية من خلال “سياسة الحرب الاقتصادية”، التي تفرض على الدولة الأضعف أن تتاجر بمواردها من أجل الحماية.
مع حلول الذكرى الثالثة للغزو الروسي في أوكرانيا، ذهبت بعض التحليلات في البداية إلى أن المواجهة ستنتهي سريعًا بعد تحقيق روسيا مكاسب نوعية خاطفة، ولكن تطور النزاع إلى اشتباك طويل الأمد أظهر عدم وجود أي أفق سياسي للحل أو التراجع. وما كان يُنظَر إليه في البداية على أنه مناورة تكتيكية لتعزيز مكانة روسيا في أوروبا الشرقية أصبح تحديًا كبيرًا يواجه العالم، بداية من تدمير أوكرانيا، وتدهور العلاقات بين القوى العظمى إلى أدنى مستوياتها، وانخفاض الإنتاج الصناعي في ألمانيا بسبب الركود، مرورًا بالاضطرابات السياسية في أوروبا التي أدت إلى تصاعد قوى اليمين المتطرف، وتراجع القوة الأمريكية أمام العالم، وانتهاءً بأزمة غذاء عالمية ضربت الدول النامية في مقتل. وما زاد الأمور تعقيدًا بعد تنصيب “ترامب” قراره بوقف جميع المساعدات الأجنبية وقطع التمويل عن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية التي تمنح حوالي 90٪ من إجمالي تمويل وسائل الإعلام في أوكرانيا[1].
في أقل من شهر من دخول “ترامب” البيت الأبيض، قوض ثلاث سنوات من السياسة الخارجية الأمريكية تجاه أوكرانيا. وصدم نظراءه الأوروبيين باتصال هاتفي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الثاني عشر من فبراير، أعلن بعده بدء مفاوضات السلام بين الإدارتين. ليلتقي “ثلاثي التفاوض” المؤلف من وزير الخارجية “ماركو روبيو” ومستشار الأمن القومي “مايكل والتز” والمبعوث الخاص إلى الشرق الأوسط “ستيف ويتكوف” في 18 فبراير مع الوفد الروسي، المكون من وزير الخارجية “سيرجي لافروف” ومستشاره “يوري أوشاكوف” في الرياض لاختبار مدى استعداد الكرملين للانخراط في محادثات السلام. وفي خلفية تلك الصورة تقف أوكرانيا التي لم تُدع إلى مفاوضات السلام حول مستقبلها، ومعها بروكسل المحكوم عليها باللا جدوى السياسية والاستراتيجية.
مخرجات محادثات الرياض
عُقدت أول مفاوضات رسمية بين الولايات المتحدة وروسيا منذ بدء الحرب الشاملة في أوكرانيا بالعاصمة السعودية الرياض. واستمرت المحادثات نحو خمس ساعات، خرجت بتقييمات إيجابية من قبل الجانبين. فأشارت التصريحات الرسمية إلى أن اللقاء استهدف “استعادة كامل نطاق العلاقات الأمريكية الروسية، والتحضير لمحادثات محتملة بشأن القضية الأوكرانية، وترتيب لقاء بين ترامب وبوتين”. وفي الواقع، فإن الهدف من المحادثات كان معرفة النوايا الحقيقية للرئيس الروسي من حيث الاستعداد للتفاوض لإنهاء سريع للحرب التي بدأها في عام 2014 بضم شبه جزيرة القرم واحتلال جزء من إقليم دونباس، والتي حقق فيها قفزة نوعية بغزو أوكرانيا في عام 2022.
واتفقت موسكو وواشنطن خلال محادثات الرياض التي وصفت بـ”الناجحة” و”الإيجابية”، على عدة مبادئ أساسية تشمل[2]:
- الموافقة على صيغة المفاوضات و”آلية التشاور” بشأن أوكرانيا. والإسراع بتعيين السفراء وبدء المشاورات على مستوى نواب وزراء الخارجية لإزالة القيود على أنشطة البعثات الدبلوماسية في البلدين، وتعيين واشنطن لفريق رفيع المستوى للمساعدة للعمل على إنهاء الحرب في أوكرانيا.
- مناقشة المسائل القانونية المتعلقة بإرسال قوات حفظ سلام في أوكرانيا، حيث لا ترغب روسيا في السماح بوجود جنود من الدول الأعضاء بالناتو في أوكرانيا. وهي الفكرة التي تُناقش داخل الدوائر الأوروبية لتأمين وقف إطلاق النار المحتمل. وقد سبق أن طرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الفكرة في ديسمبر 2024، وأعلن رئيس الوزراء البريطاني رغبته في المشاركة، غير أن المانيا رفضت المشاركة في قوات حفظ سلام. وطلب الوفد الروسي ليس فقط عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، ولكن إلغاء قرار قمة بوخارست لعام 2008، التي وعدت كييف بعضوية الحلف دون تحديد إطار زمني محدد.[3]
- الاتفاق على البدء في مناقشة التعاون الجيوسياسي والاقتصادي الذي قد توفره نهاية الحرب في أوكرانيا للولايات المتحدة وروسيا، واستئناف قنوات الاتصال بشأن القضايا الدولية الأخرى، مع الأخذ في الاعتبار المسؤولية الخاصة التي تتحملها روسيا والولايات المتحدة في مسائل السلام والأمن باعتبارهما قوتين نوويتين، وعضوين دائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، إلى جانب إقامة حوار للاتفاق على سبل استئناف التعاون في المجال الاقتصادي، بما في ذلك الطاقة والفضاء وغيرها من المجالات ذات الاهتمام المشترك.
محددات الاستراتيجية الأمريكية في أوكرانيا
في ظل إدارة جو بايدن، اتخذت الولايات المتحدة موقفًا متشددًا ومتداخلًا من الحرب الروسية الأوكرانية، وقامت استراتيجيتها على ثلاثة عناصر من الدعم لأوكرانيا: الأول، الحفاظ على الوحدة الأوروبية وتماسك الحلفاء؛ الثاني، تقديم الجزء الأكبر من المساعدات الاقتصادية (منذ فبراير 2022، قدمت الولايات المتحدة 175 مليار دولار لأوكرانيا حوالي 7% من إجمالي الإنفاق الدفاعي المخصص خلال تلك الفترة)؛ الثالث، الدعم العسكري اللا محدود وتوفير أنظمة الأسلحة والتدريب والمعلومات الاستخباراتية والمشورة التي يحتاجها القادة الأوكرانيون[4].
ومنذ إعادة انتخاب “ترامب”، بذل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي جهودًا حثيثة لإقناع الرئيس الأمريكي بأن مستقبل أوكرانيا يستحق الدفاع من أجله، ولكن رسائله لم تحدث أي تغيير. وخلال مقابلة أجريت مع وزير الخارجية “ماركو روبيو” أكد أن واشنطن في ظل إدارة ترامب سوف تتبع سياسة خارجية تقليدية تقوم على وضع مصالحها قبل كل شيء ودور الدبلوماسية هو دعم تلك المصالح وتجنب الصراع [5]. تصريحات “روبيو” ساعدت في فك شفرة استراتيجية ترامب، فهو لم يذكر أوكرانيا، مما يعزز فكرة أن الرئيس “ترامب” لا يريد أن يرث سياسة “بايدن” الكارثية المتمثلة في الهزيمة العسكرية في أوروبا الشرقية. ووقف المساعدات الخارجية المقدمة للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية يعزز نهج “الباب الخلفي” المتمثل في الابتعاد عن أوكرانيا بنفس الطريقة التي انسحبت بها الولايات المتحدة سابقًا من فيتنام وأفغانستان.
بالتوازي مع تصريحات وزير الخارجية، رسم وزير الدفاع “بيت هيجسيث” في اجتماع قادة حلف شمال الأطلسي ملامح رؤية ترامب لحل النزاع الروسي الأوكراني، وركزت على[6]:
- بينما تظل الولايات المتحدة ملتزمة بـ”أوكرانيا المستقلة والمزدهرة”، لم يعد من الواقعي أن تعود أوكرانيا إلى حدودها قبل عام 2014.
- عضوية أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي ليست نتيجة واقعية للتسوية التفاوضية.
- هناك حاجة إلى ضمانات أمنية قوية لأوكرانيا بعد الحرب، وهذه الضمانات يجب أن تكون مدعومة بقوات أوروبية وغير أوروبية، وليس القوات الأمريكية المنتشرة في أوكرانيا، وألا تكون جزءًا من مهمة حلف شمال الأطلسي.
باستقراء تصريحات إدارة “ترامب”، نجد أن الاستراتيجية الأمريكية تقوم صيغتها الأساسية على تقسيم أوكرانيا اقتصاديًا وليس سياسيًا، فتحتفظ أوكرانيا بدولتها، على الرغم من خسائر كبيرة في أراضيها؛ وتحصل روسيا على دولة محايدة وغير عدوانية وقابلة للسيطرة؛ وتستفيد الولايات المتحدة من المعادن النادرة في أوكرانيا، بالإضافة إلى إظهار “ترامب” قوته للناخبين الأمريكيين بأنه أستطاع منع الحرب العالمية الثالثة. إلى جانب ذلك تضع الاستراتيجية الأمريكية عدة مقترحات تشمل[7]:
- عقد اجتماع بين الرئيسين الأمريكي والروسي قبل نهاية شهر فبراير الجاري. واجتماع آخر بين “ترامب” و”بوتين” و”زيلينسكي” في النصف الأول من شهر مارس (اجتماع ثلاثي أو اجتماعان ثنائيان). وسيتم خلال الاجتماعات الموافقة على المعالم الرئيسة لخطة السلام، مع استمرار “ترامب” في إرسال المساعدات العسكرية إلى أوكرانيا.
- إعلان وقف إطلاق النار على طول خط المواجهة اعتبارًا من 20 أبريل 2025، وسحب جميع القوات الأوكرانية من منطقة كورسك.
- البدء في أعمال المؤتمر الدولي للسلام في نهاية أبريل 2025، والذي سيبرم اتفاقًا بين أوكرانيا والاتحاد الروسي بشأن إنهاء الحرب بوساطة الولايات المتحدة والصين وعدد من الدول الأوروبية والجنوب العالمي.
- وفي نهاية شهر أبريل، ستبدأ عملية تبادل الأسرى وفق صيغة “الكل مقابل الكل”.
- ومن المتوقع أن يصدر المؤتمر الدولي للسلام إعلانًا بشأن إنهاء الحرب في أوكرانيا على أساس المعايير المتفق عليها بحلول التاسع من مايو.
- عدم قيام أوكرانيا بتمديد نظام الأحكام العرفية والتعبئة العامة.
- انعقاد الانتخابات الرئاسية في أوكرانيا نهاية شهر أغسطس، والانتخابات البرلمانية والمحلية في نهاية شهر أكتوبر.
وستقوم المحددات الاستراتيجية المقترحة للاتفاق الذي سيُبرم في إطار المؤتمر الدولي على:
- إعلان أوكرانيا الحياد وأنها لن تكون عضوًا في حلف شمال الأطلسي[8].
- ستصبح أوكرانيا عضوًا في الاتحاد الأوروبي بحلول عام 2030. ويتحمل الاتحاد الأوروبي التزاماته تجاه إعادة إعمار البلاد بعد الحرب والتي تبلغ حوالي 500 مليار دولار[9].
- عدم تقليص حجم الجيش الأوكراني. والتزام الولايات المتحدة تقديم الدعم العسكري لتحديث القوات المسلحة الأوكرانية.
- عدم قيام أوكرانيا بمحاولات عسكرية أو دبلوماسية لاستعادة الأراضي المحتلة، وفي نفس الوقت لن تعترف رسميًا بسيادة الاتحاد الروسي عليها.
- سيتم رفع بعض العقوبات المفروضة على الاتحاد الروسي بعد التوصل إلى اتفاق السلام بشكل جزئي على مدى ثلاث سنوات، اعتمادا على التزام روسيا بمعايير الاتفاق. وسيتم رفع جميع القيود المفروضة على استيراد موارد الطاقة الروسية إلى الاتحاد الأوروبي. ولفترة زمنية معينة، سوف تخضع لرسوم خاصة من الأوروبيين، واستخدام عائداتها لإعادة إعمار أوكرانيا.
دوافع الاستراتيجية الأمريكية
الاستحواذ على المعادن النادرة: المحرك الرئيس لأهداف “ترامب” هو تأمين الوصول إلى الموارد النادرة في أوكرانيا، مقابل استمرار المساعدات الأمريكية. ووفقًا لرؤيته، تمثل هذه المبادرة فرصة لتعزيز مكانة الولايات المتحدة في قطاع المعادن النادرة، وهو أمر بالغ الأهمية للتكنولوجيا الخضراء والدفاع والعديد من الصناعات الأخرى. ومن خلال ضمان إمداد ثابت من المعادن الأساسية، وخاصة تلك المستخدمة في البطاريات وتقنيات الطاقة المتجددة، يطمح “ترامب” إلى تقليل اعتماد الولايات المتحدة على دول أخرى، خاصة الصين، التي تحتل حاليًا مكانة مهيمنة في سوق المعادن النادرة العالمية[10].
استبدال “زيلنسكي”: بعد مرور ما يقرب من عام على انتهاء الولاية الأولى للرئيس فولوديمير زيلينسكي التي استمرت خمس سنوات، اتفقت الولايات المتحدة وروسيا على أنه يجب على الأوكرانيين الذهاب إلى صناديق الاقتراع وتحديد ما إذا كانوا يريدون إعادة انتخاب “زيلينسكي” أو انتخاب رئيس آخر. وكان من المفترض أن تنتهي ولاية “زيلينسكي” في مايو الماضي، وكان من المقرر في الأصل إجراء الانتخابات في أبريل 2024. لكن مساعدي الرئيس قالوا إن الانتخابات لن تُعقد إلا بعد ستة أشهر من انتهاء الأحكام العرفية. حيث يحظر الدستور الأوكراني إجراء انتخابات في ظل الأحكام العرفية.
وقد اتفق المشاركون في المحادثات على إجراء الانتخابات في كييف قبل التوقيع على أي اتفاق سلام. وشن الرئيس ترامب هجومًا حادًا على الرئيس الأوكراني، بعدما قال إن لديه نسبة تأييد شعبي تبلغ 4%، وحمّل كييف مسؤولية بدء الحرب مع موسكو[11]. ومن غير المرجح فوز “زيلينسكي” في الانتخابات، بسبب تراجع شعبيته بشكل كبير في نهاية عام 2024. حيث أرهقت الحرب الأوكرانيين، وأدرك الكثير منهم أن الفوز فيها أمر مستحيل. ومن المتوقع أن يكون الخصم الرئيس “لزيلينسكي” هو فاليري زالوزني، وهو جنرال وسفير أوكرانيا الحالي لدى المملكة المتحدة. وكان “زيلينسكي” قد أقال “زالوزني” من منصبه كقائد للقوات المسلحة العام الماضي بعدما قال إن الحرب مع روسيا وصلت إلى طريق مسدود[12].
استغلال الوهن الأوروبي: رغم أن الدول الأوروبية قد تجاوزت الولايات المتحدة في الدعم المقدم لأوكرانيا، فإن هذا لا يعني أنها قادرة على أن تحل محل الولايات المتحدة؛ فالاتحاد الأوروبي يعد بالكثير ولكنه لا يزال بطيئا في التنفيذ. فمن بين 241 مليار يورو التي تم الإعلان عنها، لم يتم تخصيص سوى 125 مليار يورو. ولعل الأهم من ذلك أن الولايات المتحدة توفر المظلة الأمنية الشاملة لأوروبا التي تردع روسيا، وإذا خفضت الولايات المتحدة التزامها تجاه أوكرانيا واشترطت تلبية معينة لتقديم الدعم في المستقبل، فلن تكون القوى الأوروبية في وضع يسمح لها بسد جميع الفجوات. وبالتالي، قد لا يكون أمام القوى الغربية سوى خيار التعايش مع أي اتفاق يبرمه “ترامب” بشأن أوكرانيا، حتى لو كان يتعارض مع مصالحها الخاصة. وإذا كانت الولايات المتحدة ستجعل مشاركتها العسكرية في أوروبا مشروطة بدعم سياسي أوروبي للاتفاق، فمن المرجح أن يلتزم حلفاء الناتو بالصفقة، ولن يخاطروا بتأمين مستقبل دولهم مقابل دعم أوكرانيا.
تداعيات محتملة
بالنظر إلى الوضع الحالي، فإن مجريات حل الصراع والمسار الواسع للسياسة الخارجية الأمريكية سوف يتوقف على عدة عوامل أساسية: فإذا أعطى “ترامب” الأولوية للدبلوماسية المباشرة مع روسيا وتجاوز حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، فقد يؤدي هذا إلى تغيير ديناميكيات التحالف الغربي بشكل جذري؛ إذ كانت وحدة الحلف حجر الزاوية في الاستجابة للحرب بين روسيا وأوكرانيا، لكن استعداد “ترامب” للتعامل من جانب واحد مع بوتين قد يضعف هذا التماسك. ومن خلال استبعاد حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي لصالح المحادثات الثنائية، قد تضمن الولايات المتحدة وقف إطلاق النار أو اتفاق سلام بسرعة كبيرة، لكن ستفعل ذلك على حساب تقويض إطار الأمن الجماعي الذي حدد نظام ما بعد الحرب الباردة. وعلى هذا هناك عدة تداعيات ستسفر عنها الاستراتيجية الأمريكية تبرز ملامحها في:
تحركات أوكرانية موازية: مع تنامي الزخم لإجراء محادثات سلام لإنهاء الحرب الروسية في الرياض، كان “زيلنسكي” في أبو ظبي للقاء رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان. وأعرب “زيلينسكي” عن قلقه من إمكانية إبرام اتفاق سلام دون مشاركة أوكرانيا، مؤكدًا رفض بلاده لأي تفاهمات تُتخذ دون علمها. وأشاد بدور الإمارات كوسيط محايد قد يساهم في تسهيل الحلول الدبلوماسية. وهدفت الزيارة إلى كسب الدعم السياسي والإنساني، حيث شدد “زيلينسكي” على ضرورة توحد أوروبا حول أوكرانيا، وحذر من أن قدرة بلاده على الصمود ستكون ضئيلة دون دعم خارجي، خاصة من الولايات المتحدة. وفي تحرك آخر موازي، رفض الرئيس الأوكراني، توقيع اتفاقية مقترحة مع الولايات المتحدة تمنحها حق الوصول إلى المعادن الأرضية النادرة في أوكرانيا، معتبرًا أن الوثيقة تركز بشكل أساسي على المصالح الأمريكية دون تقديم ضمانات أمنية ملموسة لأوكرانيا.
الاتجاه نحو الانسحاب من حلف الناتو: أكد “زيلينسكي” أنه “لن يقبل أبدًا أي قرار بين الولايات المتحدة وروسيا بشأن أوكرانيا لا يشمل كييف. وأن السلام لا يمكن أن يدوم دون التزام ملموس من واشنطن”[13]. وتحذر التقديرات من وجود مؤشرات حول انسحاب الولايات المتحدة من حلف الناتو؛ ففي 12 فبراير 2025، قال وزير الدفاع بيت هيجسيث لمجموعة الاتصال الدفاعية الأوكرانية إن “الحقائق الاستراتيجية للولايات المتحدة تمنعها من التركيز في المقام الأول على أمن أوروبا”[14]. وينتظر “بوتين” إضعاف حلف شمال الأطلسي، من خلال سياسة الولايات المتحدة الأمريكية. وزعم الرئيس الأوكراني أن أوكرانيا لديها معلومات تجعلها تعتقد أنه قد يكون هناك غزو لبعض دول الناتو التي كانت جمهوريات سوفيتية مثل جورجيا ومولدوفا ودول البلطيق. وإذا حدث هذا ولم تكن هناك مظلة أمريكية، فيتوقع “زيلينسكي” أن أوروبا لن تستطيع الدفاع عن تلك الدول لأنها ضعيفة عسكريًا وغير قادرة على الدفاع عن نفسها. كما أن عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي أو أي تحالف عسكري آخر مع الغرب، ونزع سلاحها، من شأنه أن يجعل أوكرانيا عرضة للعدوان الروسي مرة أخرى. ومع ذلك فإن قرار ترامب بالانسحاب من حلف الناتو ليس بالقرار السهل فهو لا يريد أن يكون السبب في تفكك التحالف الغربي ولكنه سيواصل الضغط على حلفائه لإنفاق المزيد على الدفاع. [15]
خطر أفغانستان الثانية: أصبحت الحرب في أوكرانيا مرهقة ويائسة بالنسبة للاتحاد الأوروبي، مثل الحرب الأمريكية في أفغانستان. وسيكون انهيار أوكرانيا إهانة للولايات المتحدة أكثر من انسحابها من أفغانستان. فمن مصلحة واشنطن الحفاظ على قوة الغرب في أوكرانيا. ويحاول حلفاء كييف تأمين دعمهم لأوكرانيا في مواجهة “ترامب”، حيث تقوم بولندا بالتنسيق مع المملكة المتحدة للحفاظ على الدعم. وأجرى رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك محادثات مع نظيره البريطاني كير ستارمر حول كيفية الاستمرار في دعم أوكرانيا[16].
وتدرك القوى الغربية إن أحد الدروس التي يجب أن تتعلمها أوكرانيا من أفغانستان هو أن الدولة التي تتلقى المساعدة من الولايات المتحدة لابد وأن تدافع عنها قواتها الخاصة. وكان الدرس الآخر هو أن القوات الخاصة لابد وأن يتم تدريبها في وقت مبكر، وهذا ما حدث في أوكرانيا. فقد بدأت القوات الخاصة الأمريكية وقوات حلف شمال الأطلسي تدريب نظيراتها الأوكرانية في عام 2015، بعد غزو روسيا لشبه جزيرة القرم، وقبل سبع سنوات من الغزو الروسي واسع النطاق لأوكرانيا. ومع ذلك فإن مخاطر تحول أوكرانيا لأفغانستان ثانية ليس ببعيد؛ فالرئيس الأوكراني يقف اليوم بين روسيا والولايات المتحدة. فيجب عليه أن يفي لموسكو بجميع أهداف العملية العسكرية الروسية الخاصة، كما يتعين عليه أن يسدد لواشنطن أموال المساعدات العسكرية الأمريكية، التي بلغت نحو 500 مليار دولار، وباتت محاولات اتخاذ موقف تفاوضي أقوى محفوفة بالمخاطر[17].
ختامًا، ما أصبح واضحًا من محاولات “ترامب” لإنهاء الحرب هو أن السلام في أوروبا وفقًا للمنظور الأوكراني والأوروبي ليس من أولوياته؛ إذ تتمثل أولويته في تحقيق المصالح الأمريكية وفقًا لشعار “أمريكا أولًا”، ثم تحقيق وعوده الانتخابية بوقف الحروب سواء في أوروبا أو الشرق الأوسط أيًا كانت الطريقة وأيًا كانت النتيجة، ولذلك سارع إلى الاتصال بالرئيس الروسي وعُقدت المباحثات بين الدبلوماسيين الروس والأمريكيين، دون مراعاة لمطالب الحلفاء الأوروبيين وتخوفاتهم.
المصادر:
[1] USAID Funding Halt Leaves Ukrainian Media Seeking Support, https://www.kyivpost.com/post/46332
[2] Что показали переговоры США и РФ, от Киева потребуют выборов, провальный саммит Макрона. Итоги, https://strana.today/news/480307-itohi-1091-dnja-vojny-v-ukraine.html#google_vignette
[3] Media: Germany opposes sending troops to Ukraine without US involvement, https://www.eurointegration.com.ua/eng/news/2025/02/17/7205208/
[4] How Much U.S. Aid Is Going to Ukraine?, https://www.cfr.org/article/how-much-us-aid-going-ukraine
[5] Secretary of State Marco Rubio on What “America First” Foreign Policy Will Look Like, https://www.youtube.com/watch?v=U3V1UfsRCKg
[6] Europe’s humiliation: How Trump and Hegseth caught NATO off guard, https://www.theparliamentmagazine.eu/news/article/europes-humiliation-how-trump-and-hegseth-caught-nato-off-guard
[7] Перемирие к Пасхе, мир к 9 мая. В политкругах обсуждают 100-дневный план Трампа по Украине https://strana.today/news/478985-peremirie-k-paskhe-mir-k-9-maja-v-politkruhakh-obsuzhdaetsja-100-dnevnyj-plan-trampa.html
[8] What is known of Donald Trump’s ‘peace plan’ for Ukraine?, https://www.dw.com/en/what-is-known-of-donald-trumps-peace-plan-for-ukraine/a-71598106
[9] What is known of Donald Trump’s ‘peace plan’ for Ukraine?, https://www.dw.com/en/what-is-known-of-donald-trumps-peace-plan-for-ukraine/a-71598106
[10] Grabbing Ukraine’s minerals is a recipe for further instability, https://www.clingendael.org/sites/default/files/2025-02/Alert_Ukraine_Minerals.pdf
[11] Dark times for Zelensky as Russia and US push him out of the picture, https://www.telegraph.co.uk/world-news/2025/02/18/ukraine-peace-talks-zelensky-frozen-out/
[12] Zelenskyy faces perilous re-election odds as US, Russia push Ukraine to go to the polls as part of peace deal, https://www.foxnews.com/politics/zelenskyy-faces-perilous-reelection-odds-us-russia-push-ukraine-go-polls-part-peace-deal
[13] Zelenskyy outlines his vision for peace talks, NATO’s future and what he would say to Putin, https://www.nbcnews.com/politics/national-security/zelenskyy-outlines-vision-peace-talks-natos-future-say-putin-rcna192319
[14] US no longer ‘primarily focused’ on Europe’s security, says Pete Hegseth, https://www.theguardian.com/us-news/2025/feb/12/us-no-longer-primarily-focused-on-europes-security-says-pete-hegseth
[15] Trump’s Transformational Impact on US Diplomacy: A Bold Proposal for ending the Russia-Ukraine War, https://moderndiplomacy.eu/2025/01/09/trumps-transformational-impact-on-us-diplomacy-a-bold-proposal-for-ending-the-russia-ukraine-war/
[16] Abandoning Ukraine would be worse for US than Afghanistan withdrawal, ex-UK chief diplomat says, https://kyivindependent.com/hague-on-ukraine-afghanistan/
[17] Медведчук: Почему Зеленский привел страну к краху , https://theotherukraine.info/2025/02/19/medvedchuk-pochemu-zelenskij-privel-stranu-k-krahu/