الحرب الروسية الأوكرانية

انعكاس الدائرة.. الميدان الأوكراني وزخم المراحل الأخيرة للقتال

تستمر تفاعلات الحرب في أوكرانيا في التصاعد على كافة جبهات شرق وجنوب البلاد، مضافًا إليها جبهة كورسك الروسية، التي مثل دخولها المعادلة الميدانية، نقلة مهمة في شكل وإطار الأنشطة العسكرية، التي باتت عمليًا تشمل الأراضي الروسية أيضًا. هذا التفاعل رغم نوعيته وتعدد اتجاهاته، إلا أنه مازال –منذ أوائل العام الجاري- يدور في فلك “حرب الاستنزاف”، التي لم تؤد من حيث المبدأ إلا لإبطاء الزخم الهجومي الروسي في جبهات جنوب وشمال شرق أوكرانيا، ومن ثم عادت التحركات الهجومية الروسية لاستعادة وتيرتها السابقة، بل وتعدت هذه الوتيرة لتدخل عمليًا في حالة اندفاع هجومي لافتة، خاصة في شرق أوكرانيا.

حقيقة الأمر أن التقدير الذي تم التوصل إليه في التحليل المعنون (المقايضة المفاجئة.. اتجاهات الميدان الأوكراني بين معركتي كورسك وخاركيف)، خلص إلى أن الهجوم الأوكراني على كورسك، الذي بدأ في أغسطس الماضي، ورغم أنه يعد خطوة نوعية قد تسمح بتدشين مرحلة جديدة من مراحل استهداف العمق الروسي، إلا أنه لم يحمل أفقًا مستدامًا. وبالنظر إلى تراجع الموقف الميداني الأوكراني في الجبهة الشرقية، ستكون عملية كورسك خالية من أي فائدة تكتيكية معتبرة، في حالة ما لم تتزامن فعالياتها مع تغيير في التكتيكات الميدانية الأوكرانية.

وقد غابت بالفعل أي تغيرات جذرية أو نوعية في هذه التكتيكات من جانب الجيش الأوكراني، حيث اندفعت وحداته في اتجاه جيب “كورسك”، بهدف تحقيق أكبر اختراق ممكن، دون النظر إلى وضع الوحدات العاملة في الجبهات الأخرى، معتقدة أن الجيش الروسي سوف يلجأ لسحب قسم من وحداته المقاتلة في الدونباس، لمعالجة الاختراق الأوكراني، لكن واقع الحال أن موسكو لم تتعجل في التصدي لهذا الاختراق، وأعطت أولوية للتقدم في الدونباس، ولجأت إلى خيارات بديلة من بينها اللجوء إلى عناصر مقاتلة من كوريا الشمالية، تقدر أعدادها بين 8 و12 ألف عنصر، تم الدفع بها في اتجاه المواقع الأوكرانية التي تمت السيطرة عليها في كورسك، وهو ما ساهم، بجانب عوامل أخرى من بينها عدم توافر القوة البشرية الكافية للجيش الأوكراني، لدعم عملياته في كافة الجبهات، وهذا ما أشار إليه مؤخرًا، مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، في معرض تحليله لأسباب عدم فعالية التحركات الهجومية الأوكرانية الأخيرة.

يبدو من الضرورة بمكان النظر بشكل عام إلى الوضع الحالي في الجبهات القتالية الرئيسية بين الجيشين الروسي والأوكراني، وهنا تبرز جبهة “كورسك” كونها نقطة الاختراق الوحيدة التي حققتها القوات الأوكرانية في الأراضي الروسية. على مدار الشهرين الماضيين، تمكنت القوات الروسية – بعد وصول نطاق السيطرة الأوكرانية داخل كورسك إلى ما يناهز 1000 كيلو متر – من تنفيذ مرحلتين من مراحل التصدي للتحركات الأوكرانية، نتج عنها تحجيم الجانب الغربي من هذا الجيب، وتحديدًا نطاق جنوب بلدة “كورنيفو” و”سناغوست”، والمناطق الشمالية المتاخمة لبلدة “مالايالوكنيا”، والمناطق الجنوبية المتاخمة لمدينة “سودجا”، كما تمكنت من الوصول للحدود الدولية بين مقاطعة كورسك وإقليم سومي، في الجانب الغربي للجبهة جنوب بلدة “غلوشكوفا”.

بهذا أصبحت القوات الروسية عمليًا في طور تنفيذ المرحلة الثالثة من العمليات، التي تستهدف تدمير القوات الأوكرانية في الجيب الواقع بين بلدات “سودجا” جنوبًا، و”مارتينوفكا” شرقًا، و”مالايالوكنيا” شمالًا، و”سفردلكوفو” غربًا. لا يقتصر الموقف الميداني في كورسك على هذا، بل يضاف إليه بدء القوات الروسية عملية توغل محدودة في مقاطعة “تشيرنيهيف” الحدودية، الواقعة شمال مقاطعة سومي، والتي لم تعمل بها القوات الروسية إلا في الأشهر الأولى فقط من عملياتها في أوكرانيا، عندما كانت الخطة الروسية تقتضي تفعيل الجبهة الشمالية لأوكرانيا، بهدف الوصول السريع إلى كييف. العمليات الروسية في تشيرنيهيف تتم حاليًا على محورين، الأول في اتجاه جنوب بلدة “مورافي”، وفيه وصلت القوات الروسية إلى ضفاف نهر “سودست”، والثاني في اتجاه غرب بلدتي “كولوس” و”نوفوسليفكا”. وعلى الرغم من أن هذه العملية تبقى محدودة في نطاقها وزخمها، إلا أن دلالتها تبقى مهمة، سواء كان الهدف من تنفيذها هو اختبار الدفاعات الأوكرانية في هذا الاتجاه، أو التلويح بتفعيل كامل الجبهة الشمالية، كوسيلة للضغط على كييف في هذه المرحلة، حيث تكون بموجب هذا التقدم، جيب روسي في هذه المقاطعة، يبلغ عمقه 5 كيلو متر، وعرضه 10 كيلو متر.

الانكفاء الأوكراني في جبهة كورسك يترافق مع “شبه انهيار” للدفاعات الأوكرانية في الجبهات القتالية الأساسية في شرق وجنوب شرق البلاد، وبشكل خاص الجبهة الأقرب للعمليات في كورسك، وهي جبهة المثلث الرابط بين شمال إقليم لوهانسك وشرق إقليم خاركيف وشمال إقليم دونيتسك، والتي تعمل فيها القوات الروسية منذ فترة في اتجاه الغرب، على أربعة محاور رئيسية، تستهدف في الأول السيطرة على مدينة “كوبيانسك” الاستراتيجية، التي دخلت القوات الروسية إلى تخومها الشرقية خلال اليومين الماضيين، بعد عبورها نهر “أوسكيل”، وتستهدف في المحور الثاني الوصول إلى ضفة نهر أوسكيل، والالتفاف حول القوات الأوكرانية المتواجدة شرق النهر، عبر السيطرة على بلدة “بامبليفكا”، التي تُعتبر عمليًا آخر نقطة لإكمال الطوق على هذه القوات.

أما المحور الثالث فتستهدف القوات الروسية السيطرة فيه على بلدة “ليمان” الاستراتيجية، في ظل استماتة أوكرانية في الدفاع عن هذا المحور، خاصة النطاق الموجود بين بلدتي “تيرني” و”يامبولوفكا”، حيث يقع آخر رأس جسر للجيش الأوكراني على الضفة اليسرى لنهر زربتس. بشكل عام، تعتبر العمليات في هذه الجبهة هامة للغاية بالنسبة للقوات الروسية، لأنها ستمكنها من إعلان انتهاء العمليات العسكرية في كامل إقليم لوهانسك، بما في ذلك المناطق الغربية، وتأمين النطاق بين نهري زربتس وأوسكال، بما في ذلك مدينة ليمان، ومن ثم تشكيل تهديد على الطريق الرابط بين مدينتي سلافيانسك وازيوم، الصاعد حتى مدينة خاركيف.

الجبهة الثانية التي تشهد زخمًا قتاليًا هو الأكبر في شرق أوكرانيا، هي جبهة غرب دونيتسك. في هذه الجبهة تعمل القوات الروسية في التوقيت الحالي، على تحقيق هدفين أساسيين، الأول هدف عملياتي يقضي بالوصول إلى طريق “H-20” وخط السكك الحديدية الرئيسي، اللذان يمران على طول الجانب الغربي من مقاطعة دونيتسك، وما زال القسم الشمالي منهما خارج السيطرة الروسية، بما في ذلك مدن أساسية في هذا الاتجاه، منها “شيربينيفكا” و”كوستيانتينيفكا” و”كراماتورسك” و”سلوفيانسك”. أما الهدف الثاني فهو استراتيجي، يرتبط ببسط السيطرة على المناطق المتبقية في الإقليم، الذي تعتبره موسكو جزءًا من أراضيها عمليًا.

تقاتل القوات الروسية على سبعة محاور هجومية رئيسية، تتدرج من الشمال إلى الجنوب على طول خط المواجهة في القسم الغربي من دونيتسك، أولها هو محور مدينة “سيفرسك” التي تقع في أقصى القطاع الشمالي للجبهة، وتحديدًا جنوبي شرق مدينة ليمان، وتحاول فيه القوات الأوكرانية الصمود أمام الهجمات الروسية المستمرة، التي تحاول دخول المدينة والسيطرة عليها من الجهات الشرقية والجنوبية الشرقية، انطلاقًا من مدينة “كرامينا”. المحور القتالي الثاني في هذه الجبهة يقع إلى الجنوب من سيفرسك، وتحاول القوات الروسية فيه التقدم داخل مدينة “تشاسيف يار” انطلاقًا من مدينة باخموت، وأصبحت عمليًا في تخوم تشاسيف يار الشرقية، بجانب تقدمها من محور موازٍ باتجاه بلدة “ستبوتشكي” الواقعة جنوبي تشاسيف يار.

المحور الثالث – والأهم – في هذه الجبهة، هو محور مدينة “تورسك”، وهي من النقاط الاستراتيجية في القطاع الأوسط من جبهة غرب دونيتسك، وتشهد هذه المدينة في الوقت الحالي معارك عنيفة، تمكنت خلالها القوات الروسية من الوصول إلى مناطقها الوسطى، لكنها تواجه بمقاومة عنيفة من القوات الأوكرانية المتواجدة داخلها، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هذا المحور ومحور تشاسيف يار، يعملان بشكل متزامن، لأنهما هما الأقرب لتحقيق أحد أهم الأهداف العملياتية الروسية في هذه الجبهة، وهو السيطرة على مدينتي “كوستيانتينيفكا” و”كراماتورسك”. أما المحور الرابع، فيحمل هو الآخر أهمية خاصة، وهو محور مدينة “بكروفسك” جنوبي غرب تورسك، والتي تعتبر من النقاط المهمة في هذه الجبهة، نظرًا لأنها تقع على الطريق الإقليمي “M-30” الذي يربط بين إقليمي دونيتسك ودنيبرو، وتستهدف القوات الروسية السيطرة على هذه المدينة عبر التقدم نحوها من الاتجاه الجنوبي.

المحور الخامس للقتال في جبهة غرب دونيتسك هو محور مدينة “كوراخوفا”، وهي مدينة تحمل بدورها أهمية استراتيجية، كونها تطل على خزان “كوراخيفاسك” المائي الذي يتضمن واحدًا من أهم السدود الواقع على نهر “فوليتشا” وهو سد “تيرنيفسكا”، الذي تعرض لأضرار جراء العمليات القتالية الحالية في التخوم الشرقية والجنوبية للمدينة، وبات القتال حاليًا يجري داخل أحياء المدينة نفسها. أهمية هذه المدينة تنبع أيضًا من أنها تقع على طريق “H-15“، الرابط بين دونيتسك وعاصمة مقاطعة “زابوروجيا” المجاورة، وهو وسيلة إمداد أساسية للقوات الأوكرانية في القسم الجنوبي لجبهة غرب دونيتسك. أما المحور السادس في هذه الجبهة، فهو عبارة عن محورين فرعيين متوازيين لمحور كوراخوفا، يقع الأول جنوب محور كوراخوفا، وتستهدف فيه القوات الروسية بعد سيطرتها السابقة على مدينتي “أوغلدار” و”فوديانا”، التقدم انطلاقًا من مدينة “كوستاتينيفكا”، بهدف مرحلي هو الوصول إلى مدينة “أوسينيفكا”. أما المحور الثاني فهو للجنوب أكثر، ويستهدف السيطرة على مدينة “نوفوسيلكا”، التي تُعتبر آخر مدينة هامة في جنوب غرب دونيتسك.

يُضاف إلى المحاور السبعة السالفة الذكر، محاور أخرى في شمال مقاطعة زابوروجيا جنوب أوكرانيا، وتبقى هذه المحاور مهمة رغم أن التركيز الروسي في هذه المرحلة هو على محاور غرب إقليم دونيتسك. في الوقت الحالي تهاجم القوات الروسية المواقع الأوكرانية في القسم الشمالي من المقاطعة، عبر محور أساسي يسير بمحاذاة طريق “M-18” الذي يصل إلى المدخل الجنوبي إلى عاصمة الإقليم، وهي تقاتل حاليًا في التخوم الجنوبية لبلدة “كامينسكا”، ويحاذي هذا المحور تحركات مماثلة نحو الشمال، باتجاه بلدتي “أوريخيف” و”هوليابولي”. العمليات في هذه الجبهة تهدف في الوقت الحالي، لتثبيت الوحدات الأوكرانية المتواجدة في شمال الإقليم، ومنعها من التحرك نحو غرب دونيتسك لتعزيز القوات الأوكرانية هناك، بجانب تهديد عاصمة إقليم زابوروجيا، وقطع الطريق الرابط بينها وبين إقليم دونيتسك.

بالنظر إلى الموقف الميداني السالف ذكره، خاصة في كل من “كورسك” ومحاور جبهة غرب دونيتسك، يمكن الوصول إلى خلاصة مفادها أن القوات الأوكرانية تقاتل في هذه المرحلة بنفس المنهجية التي كانت تقاتل بها منذ فشل هجومها المضاد في صيف عام 2023، ومن هنا يجب النظر إلى أي تطور استراتيجي أو تكتيكي يرتبط بالعمليات العسكرية في أوكرانيا من خلال هذا المنظور الذي يعد إطارًا عامًا للتوجهات الأمريكية والروسية والأوروبية حيال هذه العمليات مستقبلًا. ومن أهم ملامح هذه التوجهات، ما يرتبط بالخطط الأمريكية المستقبلية لدعم الجيش الأوكراني، والتي تسير على مسارين أساسيين، الأول ميداني والثاني يرتبط بشكل أكبر برؤية إدارة ترامب الجديدة لمستقبل “الملف الأوكراني” في المدى المنظور.

فيما يرتبط بالمسار الميداني، نشرت بعض وسائل الإعلام الأمريكية خلال الأيام الماضية، أنباء عن أن إدارة بايدن أعطت للجيش الأوكراني موافقة على استهداف العمق الروسي باستخدام الصواريخ الباليستية التكتيكية “ATACMS“، وأن كلًا من فرنسا وبريطانيا قد أعطتا كييف -بالتبعية– موافقة على استخدام صواريخ “ستورم شادو – سكالب” الجوالة، لضرب مواقع داخل الأراضي الروسية. حقيقة الأمر أن هذه الخطوة قد تم النظر إليها من جانب عدد كبير من المحللين، بنظرة قاصرة لم تضع في اعتبارها حقيقة أن هذا القرار في أساسه ليس قرارًا جديدًا، فقد أعلنت الإدارة الأمريكية الحالية، في الثلاثين من مايو الماضي، عن رفع الرئيس بايدن بعض القيود المفروضة على استخدام أوكرانيا للأسلحة الأمريكية، بحيث يتم السماح باستخدام هذه الأسلحة لضرب أهداف تقع في الأراضي الروسية، وهو ما سمح بقصف المقاطعات الروسية القريبة من الحدود، بما في ذلك المصافي النفطية والقواعد الجوية.

وعلى الرغم من تنفيذ الجيش الأوكراني العديد من الهجمات باستخدام كلا النوعين، استهدفت قواعد جوية ومصافي نفط في الجانب الروسي من الحدود، إلا أن هذا لم يكن له الانعكاس المطلوب على الموقف العسكري الأوكراني بشكل عام، بالنظر لعدة عوامل، أهمها أن استخدام هذه الوسائط كان بمعزل عن الاستراتيجية الميدانية العامة للجيش الأوكراني على الأرض، وبالتالي يمكن القول من هذا المنطلق أن التعامل الأوكراني مع “السماح الأمريكي” بضرب العمق الروسي”، ستكون نتائجه مماثلة لما سبق، في حالة ما إذا اتخذ نفس المنهجية التي تنظر لاستهداف العمق الروسي على أنه “غاية” وليس “وسيلة”.

على الجانب التقني، تبدو صواريخ “ATACMS” العنصر الأهم في القدرات التي تمتلكها أوكرانيا حاليًا، نظرًا لسرعتها الكبيرة التي تسمح لها بقطع مسافة 300 كيلو متر في مدى زمني يبلغ 3 دقائق فقط، وهذه المسافة هي أقصى مدى لهذا النوع من الصواريخ الباليستية، وكذا صواريخ “ستورم شادو – سكالب” الجوالة، وهو ما يوفر لهذه القدرات مدى تغطية نظري داخل الأراضي الروسية، يشمل قواعد جوية أساسية تنفذ من خلالها المقاتلات الروسية عملياتها داخل الأراضي الأوكرانية، خاصة قاعدة “فورونيج” الجوية، ومطار كورسك، وقاعدة “ليبيتسك” الجوية، بجانب مستودعات الذخيرة ومحطات السكك الحديدية في مقاطعات روستوف وفورونيج وبريانسك وكورسك وبيلجورود. لكن تطرأ هنا عدة معضلات ترتبط بكمية الصواريخ المتاحة من كلا النوعين في الوقت الحالي لدى أوكرانيا، أو تلك التي من الممكن أن ترسلها إليها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، خاصة أن ألمانيا مازالت حتى الآن على موقفها السابق، برفض إرسال صواريخ “توروس” الجوالة إلى أوكرانيا، والتي يصل مداها أيضًا إلى 300 كيلو متر، وفضلت بدلًا من ذلك الإعلان مؤخرًا عن نيتها تسليم 4000 طائرة بدون طيار إلى كييف.

النقطة الثانية في هذا المسار ترتبط بأن القرار الأمريكي يتزامن مع قرارات أخرى لها أهميتها فيما يتعلق بالملف الأوكراني، منها:

● رفع إدارة بايدن الحظر الذي كان مفروضًا على تواجد المتعاقدين العسكريين الأمريكيين على الأراضي الأوكرانية، وهو ما يعني عمليًا امتلاك وزارة الدفاع الأمريكية القدرة على توفير عقود للشركات الأمريكية للعمل داخل أوكرانيا لأول مرة منذ بدء العمليات العسكرية عام 2022. وهذا يسمح بمعالجة القصور الذي طرأ بسبب هذا الحظر، والذي نتج عنه صعوبات لوجيستية تطلبت نقل المعدات العسكرية التي قدمتها الولايات المتحدة، والتي تعرضت لأضرار كبيرة خلال القتال، إلى خارج البلاد (بولندا أو رومانيا أو دول حلف الناتو الأخرى) لإصلاحها، وهي عملية كانت تستغرق وقتًا طويلًا كان له أثر سلبي واضح على الأداء الميداني الأوكراني، خاصة في جبهة كورسك.

● افتتاح الولايات المتحدة الأمريكية الشهر الجاري بشكل رسمي قاعدة دفاع جوي جديدة في شمال بولندا، وتحديدًا في بلدة “ريدزيكوفو” بالقرب من ساحل بحر البلطيق. تضم هذه القاعدة ثلاث مجموعات من القواذف العمودية، تسمح بإطلاق عدة أنواع من صواريخ الدفاع الجوي والصواريخ البحرية، من أهمها صواريخ الدفاع الجوي والصاروخي “SM-3“، بالإضافة إلى تمركز رادار إنذار مبكر يبلغ مدى تغطيته نحو 500 كيلومتر. يبعد موقع هذه القاعدة نحو 100 كيلومتر عن إقليم “كالينجراد” الروسي الواقع بين بولندا وليتوانيا.

● إعادة إدارة بايدن مؤخرًا، إصدار قرار سبق واتخذته في يوليو 2023، بشأن تزويد أوكرانيا بالألغام الأرضية المضادة للأفراد، وهو قرار يمكن مقارنته مع قرار السماح لأوكرانيا بقصف الأراضي الروسية، من زاوية أنه قرار “تمت تجربته سابقًا”، ولم تكن له الآثار الإيجابية المرجوة، لكن تبرر واشنطن قرارها بتزويد أوكرانيا بكميات من الألغام المضادة للأفراد، بأنها لمست تحولًا في التكتيكات الميدانية للوحدات العسكرية الروسية، باتت فيه عمليات التقدم الميداني تنفذ أولًا عبر وحدات مشاة خفيفة الحركة، وليس بقيادة وحدات مدرعة.

هنا يجب الربط بين القرارات الأمريكية “المعاد تدويرها” بشأن استهداف العمق الروسي وإرسال الألغام الأرضية، والوضع السياسي الحالي في الولايات المتحدة الأمريكية، في ظل “حالة انتقالية” ستتسلم خلالها إدارة جمهورية مقاليد حكم البيت الأبيض بدلًا من الإدارة الديمقراطية الحالية، وبالتالي من الجائز أن يتم النظر لقرار السماح لأوكرانيا “مجددًا” بضرب العمق الروسي، باعتباره خطوة سياسية، كجزء من زيادة عامة في المخاطر قبل أن ينتقل الصراع إلى مرحلة أخرى، والتي من المحتمل أن إدارة ترامب ستستخدمها لتبرير رفض محتمل لاستمرار دعم أوكرانيا على المستوى التسليحي، وبالتالي إجبار كييف على المسير في خطة ترامب لإنهاء العمليات العسكرية في أوكرانيا.

هذا التقدير تؤيده التسريبات التي ظهرت مؤخرًا حول “خطة أمريكية” يعتزم الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، عرضها للتنفيذ في أوكرانيا، من منطلق “العمل بجدية على إنهاء الحرب”. ملامح هذه الخطة ترتبط بذهنية أساسية “تفرض” على كييف وقف إطلاق النار، وتأجيل مساعيها للانضمام لحلف الناتو لمدة عشرين عامًا، وتتضمن هذه الخطة عدة سيناريوهات مقترحة، منها ما يفرض منطقة عازلة تفصل بين الجيشين المتقاتلين، بحيث يتم تجميد خطوط السيطرة الحالية على وضعها، وفي المقابل تقوم الولايات المتحدة بتزويد أوكرانيا بدفعات جديدة من الأسلحة، لردع موسكو عن استئناف العمليات القتالية لاحقًا، على أن تتولى “قوة أوروبية محايدة” عملية مراقبة وقف إطلاق النار. وعلى الرغم من أن هذه الخطة تحمل عدة نقاط وجيهة، خاصة ما يرتبط بتأجيل – أو إلغاء – مساعي كييف للانضمام لحلف الناتو، مقابل حصولها على ضمانات أمنية لحمايتها، إلا أنها لا تقدم حلًا “مرضيًا” لأوروبا وأوكرانيا، فيما يتعلق بمصير الأقاليم الأوكرانية الأربعة، التي قامت موسكو بضمها إلى أراضيها، وبالتالي ستكون هذه المسألة نقطة حاسمة في تحديد إمكانية نجاح الخطة الأمريكية من عدمها، وإن كان من الواضح أن التوجهات الأمريكية المتوقعة حيال أوكرانيا، ستفرض ضغوطًا كبيرة على أوكرانيا في المرحلة المقبلة.

التفعيل الأوكراني للقرار الأمريكي بشأن “ضربات العمق الروسي”، تم بشكل سريع، في التاسع عشر من الشهر الجاري، عبر ضربة صاروخية استهدفت منشأة عسكرية تابعة في مقاطعة “بريانسك” الروسية المتاخمة للحدود مع أوكرانيا، وهو ما أطلق رد فعل روسي لافت بعد هذه الضربة بيومين، تم خلاله الاستهداف الناجح لمؤسسة “يوجماش” الصناعية في مقاطعة “دنيبروبيتروفسك” الأوكرانية. منبع أهمية هذا الاستهداف لا يرتبط فقط باستهداف هذه المقاطعة – التي سبق وتم استهدافها مرات عدة – بل يرتبط بنوع السلاح الذي تم استخدامه لتنفيذه، فقد أظهرت التسجيلات المصورة، أن الصاروخ الذي استهدف هذه المنشأة، ينتمي لفئة الصواريخ الباليستية “متعددة الرؤوس الحربية”، وتأكد هذا بعد إعلان موسكو على لسان الرئيس الروسي، أن عملية الاستهداف قد تمت باستخدام الصاروخ الباليستي متوسط المدى، “أوريشنيك”، والذي كان مزودًا برؤوس حربية فرط صوتية.

من هنا، يمكن القول إن موسكو ستحرص خلال المدى المنظور على رفع تكلفة أي عملية استهداف لأراضيها، عبر تنفيذ ضربات صاروخية مقابلة في العمق الأوكراني، وقد تركز خلال الفترة المقبلة على الجانب الغربي من أوكرانيا، علمًا أن هذا التكتيك كان متبعًا من جانب موسكو بشكل عام خلال الفترة الماضية، ومن أمثلة ذلك الهجوم الصاروخي الواسع الذي تم في السابع عشر من سبتمبر الماضي، على البنية التحتية ومرافق الطاقة في مدن كييف وأوديسا ودنيبرو وكريمنشوك وكريفوي روج، وتم فيه استخدام نحو 120 صاروخًا، بما في ذلك صواريخ كروز وباليستية مثل “تسيركون” و”إسكندر” و”كينجال”، بجانب نحو 90 طائرة بدون طيار.

على المستوى الاستراتيجي، يمكن إجمال ردود الفعل الأخرى المتوقعة من جانب موسكو على الخطوات الأمريكية الأخيرة، علمًا بأن هذه الردود مؤطرة بشكل أساسي بحقيقة أنه حتى الآن لم تتضح بشكل كامل نوايا الإدارة الأمريكية المقبلة حيال الملف الأوكراني:

● التركيز بشكل أكبر على إنهاء التواجد الأوكراني في مقاطعة “كورسك” الروسية، وهو الهدف الذي أصبحت القوات الروسية – مدعومة بوحدات مشاة من كوريا الشمالية – قاب قوسين أو أدنى من تحقيقه. هذا يتوازى مع توسيع محتمل في العمليات الروسية بمقاطعة “تشيرنيهيف” الحدودية الأوكرانية، بشكل يمكن أن يشكل ضغطًا على العاصمة كييف، علمًا أن التحدي الأساسي أمام موسكو يبقى في محدودية القوى البشرية المتاحة لها لفتح جبهات جديدة، وهي المعضلة التي كان لها انعكاس على الأداء الروسي في بدايات معركة كورسك.

● احتمالات فتح جبهات جديدة – أو إعادة تنشيط جبهات مجمدة – تبقى مطروحة دومًا في الذهنية العسكرية الروسية، وهو ما يتضمن إعادة تنشيط جبهة “خيرسون” في جنوب أوكرانيا، وإمكانية إعادة فتح الجبهة الشمالية الأوكرانية، وهي الجبهة التي تم تنشيطها لوقت محدود في بدايات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، بهدف الوصول بشكل سريع للعاصمة كييف.

● التلويح بشكل أكبر بالورقة النووية، ولعل هذا كان واضحًا من خلال عدة إجراءات روسية تمت على مدار العامين الماضيين، وصولًا إلى توثيق التعديلات التي تمت على العقيدة النووية الروسية مؤخرًا، وكذا استخدام صواريخ قادرة على حمل الذخائر النووية عدة مرات على مدار العمليات القتالية السابقة في أوكرانيا، بما في ذلك صاروخ “أوريشينك” الجديد. هذا التعديل يتضمن بنودًا نوعية منها احتفاظ موسكو بالحق في استخدام الأسلحة النووية، حال تعرضها إلى عدوان؛ حتى في حال استخدام العدو للأسلحة التقليدية، لكن هذا البند حمل شرطًا أساسيًا وهو “إذا شكل هذا العدوان تهديدًا خطيرًا على سيادة الدولة”، وبالتالي يبقى الرابط بين تفعيل هذا البند وبين تنفيذ أوكرانيا هجمات في العمق الروسي، ضعيفًا رغم أهميته.

● توسيع التعاون العسكري مع كوريا الشمالية، وهو تعاون لا يزال في حده الأدنى في الوقت الحالي، لكنه سيوفر لموسكو في حالة توسيعه خزانًا بشريًا كبيرًا من المقاتلين وكميات ضخمة من الذخائر المتنوعة وقطع المدفعية الثقيلة، وهو ما يشكل “رمانة ميزان” تعادل كفة الدعم التسليحي الأوروبي لأوكرانيا، وفي الوقت نفسه يمثل التلويح بهذه الورقة “عامل ضغط” على أوروبا لمنعها من توسيع قاعدة دعمها العسكري لأوكرانيا.

خلاصة القول، إنه رغم بوادر التصعيد الميداني الحالية في أوكرانيا فإنه يمكن اعتبار جوهر التغيرات القائمة حاليًا في هذا الملف، بمثابة إرهاصات أولية للتمهيد لإنهاء العمليات القتالية في أوكرانيا، في ظل انكفاء القوات الأوكرانية الحالي، وعدم تمكن الجانب الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، من معادلة الكفة الروسية على المستوى الميداني، خاصة وأن الدعم العسكري المقدم لأوكرانيا، كان دومًا – مهما كان مستواه النوعي – لا يمثل سوى الحد الأدنى من الاحتياجات والإمكانيات، التي تكفي فقط للصمود الميداني ومواصلة القتال، دون الوصول إلى نقطة تسمح بتحقيق هزيمة كاملة لروسيا. بطبيعة الحال كل الأطراف في هذا الملف تنتظر بشكل حثيث الطرح الأمريكي المقبل حيال هذا الملف، لكن الأكيد أن كييف سترزح تحت ضغوط أمريكية كبيرة خلال الفترة المقبلة، في ظل ذهنية الرئيس الأمريكي المنتخب، الذي أعلن بشكل واضح أنه يستهدف إنهاء كافة الصراعات العسكرية الرئيسية حول العالم، وسيبقى السؤال قائمًا حول ثمن تحقيق هذا الهدف في أوكرانيا، وتبعات ذلك على مستقبل الدولة الأوكرانية، وشكل المشهد الاستراتيجي في شرق أوروبا خلال المدى المنظور.

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري
زر الذهاب إلى الأعلى