دول الخليج العربيالأمريكتان

العودة إلى الرمال الساخنة.. الرابحون والخاسرون من جولة “ترامب” الخليجية

بعد عودته إلى البيت الأبيض لولاية ثانية، استهل الرئيس دونالد ترامب أجندته الخارجية بجولة خليجية من 13 إلى 16 مايو، شملت المملكة العربية السعودية، وقطر والإمارات العربية المتحدة. لم تكن الزيارة مجرد خطوة دبلوماسية أو بروتوكولية، بل عودة مباشرة إلى “الرمال الساخنة” في منطقة تموج بالأزمات والصراعات، وتأتي في سياق إقليمي معقد يتقاطع فيه تقلب المواقف الأمريكية من ملفات إقليمية حساسة، مع تنامي الطموحات الخليجية، وجموح المواقف الإسرائيلية من حرب غزة. مثلت الزيارة اختبارًا حقيقيًا ليس فقط لاستراتيجية “ترامب” الخارجية، بل أيضًا لمدى قدرة حلفاء واشنطن الخليجيين على لعب دور في صياغة مستقبل المنطقة. وعكست سعي واشنطن إلى إعادة استراتيجيتها الخارجية، عبر التحول من التدخلات العسكرية المباشرة إلى بناء شراكات اقتصادية ودبلوماسية أكثر مرونة.

عاد “ترامب” إلى الخليج بعقلية الصفقات التي ميزت نهجه السياسي، مستندًا إلى نموذج تبادل المصالح: أسلحة مقابل استثمارات، وفرص عمل مقابل نفوذ. وجاءت زيارته إلى السعودية وقطر والإمارات استمرارًا لمسار بدأ عام 2017، لكن في سياق أكثر تعقيدًا، حيث تشهد المنطقة تغيرات في موازين القوى وتعدد الفاعلين الدوليين. ورغم التوترات المتصاعدة في المنطقة، ظل “ترامب” متمسكًا بمقاربته القائمة على الاقتصاد أولًا، فبالنسبة لإدارته، يمكن لإعادة التموضع الاقتصادي والتكنولوجي في الخليج أن يحقق إنجازات ملموسة تفوق المكاسب الهشة من ملفات السلام المتعثرة.

وفي خطاب استثنائي ألقاه “ترامب” في الرياض وضع من خلاله الأسس لما سيأتي لاحقًا، قائلًا: “أمام أعيننا، يقود جيل جديد من القادة مسارًا يتجاوز الصراعات القديمة والانقسامات المرهقة للماضي، ويصوغ مستقبلًا يُعرَّف فيه الشرق الأوسط بالتجارة لا بالفوضى، ويُصدّر التكنولوجيا لا الإرهاب، حيث يبني الناس من مختلف الدول والأديان والمعتقدات مدنًا معًا لا يقصفون بعضهم إلى الفناء”.

رؤيته هذه وإن كانت طموحة، تعبّر عن تحول استراتيجي في السياسة الأمريكية: تجاوز الصراعات القديمة لصالح شراكات قائمة على المصالح المتبادلة، حيث تصبح أبوظبي والرياض والدوحة ليست فقط مصادر نفط، بل أطرافًا محورية في سباق الذكاء الاصطناعي والاستثمار العالمي. فتضمنت الزيارة توقيع صفقات ضخمة في مجالات الدفاع والطيران والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، إلى جانب اتفاقيات استثمارية هائلة تهدف إلى دعم الاقتصاد الأمريكي مباشرة، وتتجاهل القضايا الإنسانية والسياسية التي تعاني منها المنطقة.

الولايات المتحدة: شهدت الجولة الخليجية مكاسب اقتصادية غير مسبوقة للولايات المتحدة، فقد وقعت السعودية حزمة استثمارية ضخمة بقيمة 600 مليار دولار في الولايات المتحدة. واصطحب “ترامب” وفدًا رفيعًا يضم إيلون ماسك، وسام ألتمان، ولاري فينك، ووزير الخزانة سكوت بيسنت. وقد اطلع الوفد على مشروعات السعودية العملاقة وشارك في جلسات مغلقة لوضع استراتيجيات التعاون. شملت الاتفاقات قطاعات الطاقة النظيفة، والمعادن الحيوية، والذكاء الاصطناعي، والفضاء، والخدمات اللوجستية، والتصنيع الدفاعي المشترك.

وستتركز حصة كبيرة من الاستثمارات في البنية التحتية الأمريكية والتصنيع المتقدم وخلق فرص عمل في عدة ولايات، فيما يوفر صندوق الاستثمارات العامة –الذي يدير نحو تريليون دولار– رأس المال اللازم، متماشيًا مع “رؤية 2030” لتنويع الاقتصاد السعودي بعيدًا عن النفط. وتتوقع إدارة “ترامب” أن تسفر المرحلة الأولى عن أكثر من 300 ألف فرصة عمل في الولايات المتحدة، مع ترسيخ حضور الشركات الأمريكية في التحول الصناعي والتقني للخليج.

كما وقعت واشنطن والدوحة اتفاقية ستسهم في تعزيز التبادل الاقتصادي بقيمة لا تقل عن 1.2 تريليون دولار. وأبرمت أبو ظبي وواشنطن صفقات بقيمة تزيد على 200 مليار دولار. كما أعلن الرئيس الإماراتي محمد بن زايد أن بلاده ستستثمر 1.4 تريليون دولار في الولايات المتحدة خلال السنوات العشر المقبلة. وأُعلن عن إنشاء مركز بيانات عملاق للذكاء الاصطناعي بالتعاون مع شركة G42 الإماراتية، بما ينسجم مع طموح الإمارات في ريادة قطاع الذكاء الاصطناعي. ويظهر أيضًا حرص “ترامب” على مواءمة تحركاته مع رؤى الخليج طويلة المدى مثل “رؤية السعودية 2030” واستراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي.

القطاع العسكري الأمريكي: عززت جولة “ترامب” الخليجية الروابط الدفاعية للولايات المتحدة مع حلفائها في الخليج من خلال صفقات أسلحة ضخمة، لتأكيد وجود أمريكا العسكري في منطقة باتت محط أنظار روسيا والصين بشكل متزايد. تمثل في توقيع اتفاقيات تسليح ضخمة، أبرزها صفقة قياسية مع السعودية بقيمة 142 مليار دولار، تعد الأكبر في تاريخ مبيعات الأسلحة الأمريكية. شملت الصفقة خمسة مجالات استراتيجية: تطوير سلاح الجو والتقنيات الفضائية، والدفاع الجوي والصاروخي، والأمن البحري والساحلي، وأمن الحدود وتحديث القوات البرية، إضافة إلى تحديث أنظمة الاتصال والمعلومات. كما وافقت وزارة الخارجية الأمريكية على بيع صواريخ جو-جو متقدمة بقيمة 3.5 مليارات دولار، ونظام أسلحة دقيق التوجيه بقيمة 100 مليون دولار إلى المملكة، في خطوة تعزز القدرات الدفاعية السعودية وتكرس شراكة استراتيجية عسكرية طويلة الأمد.

أما في قطر، فأبرمت الدوحة مع واشنطن أكبر صفقة في تاريخ شركة بوينج: شراء 210 طائرات بقيمة 96 مليار دولار، واستثمارات مهمة في تكنولوجيا الطائرات المسيرة، لاستخدامها في مهام الإنقاذ والإغاثة ومكافحة الإرهاب، كما حصلت قطر على موافقة لشراء طائرات مسيّرة MQ-9B بقيمة تقارب 2 مليار دولار، في أول صفقة من نوعها في المنطقة، تهدف إلى تعزيز قدراتها الاستخباراتية والدفاعية، لا سيما أنها تستضيف أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط. 

تؤكد هذه الصفقات سعي واشنطن إلى ترسيخ حضورها العسكري في منطقة تتزايد فيها التحديات الأمنية والمنافسة الدولية، كما تعكس استراتيجية واضحة تقوم على دعم الحلفاء الإقليميين من خلال التعاون الدفاعي المباشر ونقل التكنولوجيا العسكرية المتقدمة. ووفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، شكلت دول الخليج 22% من إجمالي واردات الأسلحة عالميًا بين عامي 2019 و2023، وهي أكبر نسبة لأي منطقة في العالم. وتأتي الغالبية العظمى من هذه الأسلحة من الولايات المتحدة، ما يجعل إنفاق الخليج داعمًا رئيسًا لصناعة السلاح الأمريكية، وفي المقابل تزداد هذه الدول ارتباطًا بالمظلة العسكرية الأمريكية.

دونالد ترامب: بالنظر إلى التراجع الحاد في شعبية الرئيس “ترامب” في استطلاعات الرأي بعد دخوله المئة يوم الأولى من ولايته الثانية، تزداد أهمية جولته الخليجية بوصفها محاولة لإنقاذ صورته المتداعية داخليًا. فقد أظهرت البيانات أن معدل تأييده هو الأدنى بين الرؤساء الأمريكيين منذ أكثر من سبعة عقود، ما يعكس حالة من الاستياء العام من سياساته، خاصة الاقتصادية، في ظل تصاعد الأسعار والجمود في الملفات الخارجية. من هنا، أدرك “ترامب” أن زيارته إلى دول الخليج تمثل فرصة ذهبية لإعادة تقديم نفسه كقائد قادر على تحقيق إنجازات ملموسة على الساحة الدولية.

يراهن “ترامب” على أن تسهم هذه الجولة في تحسين صورته أمام الناخب الأمريكي، من خلال تسليط الضوء على الاستثمارات الخليجية الضخمة التي حصل عليها، والصفقات الدفاعية بمليارات الدولارات، وإعلانات شراكة في مجالات الاقتصاد والطاقة والتكنولوجيا. في ظل تراجعه حتى الآن عن تحقيق أي اختراقات حقيقية في الملفات الكبرى التي تواجه إدارته مثل: الحرب التجارية مع الصين، والتصعيد الإسرائيلي في غزة، وتداعيات الحرب في أوكرانيا. يأمل “ترامب” أن تمنحه هذه الجولة دفعة قوية على المستويين المحلي والدولي.

دولة الاحتلال: أثارت الجولة الخليجية قلقًا متزايدًا في إسرائيل، حيث بدت وكأنها تمثل تحولًا استراتيجيًا في السياسة الأمريكية من التركيز على ضمان أمن إسرائيل إلى التركيز على المصالح الاقتصادية، لا سيما عبر صفقات سلاح ضخمة مع السعودية وقطر. ما أثار مخاوف في الأوساط السياسية والأمنية الإسرائيلية من تقويض “التفوق العسكري النوعي” لإسرائيل، وهو التزام أمريكي راسخ منذ عقود. ولم تقتصر الصدمة على حجم الصفقات فحسب، بل امتدت أيضًا إلى مواقف “ترامب” العلنية، إذ هاجم المحافظين الجدد الداعمين التاريخيين لإسرائيل.

هذا التحول في لهجة ومضمون السياسة الأمريكية تزامن مع خطوات عملية أثارت استياء تل أبيب، أبرزها التفاوض المباشر مع حماس للإفراج عن رهينة أمريكي-إسرائيلي، وهدنة مع الحوثيين لم تتضمن وقف هجماتهم على إسرائيل، إضافة إلى رفع العقوبات عن سوريا. هذه التحركات عكست تجاهلًا متعمدًا لإسرائيل، حتى أن نتنياهو لم يكن ضمن جدول زيارات “ترامب” في المنطقة. وعلى الرغم من ذلك أكد الرئيس ترامب، أن عدم توقفه في إسرائيل خلال جولته الخليجية لا يعني تهميشها، وأن رحلته إلى دول الخليج “جيدة لإسرائيل”.

  • محاصرة النفوذ الإيراني: فعلى الرغم من مخاوف إسرائيل من احتمال عودة الولايات المتحدة إلى اتفاق نووي مع إيران، فإن التقارب الأمريكي الخليجي الذي يسعى إليه “ترامب” يضع طهران في موقع العزلة. وتشير تقوية العلاقات الأمنية والاقتصادية بين واشنطن والعواصم الخليجية إلى اصطفاف إقليمي ضد التوسع الإيراني وهو في مصلحة إسرائيل التي اعتبرت دائمًا إيران العدو الأكبر.
  • تحالف مستتر: تقوية علاقات “ترامب” مع قادة الخليج والإحياء الدبلوماسي غير المتوقع لسوريا، يضعف موقف إيران في ملفات عدة، ويفتح الطريق أمام صيغ تعاون جديدة قد تعيد إحياء مشاريع تطبيع إقليمي مع إسرائيل في مرحلة لاحقة. حتى وإن لم يكن التطبيع أولوية حالية، فإن إبقاء الاتصالات قائمة وتكريس العداء المشترك لإيران يخلق بيئة أمنية قد تُستثمر لاحقًا في إعادة مسار العلاقات الثنائية بين إسرائيل وبعض الدول الخليجية.

الخليج كوسيط في النزاعات الدولية: رسخت الجولة مكانة “ترامب” كشريك موثوق في الخليج، وكشفت عن توجه دبلوماسي أمريكي جديد يعتمد على دول الخليج كقوة استثمارية ووسيط إقليمي ودولي قادر على التدخل في النزاعات المعقدة، وليس مجرد حلفاء تقليديين. هذا التحول يعكس رؤية “ترامب” لتوظيف شبكة علاقاته الخليجية، خاصة مع قطر والسعودية والإمارات، في إدارة الملفات الحساسة التي تجاوزت نطاق الشرق الأوسط لتشمل قضايا مثل الحرب في أوكرانيا، والتفاوض مع طالبان، وجهود التهدئة في غزة. وقد عبرت رغبة “ترامب” بلقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الرياض عن قناعة راسخة بدور السعودية كمركز دبلوماسي جديد له القدرة على الجمع بين الخصوم.

وتعزز البنية الاقتصادية والسياسية لدول الخليج من فرصها في لعب هذا الدور؛ إذ تتمتع بثروات سيادية ضخمة، وشبكة علاقات مرنة تربطها بالقوى الكبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا والصين وأوروبا والهند. هذا الموقع الفريد يمنحها درجة من الحياد النسبي الذي يفتقر إليه العديد من اللاعبين الدوليين، خاصة مع تراجع أداء دول تقليدية في الوساطة مثل سويسرا. وتبرز قطر، تحديدًا، بوصفها الوسيط الأكثر نشاطًا، من خلال مساهمتها في إطلاق سراح محتجزين أمريكيين من أفغانستان وفنزويلا، إلى جانب جهودها المستمرة في وقف إطلاق النار في غزة. أما الإمارات، فهي تشارك في وضع استراتيجية “ما بعد الحرب” في غزة بالتعاون مع واشنطن.

الاتفاق النووي الإيراني: رغم التركيز على الصفقات الاقتصادية الضخمة التي أبرمها “ترامب” خلال جولته الخليجية، فإن المسعى الأساسي كان تجنب اندلاع مواجهة عسكرية بين إسرائيل وإيران. فقد كشف “ترامب” من الدوحة عن محادثات “جادة للغاية” جرت في سلطنة عمان بين مبعوثه للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، ووزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، بهدف الوصول إلى “سلام طويل الأمد”. وفي حين تبنى “ترامب” لهجة تصعيدية في السعودية، ملوحًا بعقوبات شديدة إن لم تتخل طهران عن دعم ما وصفه بالإرهاب وسعيها النووي، بدا أكثر تفاؤلًا في قطر، معتبرًا أن إيران “وافقت، نوعًا ما، على الشروط”، ومؤكدًا أن “لا غبار نووي سيُنتج في إيران”، ولم يتضح بعد ما الذي يعنيه “ترامب” بـ”الغبار النووي”، لكن دول الخليج، بما في ذلك قطر، تشعر بالقلق من أن الهجوم على المنشآت النووية الإيرانية قد يتسبب في كارثة بيئية في المنطقة ويجرها إلى حرب إقليمية أوسع.

في السياق نفسه، أعلن علي شمخاني، مستشار المرشد الأعلى الإيراني، استعداد بلاده لإبرام اتفاق مع واشنطن بشأن برنامجها النووي، يتضمن التزامًا بعدم تصنيع أسلحة نووية أبدًا، والتخلص من مخزون اليورانيوم العالي التخصيب، واقتصار التخصيب على المستويات المدنية، والسماح بمراقبة دولية، وذلك مقابل الرفع الفوري لجميع العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران. هذا التفاؤل، لا يخلو من عقبات. فالإيرانيون لم ينسوا مقتل الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، في غارة أمريكية بأمر من “ترامب” عام 2020، الأمر الذي وصفه حسين سلامي، قائد الحرس الثوري، بأنه “جريمة قتل” لن تُمحى من الذاكرة الإيرانية.

ورغم هذه الخلفية المتوترة، تتزايد المؤشرات على أن الطرفين يقتربان من اتفاق نووي جديد، قد يكون شبيهًا باتفاق 2015. فقد لمح “ويتكوف” إلى قبول محتمل لتخصيب اليورانيوم بنسبة لا تتجاوز 3.67%، بل وتحدث هو والمفاوضون الإيرانيون عن إمكانية التوصل إلى اتفاق مرحلي. كما يرى مسؤولون أمريكيون أن هناك دعمًا متناميًا في مجلس الشيوخ، حتى من الديمقراطيين، لاتفاق جديد يكون أكثر قابلية للاستمرار من الاتفاقات السابقة.

سوريا “الشرع”: في خطوة دبلوماسية مفاجئة، عقد “ترامب” اجتماعًا استمر 33 دقيقة مع الرئيس السوري أحمد الشرع، الذي كان في السابق زعيمًا لجبهة النصرة الموالية لتنظيم القاعدة واحتُجز على يد القوات الأمريكية في العراق. وأعلن “ترامب” رفع العقوبات المفروضة منذ عقود على سوريا، في استجابة لمناشدات من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وبذلك أصبح “ترامب” أول رئيس أمريكي منذ 25 عامًا يلتقي رئيسًا سوريًا.

هذا القرار قد يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التعافي الاقتصادي والسياسي في سوريا، بعد سنوات من العزلة والعقوبات التي شلت اقتصاد البلاد ومنعت انطلاق مشاريع إعادة الإعمار. لكن رفع العقوبات لا يزال يواجه تحديات إدارية وسياسية داخل الولايات المتحدة، إذ يتطلب تنسيقًا دقيقًا بين وزارات الخزانة والخارجية والتجارة، إضافة إلى تجاوز عقبات الكونجرس، حيث توجد أصوات جمهورية مترددة.

كما أن النتائج الجيوسياسية للخطوة قد تعزز نفوذ السعودية وتركيا، وربما قطر والإمارات، داخل سوريا كمستثمرين وشركاء في إعادة الإعمار، على حساب النفوذ الإيراني التقليدي في دمشق. هذا التحول قد يسهم في تقليص تأثير طهران في المنطقة. وفي السياق ذاته، التقى وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو نظيره السوري أسعد الشيباني لمناقشة ملفات حساسة، من بينها العلاقة مع إسرائيل، والأسلحة الكيميائية، وحقوق الإنسان، في مؤشر على بدء انفتاح سياسي تدريجي قد يعيد سوريا إلى المشهد الدولي بشروط جديدة.

القضية الفلسطينية: كان للجولة الخليجية تداعيات قاتمة على القضية الفلسطينية، ولم تحمل أي توجه حقيقي لمعالجتها، بل أسهمت في تهميشها، وتعزيز الرؤية الإسرائيلية القائمة على الآلة العسكرية. ولم تحظ سوى بتصريحات عابرة أو مسيسة، في ظل سعي واشنطن إلى تعزيز اتفاقيات التطبيع دون ربطها بحقوق الفلسطينيين أو قيام دولة فلسطينية. خلال وجوده في قاعدة العديد الجوية بقطر قال الرئيس ترامب، إنه يريد امتلاك قطاع غزة وتحويله إلى “منطقة حرية”، مجددًا اقتراحه بتهجير الفلسطينيين من القطاع.

ورغم أن برنامج جولة الرئيس “ترامب” لم يشمل زيارة لإسرائيل، فإن الانحياز الأمريكي لصالحها ظل واضحًا وثابتًا، لا سيما في ظل غياب أي مبادرة حقيقية لوقف الحرب في القطاع، الذي يشهد يوميًا انتهاكات وعمليات إبادة بحق المدنيين. وفي حين كررت الدول الخليجية خلال الجولة مواقفها الداعية إلى وقف إطلاق النار وضرورة التوصل إلى حل الدولتين، فإن واشنطن لا تزال تركز على حماية إسرائيل ومصالحها، وتوفير الدعم السياسي والعسكري الكامل لها، مع دفع أجندة التطبيع العربي الإسرائيلي وتوسيع دائرة اتفاقيات التطبيع.

عشية جولة “ترامب” الخليجية، أفرجت حركة حماس عن الرهينة الأمريكي-الإسرائيلي عيدان ألكساندر، في خطوة جاءت بعد مفاوضات أولية مع إدارة “ترامب” تنص على إدخال مساعدات إنسانية عاجلة إلى قطاع غزة، والدعوة إلى وقف إطلاق نار دائم تمهيدًا لمفاوضات تهدف لإنهاء الحرب. ومع ذلك، سرعان ما تعثرت هذه المحادثات، رغم وجود مفاوضين إسرائيليين في الدوحة وزيارة مبعوث ترامب، ستيف ويتكوف، إلى إسرائيل، حيث نقل للوسطاء رسالة واضحة: الولايات المتحدة لا تعتزم ممارسة أي ضغط حقيقي على إسرائيل لوقف حربها على غزة.

وفي هذا السياق، كشفت شبكة “إن بي سي نيوز” أن إدارة “ترامب” تدرس بجدية خطة تهدف إلى تهجير نحو مليون فلسطيني من قطاع غزة إلى ليبيا، في خطوة تعكس التوجه نحو تفريغ القطاع من سكانه بدلًا من معالجة أسباب الصراع. وبحسب التقرير، فقد جرت مناقشات أولية حول الخطة مع جهات ليبية، ما يشير إلى أن الفكرة تحظى باهتمام فعلي داخل دوائر صنع القرار في واشنطن.

القوى الأوروبية: أشارت الجولة الخليجية إلى تحول استراتيجي في توجهات السياسة الخارجية الأمريكية، وطرحت تحديات جديدة لأوروبا. فاختيار “ترامب” للخليج كأول وجهة خارجية في ولايته الثانية، وتجاهله لزيارة الحلفاء الأوروبيين، يكشف عن تراجع أهمية العلاقات عبر الأطلسي في نظره، واعتباره أن دول الخليج باتت لاعبًا جيوسياسيًا وجيواقتصاديًا أكثر تأثيرًا من بعض دول الناتو التقليدية. هذا التوجه يكتسب أهمية خاصة بالنسبة لأوروبا، التي وسعت دورها في المنطقة الخليجية عبر شراكات اقتصادية ودبلوماسية مع السعودية والإمارات وقطر، ما يجعل أي إعادة تموضع أمريكي تحت قيادة “ترامب” مؤثرًا مباشرًا على مصالحها، لا سيما في مجالات الطاقة، والأمن والسياسة الإقليمية.

جولة “ترامب” تحمل تداعيات متعددة على أوروبا، أولها، إعادة تشكيل موازين النفوذ في الشرق الأوسط، حيث يُعزز اعتماد واشنطن على حلفائها الخليجيين دورهم في ملفات كبرى مثل سوريا واليمن وغزة، ما قد يُهمش الدور الأوروبي أو يدفعه إلى مرتبة ثانوية. ثانيًا، المنافسة على الاستثمارات الخليجية، إذ يسعى “ترامب” إلى استقطاب مئات المليارات من الدولارات إلى الاقتصاد الأمريكي في وقت تحتاج فيه اقتصادات أوروبا إلى هذه الاستثمارات بشدة لتعويض تداعيات الحرب في أوكرانيا. ثالثًا، صفقات التسلح الضخمة مع الخليج قد تُشعل سباق تسلح تجاري وتثير جدلًا داخل الاتحاد الأوروبي بشأن أخلاقيات بيع السلاح.

رابعًا، تهميش الدور الأوروبي في الملف النووي الإيراني؛ إذ قد تؤدي تسوية أمريكية منفردة أو تصعيد ضد طهران إلى تهميش المبادرات الأوروبية في هذا المجال. وأخيرًا، ملف الطاقة، حيث قد تفقد أوروبا أولويتها في بعض صادرات الخليج لصالح الولايات المتحدة، ما يعقد جهودها في التحرر من التبعية للطاقة الروسية. ورغم أن الجولة لا تستهدف أوروبا بشكل مباشر فإنها تعيد رسم معادلات إقليمية ستؤثر بالضرورة على مصالحها، وتتطلب منها مرونة استراتيجية للحفاظ على دورها في منطقة باتت أكثر تنافسًا وتشابكًا.

النفوذ الصيني في الخليج: رغم عدم ذكرها مباشرة، برزت زيارة “ترامب” إلى الخليج كاستجابة مباشرة لتوسع النفوذ الصيني في المنطقة، عبر مبادرة “الحزام والطريق”. حملت الزيارة رسائل واضحة مفادها أن واشنطن عازمة على استعادة مكانتها من خلال استثمارات ضخمة في البنية التحتية، والتكنولوجيا، والدفاع، مع السعي إلى إقناع حلفائها الخليجيين بأن الولايات المتحدة وليست الصين هي الضامن الحقيقي لأمنهم واستقرارهم على المدى الطويل.

وفيما يتعلق بالمنافسة الأمريكية الصينية، فإن دول الخليج توصلت إلى قناعة أن أمنها الخارجي لا يزال مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالولايات المتحدة. فالصين، رغم شراكاتها التجارية والتقنية الواسعة، تفتقر إلى الإرادة أو القدرة على الدفاع عن الخليج في أوقات التوتر. ومع تصاعد التوترات الجيوسياسية، تتجه إدارة “ترامب” إلى فرض شروط أو قيود رسمية على التعاون التكنولوجي مع الصين، معتبِرة أن منح الوصول إلى التكنولوجيا الأمريكية قد يكون وسيلة أكثر فاعلية لتقليص الاعتماد على بكين من الحظر المباشر.

ومع ذلك، فالصين لا تزال الشريك التجاري الأكبر للمنطقة، وتواصل شركات مثل “هواوي” بناء شبكات الجيل الخامس رغم التحفظات الأمريكية. كما عمقت دول الخليج شراكاتها العسكرية مع بكين، من خلال المشاريع المشتركة بين السعودية والصين في مجال الطائرات المسيرة والمكونات الصاروخية، وكذلك التعاون في الأمن السيبراني. ولكن مع تصاعد العداء السياسي تجاه الصين، من المرجح أن تزيد إدارة “ترامب” من الضغط على دول الخليج لتقليص علاقاتها مع بكين، وربما فرض قيود رسمية على التعاون في التكنولوجيا.

إدارة “بايدن” السابقة: أبرزت الجولة الخليجية مقاربات “بايدن” و”ترامب” في الشرق الأوسط، حيث مالت إدارة “بايدن” إلى الدبلوماسية متعددة الأطراف، والتدرج في معالجة الأزمات الإقليمية، ما عكس رغبة في الحفاظ على صورة أخلاقية للسياسة الخارجية الأمريكية. في المقابل، ينتهج “ترامب” أسلوبًا مباشرًا قائمًا على الصفقات الثنائية والتعامل من دون شروط تذكر. ففي جولته الأخيرة، أنجز “ترامب” خلال أيام ما لم تحققه إدارتا “أوباما” و”بايدن” في سنوات، من رفع العقوبات على سوريا ولقاء قيادتها الجديدة، إلى توقيع صفقات بمئات المليارات مع السعودية وقطر والإمارات.

في المقابل، انعكس فتور العلاقات بين “بايدن” ودول الخليج، خصوصًا في بدايات ولايته، على مستوى التعاون الأمني والاقتصادي، لا سيما بعد مواقف إدارة “بايدن” من ملفات حقوق الإنسان، والامتناع عن بعض الاستثمارات التكنولوجية الحساسة في المنطقة خشية تسربها إلى الصين ما زعزع الثقة التقليدية. كما أن زيارة “بايدن” إلى السعودية في 2022، التي اقتصرت على مصافحة بقبضة اليد مع ولي العهد، تم تفسيرها خليجيًا كإهانة رمزية، وهو ما استثمره “ترامب” في إبراز الفروقات قائلًا: “إنهم لا يريدون قبضة، بل مصافحة حقيقية“.

وفي حين بدا “بايدن” متحفظًا في علاقاته، استثمر “ترامب” هذا التردد لصالحه، وقدم نفسه كزعيم يصنع الصفقات لا الخطابات، مستعرضًا قدرته على تحصيل مكاسب ضخمة لأمريكا، وصلت إلى حد تلقي طائرة رئاسية فاخرة كهدية من قطر. هذه الهدية الاستثنائية لم تكن مجرد لفتة بروتوكولية، بل عكست حجم الرهان الخليجي على ترامب، والتفضيل الصريح لنموذجه في القيادة والعلاقات الدولية.

التطبيع مع إسرائيل: رغم أن اتفاقيات التطبيع تمثل أحد أبرز إنجازات “ترامب” في السياسة الخارجية، فإن زيارته الأخيرة إلى الخليج لم تحقق تقدمًا ملموسًا نحو إدماج السعودية في هذا المسار. فقد أوضحت المملكة أن أي تطبيع مع إسرائيل مشروط بوقف الحرب في غزة وبمسار سياسي جاد نحو إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، وهي شروط ترفضها الحكومة الإسرائيلية. وفي ظل الهجمات المستمرة على غزة والتوترات في الضفة الغربية، تواجه القيادة السعودية ضغوطًا داخلية وخارجية لعدم التفريط بالقضية الفلسطينية. “ترامب”، من جهته، لم يمارس ضغوطًا علنية على الرياض بل ركز على المكاسب الاقتصادية الثنائية، مدركًا أن الظروف الإقليمية الحالية بما في ذلك تقارب السعودية مع إيران تجعل من التطبيع مسارًا أكثر تعقيدًا مما كان عليه قبل خمس سنوات.

ختامًا، أسست جولة “ترامب” الخليجية قواعد جديدة للنفوذ الأمريكي القائم على الاقتصاد وبنية دفاعية وتقنية متعددة المجالات. فالولايات المتحدة لا تنسحب، بل تعيد تصميم حضورها عبر تحالفات انتقائية مع شركاء أقوياء يمكنهم تقاسم أعباء المنطقة. وبالتركيز على المبادرات الاقتصادية والدبلوماسية، يأمل “ترامب” في بناء نهج جديد للحفاظ على النفوذ الأمريكي. وفي الوقت الذي يشهد فيه الشرق الأوسط أزمات متشابكة، تبقى النتائج العملية للزيارة محدودة على الصعيد السياسي، وسط آمال وتحديات كبيرة تجاه تحقيق السلام والاستقرار، لا سيما في ظل الوضع الإنساني الكارثي في غزة والتوترات المستمرة في المنطقة.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى