أوروباإيران

هامشية الدور.. كيف تجاوزت الولايات المتحدة أوروبا في مفاوضات البرنامج النووي الإيراني؟

بينما تتفاوض الولايات المتحدة وإيران حول إمكانية التوصل إلى اتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني، تبحث أوروبا عن دور محتمل يعود بها إلى صدارة المشهد بعد أن تخطاها الرئيس دونالد ترامب وهمش نفوذها التقليدي في المفاوضات، وهي الخطوة التي كانت تخشاها بعد استبعادها من مباحثات إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية. ورغم الدور الحيوي الذي لعبته القوى الأوروبية في المفاوضات النووية الإيرانية فإن التحول الاستراتيجي بسبب عداء “ترامب” لها وضعها في مأزق مزدوج؛ فهي مُستبعدة من المفاوضات الحالية ودورها مقتصر فقط كمراقب للجهود الدبلوماسية من جهة، لا تستطيع تقويض فرص أي اتفاق جديد، حتى لو كان أمريكيًا-إيرانيًا بحتًا من جهة أخرى.

رغم تهميشها، رحبت أوروبا باستئناف المحادثات، وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال زيارته إلى مصر في 8 أبريل، بعد يوم من إعلان ترامب المفاجئ عن محادثات مسقط: “إنه لأمر جيد أن تُستأنف هذه المفاوضات، وأن تؤدي إلى تراجع البرنامج النووي الإيراني الحالي، وتأمين آليات تحقق، وضمان عدم حصول إيران على سلاح نووي”. حيث تتفق القوى الأوروبية (E3) بريطانيا وفرنسا وألمانيا على أن برنامج إيران النووي لم يتطور إلا منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق. وفي انتهاك لالتزاماتها، احتفظت طهران بمخزون من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، متجاوزة بذلك الحدود التي حاولت خطة العمل الشاملة المشتركة فرضها عام 2015، دون جدوى. وواصلت إيران امتلاك أجهزة طرد مركزي قادرة على مضاعفة قدرتها الإنتاجية، أو الوصول إلى عتبة التخصيب بنسبة 90% اللازمة لتطوير سلاح نووي، وعدم السماح للوكالة الدولية للطاقة الذرية بإجراء تفتيش على برنامجها.

وتأتي هذه المحادثات في وقت لا يزال فيه الجدل محتدمًا داخل إدارة الرئيس “ترامب”، وبين الولايات المتحدة وإسرائيل، بشأن ما إذا كانت الدبلوماسية أم الضربات العسكرية هي الخيار الأفضل لمنع طهران من امتلاك سلاح نووي. وفي الوقت الراهن، يُبقي “ترامب” على كبح جماح “صقور الحرب”، ومنهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ويركز على التوصل إلى اتفاق. فقد ذكر “ترامب” في أحد تصريحاته: “أريد لإيران أن تكون عظيمة ومزدهرة ورائعة، لكن لا يمكنهم امتلاك سلاح نووي، وإذا امتلكوا سلاحًا نوويًا، فستكونون جميعًا في وضع سيئ لأن حياتكم ستكون في خطر كبير”. وبينما ركزت الجولة الأولى في سلطنة عمان على تحديد شكل المفاوضات، فقد ركزت الجولة الثانية في روما على وضع إطار لكيفية سير المفاوضات، فيما تتناول الجولة الثالثة من المفاوضات التي تبدأ في مسقط، اليوم 26 أبريل 2025، الشق الفني للبرنامج النووي الإيراني.

استطاعت أوروبا منذ بدء المفاوضات عام 2003 تأكيد وتعزيز موقفها كوسيط نزيه بين الشركاء الدوليين الأساسيين روسيا والصين من جانب، والولايات المتحدة من جانب آخر؛ في محاولة منها لإيجاد مكانة مناسبة لها في الملف التفاوضي مع إيران واحترام التوازنات الجغرافية الأخرى في المنطقة. وعملت على خلق حالة من الحوار مع إيران، عبر عدة مراحل نستكشفها فيما يلي:

كان الاتحاد الأوروبي مفاوضًا مستقلًا مع إيران في ظل رفض الولايات المتحدة الأمريكية فكرة التفاوض من الأساس. ونجحت الدول الأوروبية (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) في توقيع اتفاق مع إيران في بروكسل في 23 فبراير 2004، تعهدت بموجبه طهران تعليق عمليات بناء واختبار أجهزة الطرد المركزي اللازمة لتخصيب اليورانيوم، وتعليق عمليات تصنيع قطع غيار لأجهزة الطرد المركزي. في المقابل، تعهدت الدول الأوروبية بقبول عضوية إيران في منظمة التجارة العالمية.

أدى تجاهل واشنطن عروض التفاوض الإيرانية إلى قيام حكومة أحمدي نجاد التي وصلت إلى الحكم في أغسطس 2005، باستئناف العمل بالبرنامج النووي، مستفيدة من الصعوبات التي تواجها الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان. وأعلنت إيران انضمامها إلى النادي النووي والبلدان التي تمتلك التكنولوجيا النووية. عقب هذه التطورات، أصبح دور الاتحاد الأوروبي منسقًا للمواقف بعد دخول مجموعة 5+1 في الأزمة، ومحاولة التفاوض بشكل جماعي مع إيران والضغط عليها بعقوبات من مجلس الأمن الدولي.

تحول دور الاتحاد الأوروبي وأصبح فاعلًا رئيسًا في سن العقوبات بشكل متناغم مع الولايات المتحدة الأمريكية، وأقر الاتحاد في يناير 2012 تجميد أموال البنك المركزي الإيراني. وكان لقرار الاتحاد الأوروبي فرض حظر نفطي في 1 يوليو 2012 ومنع استيراد النفط والغاز من إيران ووضع قيود على التعاملات المالية الإيرانية دور قوي في دفع إيران إلى التفاوض بجدية مع واشنطن بهدف إبرام اتفاق.

كان انتخاب حسن روحاني في عام 2013 بمثابة تحول في الموقف الخارجي لإيران. وخلال هذه الفترة، سهّل الاتحاد الأوروبي الوصول إلى الاتفاق النووي في عام 2015 والتوصل إلى تسوية شاملة تضمن الطابع السلمي للبرنامج النووي الإيراني، وإلغاء جميع العقوبات على إيران بشكل تام، وإنهاء الحظر الاقتصادي والمالي المرتبط بالبرنامج النووي، تزامنًا مع تنفيذ إيران لالتزاماتها النووية الرئيسة عبر مراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وأسهم الاتحاد الأوروبي في تنفيذ بنود الاتفاق حتى 2018 وانسحاب الولايات المتحدة منه.

بعد قرار الرئيس دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي بشكل أحادي، أعاد الاتحاد الأوروبي تأكيده التمسك بالاتفاق وأهمية قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2231، الذي تم التصويت عليه بالإجماع في 2015، لكي يصبح الاتفاق النووي مع إيران نافذًا بإرادة المجتمع الدولي ككل. وصمم الاتحاد الأوروبي على العمل به وفقًا لمصالحه الأمنية وحماية استثماراته الاقتصادية في إيران.

في المقابل، فرض “ترامب” سياسة “الضغط الأقصى” من العقوبات من أجل أن ترضخ طهران وتعود للتفاوض على اتفاق جديد مُرضٍ للولايات المتحدة الأمريكية. لكن إيران قابلت ذلك بسياسة خفض الالتزام النووي التي دفعتها إلى رفع مستوى تخصيب اليورانيوم وزيادة حجم المخزون من الوقود النووي وتطوير أجهزة الطرد المركزي، ما أهل إيران إلى الاقتراب من العتبة الحرجة لصناعة السلاح النووي.

استغل الاتحاد الأوروبي الزخم السياسي للإدارة الأمريكية السابقة برئاسة جو بايدن، وتم إطلاق عملية دبلوماسية في أبريل 2021 بمشاركة غير مباشرة من الولايات المتحدة وبتسهيل من الاتحاد الأوروبي. تهدف إلى عودة الولايات المتحدة للاتفاق المبرم في 2015، وإعادة إيران إلى الوفاء الكامل بالتزاماتها مقابل رفع العقوبات الأمريكية عنها. وذلك بعد أن أعلنت إيران أنها بدأت تخصيب اليورانيوم بنسبة 60% أي أعلى بكثير من عتبة 3,67% المنصوص عليها في الاتفاق الدولي، مقتربة من نسبة 90% الضرورية لصنع قنبلة ذرية.

وتزامن قبول إدارة “بايدن” إجراء المفاوضات والعودة إلى المحادثات مع تولي الرئيس الإيراني المحافظ السابق إبراهيم رئيسي السلطة. وضمانًا لتسيير الرجوع إلى الاتفاق بسرعة نسبية، لم يضع القادة الأوروبيون شروطًا مسبقة لإحياء الاتفاق. وحث القادة الأوروبيون إيران على عدم تبديد الفرصة التي تمثلها إدارة “بايدن”، وألا تمضي قدمًا في مزيد من التخفيف من التزاماتها بالاتفاق.

وبعد مفاوضات متقطعة على مدى أشهر، بدا الاتفاق على وشك العودة للحياة في مارس 2022 حين دعا الاتحاد الأوروبي، الوزراء إلى فيينا لإبرام الاتفاق. لكن المحادثات أصبحت في مهب الريح بسبب اشتراط إيران رفع “الحرس الثوري” من قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية. وهو المطلب الذي وجد فيه الرئيس الأمريكي صعوبة في التغلب على المعارضة المحلية لرفع “الحرس الثوري” من قائمة الإرهاب مع اقتراب انتخابات التجديد النصفي الأمريكية في 8 نوفمبر 2022. كما طلبت روسيا، من الولايات المتحدة تقديم ضمانات تفيد بأن العقوبات التي فُرضت عليها بسبب غزو أوكرانيا لن تضر بدورها في تنفيذ الاتفاق. ونتيجة لذلك، ابتعد الاتفاق النووي عن مجرى الأحداث مع تركيز العالم على الغزو الروسي لأوكرانيا، وما نتج عنه من ارتفاع أسعار النفط، مما سمح لإيران بجني مزيد من إيرادات صادراتها النفطية مع مواصلة الالتفاف على العقوبات الأمريكية.  

ورغم محاولاته لإبقاء الاتفاق النووي على قيد الحياة، أعلن الاتحاد الأوروبي، عدم وجود تقدم بشأن إحياء الاتفاق النووي بين إيران والدول العظمى. وبحلول أواخر عام 2024، أدت ثلاث نقاط تحول رئيسة إلى تدهور العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وإيران إلى أدنى مستوياتها: أولا، فشل الدول الأوروبية الثلاث والاتحاد الأوروبي في الوفاء بالتزاماتهما بموجب الاتفاق النووي بعد انسحاب الولايات المتحدة في عام 2018؛ وثانيا، تسليم الأسلحة الإيرانية إلى روسيا منذ عام 2022؛ وثالثا، الدعم شبه غير المشروط لإسرائيل من دول أوروبية مثل ألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا منذ 7 أكتوبر 2023، بما في ذلك ضد إيران و”محور المقاومة”.

خلال الفراغ السياسي الأمريكي بعد فوز “ترامب” في الانتخابات وقبل توليه منصبه، حاول الأوروبيون أخذ زمام المبادرة من خلال عقد محادثات استكشافية في جنيف مع إيران بدأت في سبتمبر 2024 واستمرت حتى فبراير 2025 ولم تأت بجديد. وفي ظل تزايد المخاوف من ضربة أمريكية إسرائيلية على إيران بعد تولي ترامب منصبه، أعربت الدول الأوروبية الثلاثة (E3) عن تأييدها لأي مبادرة دبلوماسية حتى لو لم تشارك فيها مباشرة. ووضعت الولايات المتحدة الدول الأوروبية خارج دائرة المحادثات النووية، واتجهت نحو مباحثات ثنائية مع طهران في عمان تجاهلت الأوروبيين الذين يمتلكون ورقة ضغط اقتصادية ودبلوماسية مهمة. ويقوم وزير الخارجية العماني “بدر البوسعيدي” دور الوسيط في المحادثات بعد أن شغل هذا الدور الممثل الأعلى السابق للشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، حتى نهاية عام 2024.

الابتعاد عن خطة العمل الشاملة المشتركة: عندما ترشح باراك أوباما لرئاسة الولايات المتحدة عام ٢٠٠٨، ابتعدت سياسته الخارجية عن المفاهيم التقليدية للولايات المتحدة وتعهد بالدخول في مفاوضات حقيقية ومباشرة مع إيران أسفرت عن خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA). والآن يحاول الرئيس “ترامب”، الذي انسحب من الاتفاق النووي بدافع الكراهية المتهورة والانتقامية لإنجازات “أوباما” والنظام الإيراني، تكرار ما فعله “أوباما” ولكن بشكل مختلف؛ فهو يسعى إلى التخلي عن خطة العمل الشاملة المشتركة، وإبرام اتفاق جديد يحظى بتوافق الحزب الجمهوري وإسرائيل. بالإضافة إلى ذلك، عندما انسحب “ترامب” من الاتفاق عام ٢٠١٨، ظلت الدول الأوروبية ملتزمة به. لهذا السبب، لم يمنح “ترامب” أي دور لبريطانيا وفرنسا وألمانيا في المباحثات الحالية، حيث يرى أن الاتفاق الجديد يجب أن يكون أمريكيًا-إيرانيًا خالصًا. كما أنه وسيلة لتأكيد ما يعتبره دور أوروبا الهامشي؛ فوفقًا “لترامب”، السياسة الدولية شأن يخص القوى العظمى، بينما الدول الأوروبية ليست سوى لاعبين ثانويين.

تراجع القوة الأوروبية وتغير الديناميكيات العالمية: بعد أن كانت أوروبا لاعبًا رئيسًا في الدبلوماسية العالمية، عانت خلال العقد الماضي من أزمات داخلية وخارجية أضعفت نفوذها، مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وعدم الاستقرار الاقتصادي بعد جائحة كوفيد-19، والاعتماد الكبير على الطاقة الروسية قبل حرب أوكرانيا عام ٢٠٢٢. كما كشف الغزو الروسي لأوكرانيا على اعتماد أوروبا على الدعم الأمريكي، حتى في القضايا الحيوية مثل أمن الطاقة. يضاف إلى ذلك مبدأ “أمريكا أولًا” الذي يتبناه “ترامب” في إدارة سياسته الخارجية وأحادية إدارته، وتراجع واشنطن بشكل متزايد عن التنسيق مع حلفائها الأوروبيين والعمل مع المؤسسات متعددة الأطراف، مثل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ومجموعة الدول السبع (G7 )، والاتحاد الأوروبي (EU). فقد بدأ “ترامب” ولايته الثانية، بالتحضير لحرب تجارية مع الاتحاد الأوروبي. والأهم من ذلك، أن أوروبا لم تقنع ترامب بأخذها على محمل الجد كجهة فاعلة في مجال السياسة والأمن وبالتالي تهميش أوروبا كان انعكاسًا لطبيعة تفكيره السياسي أكثر من كونه موقفًا موجهًا ضد القارة نفسها.

فشل أوروبا في الوفاء بالتزاماتها: أساءت أوروبا التعامل مع تداعيات انسحاب “ترامب” عام 2018 وعجزت عن الوفاء بالتزاماتها تجاه طهران، حيث تعهدت بالحفاظ على المصالح الاقتصادية لإيران عبر آليه INSTEX التي أثبتت عدم فعاليتها وفشلها في تسهيل التبادل التجاري بينهما، وانسحاب الشركات الأوروبية من السوق الإيرانية خوفًا من العقوبات الأمريكية، مما أضرّ بمصداقية أوروبا كوسيط موثوق. وهو ما دفعها إلى التفاوض مباشرة مع “ترامب” لأن التوصل إلى اتفاق معه سيكون مستدامًا. كما أن ضعف الموقف الموحد للاتحاد الأوروبي بشأن إيران، خاصة مع اختلاف أولويات الدول الأعضاء، أضعف من فاعليتهم كطرف تفاوضي موثوق فيه.

التحول من موقع الوسيط إلى موقع الضاغط: رغم تهميشهم، يحتفظ الأوروبيون بنفوذ مهم عبر آلية “العودة السريعة” (snapback)، التي تسمح بإعادة فرض العقوبات الدولية ردًا على انتهاكات إيران للاتفاق النووي. ويمكن لهذه الآلية أن تلعب دورًا حاسمًا في حال انحرفت إيران عن التزاماتها. هذا التهديد الذي يحمل طابعًا رسميًا غير مسبوق منذ توقيع الاتفاق النووي، يكشف عن تحول استراتيجي في موقف أوروبا، من موقع الوسيط إلى موقع الضاغط. ومع ذلك، فإن هذا النفوذ يُنظر إليه الآن على أنه محدود، بسبب إحجام الولايات المتحدة عن إشراك الاتحاد الأوروبي في المفاوضات. بالإضافة إلى ذلك، قد يؤدي تفعيل آلية “العودة السريعة” إلى تصعيد التوترات، مع مخاطر حدوث آثار جانبية سلبية، مثل انسحاب إيران من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية (NPT). كما أن القوى الأوروبية لا تستطيع إلا أن تعبر عن دعمها للعملية التفاوضية، وذلك لسبيين: الأول، أنهم يسعون إلى الهدف نفسه الذي تسعى إليه واشنطن. والثاني، أنهم يريدون إبعاد الخيار العسكري واشتعال حرب إضافية في منطقة الشرق الأوسط تلوّح بها واشنطن، وتدعمها في ذلك إسرائيل.

الاعتماد على شركاء جدد: عُقدت مباحثات الجولة الأولى من المفاوضات في مسقط والثانية في روما والثالثة في مسقط. وهو ما يعد إشارة على تغير الأوضاع التي أفضت إلى خطة العمل الشاملة المشتركة عام ٢٠١٥، والتي جرت في فيينا وسويسرا في إطار متعدد الأطراف ويعكس انفتاحًا أمريكيًا على صيغة جديدة للاتفاق. ويؤكد اختيار روما الأهمية الدبلوماسية الناشئة لإيطاليا في هذا الملف، بفضل موقفها المعتدل نسبيًا تجاه إيران وعلاقتها الوثيقة بإدارة “ترامب”. وقد تجلى النهج الإيطالي المتوازن تجاه إيران في الحل السريع لقضية الصحفية سيسيليا سالا التي اعتُقلت بتهمة “انتهاك قانون جمهورية إيران الإسلامية”. بالإضافة إلى أن إيطاليا كانت الشريك التجاري الأوروبي الرائد لإيران خلال فترة خطة العمل الشاملة المشتركة، واستضافت أول زيارة رسمية للرئيس حسن روحاني إلى أوروبا بعد الاتفاق النووي.

ختامًا، تواجه القوى الأوروبية إدارة أمريكية مولعة بمعاداة المصالح الأوروبية ومهووسة بمصالحها الجيوسياسية وتجاهل الاتحاد الأوروبي بسبب رؤيتها القومية والتجارية، وهو ما يتوافق مع التحول الاستراتيجي الذي شهدناه منذ عودة دونالد ترامب إلى السلطة. تجلى ذلك في المباحثات النووية مع إيران التي تدخل مرحلة جديدة تلعب فيها أوروبا دورًا هامشيًا، بعد أن كانت ركيزة أساسية في الاتفاق النووي لعام 2015. ومع ذلك، فإن الاتحاد الأوروبي في وضع جيد يسمح له بالمساعدة في تقديم مساهمة فنية في ظل غياب الخبرة المتخصصة لدى مسؤولي إدارة “ترامب”. من جانبها، لطالما اعتبرت إيران أوروبا قوة موازنة للسياسات الأمريكية العدائية. وينبع موقفها البراجماتي الحذر تجاه بروكسل من اعتراف إيران بالاتحاد الأوروبي كهوية دبلوماسية متميزة لعب دور الوسيط الذي يوازن بين تصلب واشنطن وتشدد طهران. وتهميش الأوروبيين لا يعني فقط خسارة طرف دبلوماسي، بل إزالة أحد آخر الحواجز أمام انزلاق المنطقة نحو مواجهة عسكرية. وستُمثل استعادة المصداقية الأوروبية واستعادة أهميتها الدبلوماسية تحديًا كبيرًا، يتطلب إعادة النظر في استراتيجياتها وتعزيز استقلاليتها الاستراتيجية.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى