
من أوروبا إلى آسيا: كيف تعيد واشنطن ترتيب استراتيجيتها العسكرية؟
خلال اجتماع مجموعة الاتصال المعنية بالدفاع عن أوكرانيا في بروكسل يوم 12 فبراير 2025، حذّر وزير الدفاع الأمريكي، “بيت هيجسيث”، الأوروبيين من أن “الحقائق الجيوسياسية” تمنع الولايات المتحدة من أن تكون الضامن المطلق لأمنهم، مؤكدًا ضرورة أن تتولى الدول الأوروبية مسؤولية الدفاع عن قارتها. بهذه التصريحات تعيد الولايات المتحدة الأمريكية ترتيب أولوياتها الاستراتيجية، مع تحول واضح في تركيزها من أوروبا إلى آسيا. وهذا التحول ليس وليد اللحظة، بل هو نتاج تراكمات استراتيجية وتقييمات أمنية تعكس القناعة المتزايدة في واشنطن بأن التهديد الأكبر لأمنها القومي ومصالحها العالمية لم يعد يتمثل في روسيا أو الشرق الأوسط، بل في الصين.
وقد أكد هذا التوجه بيت هيجيست عندما أشار إلى أن التحدي الأكبر للولايات المتحدة يكمن في مواجهة النفوذ الصيني المتصاعد في المحيطين الهندي والهادئ. لذا وانطلاقًا من هذه التصريحات نستعرض في السطور التالية كيف تعيد واشنطن ترتيب استراتيجيتها العسكرية، مع التركيز على الأسباب الكامنة وراء هذا التحول، والتحديات العسكرية في المحيط الهادئ، والتحالفات الجديدة التي تسعى الولايات المتحدة لتعزيزها في آسيا.
التحول الاستراتيجي: من أوروبا إلى آسيا
لطالما كانت أوروبا مركز الثقل الاستراتيجي للولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث لعبت واشنطن دور الضامن الأساسي للأمن الأوروبي عبر حلف الناتو. ومع ذلك، فإن التصريحات الأخيرة لوزير الدفاع الأمريكي “بيت هيجسيث” تعكس تحولًا جذريًا في الأولويات الأمريكية؛ فبدلًا من التركيز على التهديدات التقليدية في أوروبا، مثل التوترات مع روسيا، تتجه واشنطن الآن نحو آسيا، حيث ترى أن الصين تشكل التهديد الأكبر لأمنها القومي.
وهذا التحول ليس وليد اللحظة، فقد بدأت بوادره تظهر منذ إدارة أوباما، التي أطلقت سياسة “المحور نحو آسيا”. لكنَّ هذا التحول يكتسب زخمًا أكبر في ظل إدارة ترامب الحالية، التي تعتبر الصين المنافس الاستراتيجي الرئيس للولايات المتحدة، سواء على الصعيد العسكري أو الاقتصادي. ووفقًا “لهيجسيث”، فإن التحدي الأكبر لواشنطن يتمثل في مواجهة النفوذ الصيني المتصاعد، خاصة في بحر الصين الجنوبي، وتعزيز القدرات العسكرية الصينية، والضغوط المتزايدة على تايوان.
لماذا التركيز على الصين؟
يعكس تأكيد “هيجسيث” على أولوية التهديد الصيني قناعة متزايدة داخل واشنطن بأن الصين تشكل التحدي الأكبر للولايات المتحدة. فبينما كانت روسيا تمثل التهديد الرئيس في أوروبا، خاصة بعد ضمها لشبه جزيرة القرم في 2014، فإن الصين تمثل تهديدًا أكثر تعقيدًا وخطورة. فالصين ليست فقط قوة عسكرية صاعدة، بل هي أيضًا منافس اقتصادي وتكنولوجي رئيس للولايات المتحدة. لذا تنظر الولايات المتحدة إلى الصين على أنها التهديد الاستراتيجي الأكبر بسبب مجموعة من العوامل العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية والأمنية.
على الصعيد العسكري: تسعى الصين إلى تعزيز قدراتها الدفاعية والهجومية من خلال تطوير أسلحة متقدمة مثل الصواريخ فرط الصوتية والغواصات الحديثة، بالإضافة إلى توسيع أسطولها البحري وتعزيز قدراتها في الفضاء والحرب السيبرانية. كما تعتمد الصين على استراتيجية “منع الوصول/منع دخول المنطقة” (A2/AD) التي تهدف إلى تقليص حرية الحركة العسكرية الأمريكية في المحيط الهادئ، مما يشكل تحديًا مباشرًا للوجود العسكري الأمريكي في المنطقة. وإلى جانب ذلك، يشكل تهديد الصين لتايوان مصدر قلق كبير لواشنطن، حيث ترى الأخيرة أن أي عمل عسكري صيني ضد الجزيرة قد يزعزع استقرار آسيا ويضعف مصداقية الولايات المتحدة في التزاماتها تجاه حلفائها. كما أن التوسع الصيني في بحر الصين الجنوبي، من خلال بناء جزر اصطناعية ذات استخدامات عسكرية، يزيد من خطر وقوع صدامات بين الصين والقوات الأمريكية أو حلفائها في المنطقة.
على الصعيد الاقتصادي: تمثل الصين منافسًا شرسًا للولايات المتحدة، خاصة مع هيمنتها على سلاسل التوريد العالمية، لا سيما في قطاعات حيوية مثل أشباه الموصلات والمعادن النادرة. هذا النفوذ يمنح بكين قوة اقتصادية يمكن أن تستخدمها للضغط على الدول الغربية، وهو ما تخشاه واشنطن في ظل تصاعد التوترات التجارية بين البلدين. كما أن المبادرات الاقتصادية الكبرى، مثل مبادرة الحزام والطريق، تتيح للصين توسيع نفوذها العالمي من خلال استثمارات ضخمة في البنية التحتية عبر آسيا وأفريقيا وأوروبا، ما قد يقلل من التأثير الأمريكي في هذه المناطق. وقد سعت الولايات المتحدة للحد من تفوق الصين في مجالات التكنولوجيا المتقدمة مثل شبكات الجيل الخامس (5G) والذكاء الاصطناعي، حيث تخشى واشنطن من استخدام بكين لهذه التقنيات في الأغراض العسكرية والاستخباراتية.
على المستوى التكنولوجي: فإن الولايات المتحدة تشعر بقلق متزايد إزاء تقدم الصين في الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية، حيث يمكن لهذه التقنيات أن تمنح بكين ميزة استراتيجية في المجالين العسكري والاستخباراتي. كما تواجه الشركات والمؤسسات الأمريكية تهديدات مستمرة من الهجمات السيبرانية التي تتهم واشنطن الصين بتنفيذها، مستهدفة البنية التحتية الحيوية وسرقة الملكية الفكرية من الشركات الأمريكية. ويشكل التجسس الصناعي والتكنولوجي مصدر قلق آخر، حيث تتهم الولايات المتحدة الصين بالسعي لاختراق الشركات والجامعات الأمريكية للحصول على معلومات حساسة قد تمنحها تفوقًا استراتيجيًا في مجالات عدة.
إضافة إلى ذلك، فإن الصين تسعى إلى توسيع نفوذها في الدول النامية عبر القروض والاستثمارات، ما يمنحها تأثيرًا سياسيًا متزايدًا يمكن أن يؤدي إلى تقويض النفوذ الأمريكي في هذه المناطق. وتخشى واشنطن من أن استخدام الصين لنفوذها الاقتصادي والسياسي قد يدفع بعض الدول إلى الانحياز إلى بكين في القضايا الدولية، مما قد يغير موازين القوى العالمية.
وبناءً على هذه المخاطر المتزايدة، تركز الاستراتيجية الأمريكية على احتواء النفوذ الصيني، سواء من خلال تعزيز التحالفات الدولية، أو فرض قيود تجارية وتكنولوجية، أو تكثيف الوجود العسكري في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، في محاولة لمنع الصين من تحقيق هيمنة عالمية قد تهدد المصالح الأمريكية.Top of FormBottom of Form
مواجهة التحديات
في مواجهة هذه التحديات، تسعى واشنطن إلى تعزيز تحالفاتها الإقليمية عبر اتفاقيات مثل AUKUS (بين الولايات المتحدة، أستراليا، وبريطانيا) والتي تهدف إلى تعزيز القدرات الدفاعية في مواجهة الصين، بما في ذلك تزويد أستراليا بالغواصات النووية. بالإضافة إلى ذلك، فإن الولايات المتحدة تعمل على تعزيز العلاقات مع اليابان، كوريا الجنوبية، والهند، ضمن استراتيجية “الإندو-باسيفيك”.
وهناك أيضًا تحالف “الرباعية الأمنية” (Quad) والذي يلعب أيضًا دورًا رئيسًا في استراتيجية واشنطن، حيث يجمع بين (الولايات المتحدة، الهند، اليابان، وأستراليا) لتعزيز التعاون الأمني والاقتصادي في المنطقة. وهذه التحالفات تعكس تغييرًا في أولويات واشنطن الأمنية، حيث تسعى إلى بناء شبكة من الشركاء الإقليميين لمواجهة التوسع الصيني.
في الأخير، يعكس تحول الاستراتيجية العسكرية الأمريكية من أوروبا إلى آسيا تغيرًا جذريًا في الأولويات الأمنية لواشنطن. فبينما كانت أوروبا تمثل مركز الثقل الاستراتيجي للولايات المتحدة لعقود، فإن الصعود العسكري والاقتصادي للصين يجعل آسيا المحور الرئيسي للاستراتيجية الأمريكية في القرن الحادي والعشرين، ويفرض في الوقت ذاته على الولايات المتحدة ضرورة التعاطي مع ذلك الأمر، لكن نجاح واشنطن في تحقيق أهدافها الاستراتيجية في آسيا سيعتمد على قدرتها على الجمع بين القوة العسكرية والدبلوماسية، وتعزيز التعاون مع الحلفاء الإقليميين، وضمان تفوقها التكنولوجي في مواجهة التحديات الصينية. ومع تصاعد المنافسة بين القوتين العظميين، يُتوقع أن العقد المقبل حاسمًا في تحديد شكل النظام الدولي الجديد ومدى قدرة الولايات المتحدة على الحفاظ على تفوقها العالمي.
المراجع
- Deborah Haynes, “US defence secretary signals dramatic shift in American military policy away from Europe, warning allies about ‘stark strategic realities'”, (News. Sky , 12 February 2025), Available at this link: https://news.sky.com/story/us-troops-will-not-be-used-to-secure-ukraine-peace-following-ceasefire-deal-with-putin-trumps-defence-secretary-tells-allies-13307774
- Phil Stewart and Idrees Ali, “US Defense Secretary Hegseth’s Europe debut irks allies, wins Trump’s nod”, (Reuters, February 15, 2025), Available at this link: https://www.reuters.com/world/us/us-defense-secretary-hegseths-europe-debut-irks-allies-wins-trumps-nod-2025-02-15/
- Morgan Phillips, “Hegseth warns Europeans ‘realities’ of China and border threats prevent US from guaranteeing their security”, (FoxNews, February 12, 2025), Available at this link: https://www.foxnews.com/politics/hegseth-warns-europeans-realities-china-border-threats-prevent-us-from-guaranteeing-security
- “US Secretary of Defense Pete Hegseth Prioritizes China’s Indo-Pacific Threat and America’s Response.”, (army recognition, 14 Feb, 2025), Available at this link: https://armyrecognition.com/news/army-news/2025/us-secretary-of-defense-pete-hegseth-prioritizes-chinas-indo-pacific-threat-and-americas-response
باحث أول بوحدة الدراسات الأسيوية