الحرب الروسية الأوكرانيةأوروبا

العقوبات الغربية على روسيا بين مخاوف “الفيتو” المجري وحيل بروكسل القانونية

شكلت العقوبات الغربية على روسيا منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية نوعًا من أنواع الضغط الاقتصادي والسياسي على موسكو؛ إذ استهدفت قطاعات واسعة من الاقتصاد الروسي وأفرادًا وكيانات مرتبطة بالحكومة الروسية أو الداعمة لسياساتها، بالرغم من عدم اتفاق جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بشأنها لما لها من تداعيات اقتصادية أوسع على القارة الأوروبية. ومع دخول الحرب الروسية الأوكرانية عامها الرابع، ومع بدء مباحثات السلام بين روسيا وأوكرانيا برعاية أمريكية وترحيب كبير من اليمين المتشدد الأوروبي، تدرس بروكسل تمديد العقوبات المفروضة على موسكو مع تجنب “فيتو” المجر، الحليف الغربي الأقرب لروسيا والمعارض لإنفاذ العقوبات.

يعد الاتحاد الأوروبي أحد أكبر الجهات الفاعلة في فرض العقوبات على روسيا[1]، حيث تتبع عملية صنع القرار وتنفيذ العقوبات إجراءات مؤسسية وقانونية دقيقة، وتعتمد هذه الآلية على التنسيق بين الدول الأعضاء الـ27 والمؤسسات الأوروبية الرئيسة، وفقًا للأطر القانونية والمؤسسية التي حددت معايير اتخاذ العقوبات داخل الاتحاد الأوروبي، وتكون العقوبات محددة الأهداف بدقة ومُصممة لتكون متناسبة ومؤقتة بطبيعتها. هذا يعني أنها تُراجع بانتظام، ويمكن للاتحاد الأوروبي تعديلها أو تخفيفها أو إنهاؤها إذا تحققت أهدافها، أو إذا اتُخذت خطوات جادة نحوها.

  • الأساس القانوني للعقوبات
  • “معاهدة الاتحاد الأوروبي”[2]:
  • المادة 13: تشير إلى المؤسسات المسؤولة داخل الاتحاد الأوروبي لإنفاذ القوانين والقرارات، وتنص على أن:” للاتحاد إطار مؤسسي يهدف إلى تعزيز قيمه، والنهوض بأهدافه، وخدمة مصالحه، ومصالح مواطنيه، ومصالح الدول الأعضاء، وضمان اتساق وفعالية واستمرارية سياساته وإجراءاته”. ومؤسسات الاتحاد هي: البرلمان الأوروبي، المجلس الأوروبي، المجلس، المفوضية الأوروبية، محكمة العدل التابعة للاتحاد الأوروبي، البنك المركزي الأوروبي، ديوان المحاسبة”. ويضم مجلس الاتحاد الأوروبي وزراء خارجية الدول الأعضاء، ويصوت على حزم العقوبات ويُصدر القرارات، بينما تقترح المفوضية الأوروبية إجراءات العقوبات وتشرف على تنفيذها، وتنسق مع البنك المركزي الأوروبي العقوبات المالية، ويقوم الممثل الأعلى للاتحاد للشؤون الخارجية بتنسيق السياسة الخارجية ويقترح أسماء الأفراد والكيانات المستهدفة، وفي النهاية تنفذ دول الاتحاد العقوبات عبر أنظمتها القانونية المحلية.
  • المادة 22: وتتعلق بقرارات مجلس الاتحاد الأوروبي، حيث تنص على أنه:” بناءً على المبادئ والأهداف المنصوص عليها، يحدد المجلس الأوروبي المصالح والأهداف الاستراتيجية للاتحاد بالسياسة الخارجية والأمنية المشتركة وبمجالات أخرى من العمل الخارجي للاتحاد، ويجوز أن تتعلق هذه القرارات بعلاقات الاتحاد مع بلد أو منطقة محددة أو أن تكون موضوعية في نهجها، وتحدد مدتها والوسائل التي يتعين على الاتحاد والدول الأعضاء توفيرها. ويتصرف المجلس الأوروبي بالإجماع بناءً على توصية من المجلس”.
  • المادة 23:” تتشاور الدول الأعضاء مع بعضها البعض داخل المجلس الأوروبي والمجلس بشأن أي مسألة تتعلق بالسياسة الخارجية والأمنية ذات المصلحة العامة من أجل تحديد نهج مشترك، وقبل اتخاذ أي إجراء على الساحة الدولية أو الدخول في أي التزام قد يؤثر على مصالح الاتحاد، تتشاور كل دولة عضو مع الدول الأخرى داخل المجلس الأوروبي أو المجلس. تضمن الدول الأعضاء، من خلال تقارب إجراءاتها، أن يكون الاتحاد قادرًا على تأكيد مصالحه وقيمه على الساحة الدولية”.
  • المادة 29:” يتخذ مجلس الاتحاد الأوروبي قرارات اعتماد أو تجديد أو رفع أنظمة العقوبات بناءً على مقترحات الممثل الأعلى للاتحاد للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية (الممثل الأعلى) أو الدول الأعضاء. ويتخذ المجلس القرارات المتعلقة بالعقوبات بالإجماع، بناءً على قرارات مجلس السياسة الخارجية والأمنية المشتركة التي يقترحها الممثل الأعلى”.
  • المادة 31:” تُتخذ القرارات من قِبل المجلس الأوروبي والمجلس بالإجماع، وعند الامتناع عن التصويت، يجوز لأي عضو في المجلس أن يُقيد امتناعه عن التصويت بإصدار إعلان رسمي. في هذه الحالة، لن يكون مُلزمًا بتطبيق القرار، ولكنه سيقبل أن القرار يُلزم الاتحاد، وتمتنع الدولة العضو المعنية عن أي إجراء من شأنه أن يتعارض مع أو يعوق عمل الاتحاد بناءً على هذا القرار، وتحترم الدول الأعضاء الأخرى موقفها”. وإذا كان أعضاء المجلس الذين يُقيدون امتناعهم عن التصويت بهذه الطريقة يمثلون ثلث الدول الأعضاء التي تضم ثلث سكان الاتحاد على الأقل، فلن يتم اعتماد القرار”.
  • المادة 33: “إذا أعلن أحد أعضاء المجلس أنه، لأسباب حيوية ومعلنة تتعلق بالسياسة الوطنية، ينوي معارضة اعتماد قرار يتم اتخاذه بالأغلبية المؤهلة، فلن يتم التصويت. ويقوم الممثل السامي، بالتشاور الوثيق مع الدولة العضو المعنية، بالبحث عن حلٍّ مقبولٍ لها. إذا لم يُفلح، يجوز للمجلس، بأغلبيةٍ مؤهلة، أن يطلب إحالة الأمر إلى المجلس الأوروبي لاتخاذ قرارٍ بالإجماع”.
  • المادة 36:” يُجري البرلمان الأوروبي مناقشة مرتين سنويًا حول التقدم المحرز في تنفيذ السياسة الخارجية والأمنية المشتركة، بما في ذلك سياسة الأمن والدفاع المشتركة”.
  • معاهدة عمل الاتحاد الأوروبي[3]
  • المادة 215:” إذا تضمن قرار المجلس تدابير ذات آثار اقتصادية و/أو مالية، فيجب تطبيقها في لائحة مجلسية، يُقدمها الممثل السامي والمفوضية الأوروبية بشكل مشترك، ويُعتمد قرار مجلس السياسة الخارجية والأمنية المشتركة ولائحته في آنٍ واحد. وتقع مسؤولية تنفيذ وإنفاذ عقوبات الاتحاد الأوروبي على عاتق الدول الأعضاء في الاتحاد. وتراقب المفوضية تنفيذ الدول الأعضاء للأنظمة المعتمدة والتزامها بها”.
  • “معاهدة لشبونة TFEU [4] وهي اتفاقية دولية تفصيلية معدلة لمعاهدة للاتحاد الأوروبي  والمعاهدة المنشئة للجماعة الأوروبية
  • وتنص المادة 188ك المتعلقة بالتدابير التقييدية على أنه:” إذا نص قرار صادر وفقًا للفصل الثاني من الباب الخامس من معاهدة الاتحاد الأوروبي على قطع أو تقليص العلاقات الاقتصادية والمالية، جزئيًا أو كليًا، مع دولة ثالثة واحدة أو أكثر، يتخذ المجلس، بأغلبية مشروطة، بناءً على اقتراح مشترك من الممثل الأعلى للاتحاد للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية والمفوضية، التدابير اللازمة. ويُبلغ البرلمان الأوروبي بذلك”.
  • “يجوز للمجلس أن يتخذ تدابير تقييدية بموجب الإجراء المشار إليه في الفقرة 1 ضد الأشخاص والمجموعات الطبيعية أو القانونية أو الكيانات غير الحكومية”.
  • مراحل فرض العقوبات الأوروبية على روسيا
  • التقييم السياسي وصياغة العقوبات: وهنا يتم تقييم الموقف الروسي والتهديدات الأمنية التي يمثلها العدوان على أوكرانيا، وبعد التنسيق مع حلفاء الاتحاد كالولايات المتحدة وبريطانيا وكندا، يتم صياغة مقترحات العقوبات والكيانات المستهدفة، إذ تقوم “لجنة السياسة والأمن” (PSC) – المكونة من سفراء الدول الأعضاء بصياغة المسودة الأولى، وتقوم لجنة الممثلين الدائمين” (COREPER) بتنقيح النص قبل رفعه للمجلس.
  • عملية التصويت واتخاذ القرار: حيث يتم عقد اجتماع طارئ للدول الأعضاء الـ 27، وبشكل نظري يتطلب موافقتهم جميعا على العقوبات، ولكن عمليا، يتم تطبيق “توافق الآراء” حيث يمكن امتناع بعض الدول دون إعاقة القرار. وفي حال الموافقة، يُصدر المجلس قرارًا سياسيًّا [5](CFSP Decision) يحدد الأهداف، ولائحة تنفيذية [6](EU Regulation) تُلزم الدول الأعضاء بالتنفيذ.
  • التنفيذ والمراقبة: في هذه المرحلة يتم إدراج الكيانات المستهدفة في قوائم العقوبات الرسمية، وتقوم بعد ذلك الدول الأعضاء بتجميد الأصول وحظر التأشيرات، كما يتخذ البنك المركزي الأوروبي (ECB) إجراءات ضد البنوك الروسية، وتتعقب كل من وكالة الاتحاد الأوروبي للتعاون في إنفاذ القانون، ووكالة الاتحاد الأوروبي للتعاون في مجال العدالة الجنائية التهرب من العقوبات.
  • التحديث والمراجعة: يتم مراجعة العقوبات كل ستة أشهر، ووفق ذلك يتم اتخاذ قرارات بالإجماع إما بتمديد أو توسيع أو تخفيف العقوبات، كما يمكن إضافة أفراد أو شركات جديدة للقوائم (مثل قادة عسكريين، شركات طاقة)، ويُجدَّد العمل بالعقوبات القطاعية- كحظر استيراد السلع الروسية- في يناير ويوليو، بينما تُراجع القوائم للتمديد في مارس وسبتمبر.

ووفقا للآليات السابقة، فرض الاتحاد الأوروبي منذ 22 فبراير 2022 وحتى 24 فبراير 2025 ست عشرة حزمة عقوبات[7] على حوالي 2400 من الأفراد والكيانات الروسية[8]، تنوعت بين عقوبات فردية محددة أو عقوبات قطاعية[9]، هدفت في المقام الأول إلى تحقيق هدف سياسة الاتحاد الأوروبي المتمثل في إنهاء حرب روسيا العدوانية على أوكرانيا، من خلال تعظيم الضغط على روسيا واستخدام جميع الأدوات المتاحة لتقليص قدرتها على شن حربها العدوانية غير القانونية.

أتاحت بعض المواد القانونية أعلاه لدول الاتحاد معارضة القرارات التي يستوجب اتخاذها بالإجماع، وكانت المجر من أبرز الدول التي طالما انتقدت عقوبات الاتحاد الأوروبي على الكرملين، نظرًا للعلاقة العميقة التي تجمع الرئيس المجري فيكتور أوربان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، فقد كانت المجر الدولة الأوروبية الوحيدة التي صوّتت مع الولايات المتحدة ضد قرار الأمم المتحدة الذي يدين روسيا لغزوها أوكرانيا، بجانب رفض “أوربان” أن يتم اتخاذ تدابير تقييدية على الكيان الروسي، وذلك بذريعة الانهيار الاقتصادي الذي سيلحق بالقارة الأوروبية حال اتخاذ تلك القرارات، مؤكدا أن وسيا لا تُشكل تهديدًا عسكريًا للاتحاد الأوروبي.[10]

وهدد “أوربان” مرارًا وتكرارًا باستخدام حق النقض “الفيتو” ضد العديد من قرارات الاتحاد الأوروبي وخاصة فيما يتعلق بالعقوبات الروسية، وتعهد بعرقلة الإجراءات ضدّ النفط والغاز والتكنولوجيا النووية الروسية، على الرغم من التحذيرات من أن العودة إلى شراء الطاقة الروسية الخاضعة للعقوبات ستكون بمثابة الساح لروسيا بإعادة استغلال احتياجات القارة الأوروبية من جديد. ولكن “أوربان” رأى في هذا الأسلوب طريقة فعالة لحث باقي الدول الأعضاء على تقديم “تنازلات” للمجر حتى يتم اعتماد أي اتفاقيات يبرمها الاتحاد، وقد صعّب هذا على الاتحاد الأوروبي توحيد مواقفه بشأن القضايا العالمية، واختبر حدود نهجه التوافقي في صنع السياسات.

ولعل أبرز هذه التنازلات هو تراجع المفوضية الأوروبية عن قرار تجميد 30 مليار يورو من تمويلات المجر بسبب مخاوف من تآكل سيادة القانون في البلاد، وتم السماح للمجر بالوصول إلى ثلث تلك الأموال[11] في مقابل عدم عرقلة قمة حاسمة للاتحاد الأوروبي بشأن مساعدات أوكرانيا وعضويتها المحتملة في الاتحاد الأوروبي.[12]

وفي يناير الماضي[13]، وخلال اجتماع الاتحاد الأوروبي الدوري لبحث تجديد القيود المفروضة على روسيا، رفض الوفد المجري عملية التجديد، متعللًا بعودة الرئيس دونالد ترامب -الحليف الأيديولوجي لأوربان- للبيت الأبيض، وبدء محادثات وقف إطلاق النار مع روسيا وأوكرانيا، وإعلانه أنه سوف يتم تخفيف العقوبات الأمريكية على موسكو حال نجاحها وبالتبعية تحفيف عقوبات الاتحاد الأوروبي. ولكن “ترامب” بقراراته المتغيرة قد هدد بعد ذلك –وبشكل مفاجئ- بفرض المزيد من القيود على موسكو، ووجه وزير خارجيته ماركو روبيو لحث بودابست –سرًا- على عدم عرقلة إطار عقوبات الاتحاد، مما ضمن بقاء الأصول الروسية مُجمدة والحظر التجاري قائمًا.[14]

يُعدّ تمديد العقوبات المفروضة على روسيا من أكثر القضايا إلحاحًا بالنسبة للاتحاد الأوروبي، خاصة وأن الإدارة الأمريكية تعمل -دون الأخذ في الاعتبار المصالح الأوروبية- على حل الأزمة الروسية الأوكرانية لصالح روسيا من أجل استعادة العلاقات المتوترة بين موسكو وواشنطن، ويمكن رؤية ذلك من خلال المحادثات الأخيرة التي تقودها إدارة “ترامب” لوقف الحرب دون إشراك دول الاتحاد الأوروبي[15]، والتي يمكن من خلالها تلميح واشنطن باقتراب تخفيف العقوبات من جانبها على روسيا حال نجاح المفاوضات بوقف إطلاق النار بين البلدين.

بجانب ذلك، فإن التهديد الدائم المتمثل في اندلاع حرب تجارية عبر الأطلسي تؤثر على اقتصادات الاتحاد الأوروبي -بعد قرارات ترامب الجمركية- ربما يشعل من جديد الانقسامات الداخلية والدعوات إلى تخفيف العقوبات عن بعض الأمور مثل الغاز الروسي والألومنيوم والصلب والتجارة الأوسع مع موسكو، وأن تتخذ كل دولة على حدة التدابير التقييدية الخاصة بها.

ولو نجحت إدارة ترامب في التوصل إلى اتفاق يقضي بوقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا، يتبعه تخفيف العقوبات الأمريكية، وبالتالي إجبار أوروبا على اتباع النهج الأمريكي؛ نظرا لارتباط العديد من المؤسسات المالية الرئيسة في العالم بأوروبا، سيجد الاتحاد الأوروبي نفسه دون ذراع ضغط رئيسة على روسيا.

ويبدو أن المؤسسة الأوروبية قد وضعت هذا الاحتمال في الاعتبار، ففي مارس 2025، وبعد اتفاق وقف إطلاق النار في “البحر الأسود” بين موسكو وواشنطن[16]، أعلنت حينها واشنطن بأنها ستساعد في استعادة وصول روسيا إلى السوق العالمية للصادرات الزراعية والأسمدة، وخفض تكاليف التأمين البحري، وتعزيز الوصول إلى الموانئ وأنظمة الدفع لمثل هذه المعاملات، وهذا بالتأكيد لم يكن ليحدث دون رفع بعض العقوبات الأمريكية والأوروبية، أو منح  الشركات الروسية استثناءات وإعفاءات تُعدّ في جوهرها تخفيفًا للعقوبات.

وردًا على هذا الاتفاق، أعلنت المفوضية الأوروبية عن شروط الاتحاد الأساسية لتعديل العقوبات أو رفعها، والتي تتمحور حول “إنهاء العدوان الروسي في أوكرانيا والانسحاب غير المشروط لجميع القوات العسكرية الروسية من كامل أراضي أوكرانيا”[17]، وهذا الشرط “التعجيزي” الذي يصمم عليه الاتحاد الأوروبي يبدو وأنه غير قابل للتطبيق من قبل موسكو، ومن شأنه خلق حالة من الجمود البيروقراطي، كما يبدو أنه جزء من استراتيجية أوروبية أوسع لعرقلة تقدم المحادثات الأمريكية الروسية لإنهاء الحرب في أوكرانيا وفق الشروط الروسية، وهو ما سيجعل كلًا من “ترامب” و”بوتين” يلقيان باللوم على الاتحاد الأوروبي في فشل جهود ترامب للسلام[18].

ولكن في الوقت الحالي، ونظرا لعدم التوصل إلى اتفاق أمريكي روسي بشأن إنهاء الحرب، فإن كلًا من الإدارة الأمريكية[19] -بهدف تكثيف الضغط- والاتحاد الأوروبي يدرسان فرض عقوبات جديدة على موسكو،  حيث يستعد الاتحاد الأوروبي لفرض الحزمة السابعة عشرة من العقوبات في يوليو القادم، بجانب تجديد إجراءات أخرى، بما في ذلك تجميد ما يقرب من 200 مليار يورو (227 مليار دولار) من أصول البنك المركزي الروسي وإدراج مئات الأفراد والكيانات التي دعمت حرب موسكو ضد أوكرانيا.

ومع رفض المجر، واحتمال انضمام دول أوروبية أخرى لنفس النهج المتضرر اقتصاديًا من العقوبات؛ قد لا يتم اعتماد الحزمة الجديدة، وبدلًا من ذلك ستُجرى مفاوضات مع المجر يتخللها بالطبع بعض التنازلات المالية من بروكسل لتمديد حزمة العقوبات الحالية، أو أن يسمح الاتحاد الأوروبي بانقضاء العقوبات ولكن بدلًا من ذلك يرفع الرسوم الجمركية على الواردات والصادرات الروسية، ولكن ذلك لا يغني عن العقوبات بشكل كامل.

ولمواجهة هذا التمرد، تحاول مؤسسات الاتحاد الأوروبي أن تتحايل على الفيتو المجري وتمنع الدول الأعضاء الأخرى من انتقاء العناصر المعاقبة، حيث تدرس العقول القانونية في بروكسل بالفعل النصوص والقوانين للتوصل إلى خطط بديلة لإنفاذ العقوبات الروسية لعل أبرزها:  

نقل العقوبات إلى المستويات الوطنية: أي جعل العقوبات على روسيا تندرج تحت القرارات الوطنية المحلية الخاصة بكل دولة على حدة، وبالتالي لن تتمكن بودابست من نقضها. ومع ذلك، فمن غير الواضح ما إذا كانت هذه الفكرة ستحظى بدعم دول الاتحاد، كما أن بعض البلدان التي تؤيد فكرة فرض قيود خارج مظلة الاتحاد الأوروبي -كبلجيكا والتشيك على سبيل المثال- لا تملك التشريعات لنقل العقوبات إلى القانون الوطني الخاص بها، كونها تعتمد على الإطار الأوروبي، كما أن الكثير من الدول ستكون مترددة في اتخاذ أي خطوات من شأنها تقسيم النهج الأوروبي الموحد وجعله أضعف من القوة الكاملة لقانون الاتحاد الأوروبي. ومن هنا ظهرت فكرة أخرى تقتضي إنشاء “تحالف الراغبين”، وهو تجمع فضفاض من الدول الأوروبية شُكِّل لدعم أوكرانيا سياسيًا وعسكريًا بقيادة المملكة المتحدة بجانب ألمانيا وفرنسا وبولندا، من أجل تشكيل السياسة الخارجية الأوروبية للمضي قدمًا في القرارات التي تمس الأمن والدفاع الأوروبي، وبالرغم من أن هذا التحالف يعكس فشل السياسة الخارجية المشتركة داخل الاتحاد فإنه سيكون خيارًا سياسيًا اضطراريًا لمواجهة المجر.

إزالة حقوق التصويت لبودابست: وهي فكرة ليست بالجديدة، فقد نظر الاتحاد الأوروبي في تجريد المجر من حقوق التصويت قبل فترة، بسبب الفيتو المجري الذي أعاق إرسال مساعدات مالية بقيمة 50 مليون دولار لأوكرانيا ممتدة لأربع سنوات[20]، كما أثار رفض المجر التوقيع على الاستنتاجات المتعلقة بحرب روسيا ضد أوكرانيا في التجمع الأخير للزعماء الأوروبيين، في لوكسمبورغ شهر مارس الماضي، نقاشًا متجددًا حول كيفية التعامل مع معارضة بودابست لعناصر أساسية في سياسة الاتحاد الأوروبي، ومحاولة الالتفاف على ذلك، لدرجة أن الائتلاف الحاكم الجديد في ألمانيا[21] قد دعا بالفعل إلى اتخاذ نهج أكثر صرامة تجاه البلدان التي تنتهك سيادة القانون في الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك إمكانية إزالة حقوق التصويت الخاصة بها، وفق المادة السابعة من معاهدة الاتحاد الأوروبي التي تنص على “إمكانية سحب حقوق التصويت من دولة عضو إذا كانت العضوية تشكل خطرا على أمن أوروبا وأمن الأعضاء الآخرين”، وهو البند الذي يبدو أنه يستهدف بودابست. ولكن مع ذلك، يعد هذا الخيار معقدا جدا من الناحية القانونية والسياسية، بجانب أن العلاقات الودية التي تربط الرئيس المجري بدونالد ترامب قد تمنع الاتحاد الأوروبي أيضاً من اتخاذ هذه الخطوة خوفاً من تفاقم التوتر في العلاقات مع ترامب، في ظل تدهور العلاقات عبر الأطلسي يوماً بعد يوم، فضلا عن المخاوف التي سيثيرها هذا القرار داخل الاتحاد من أن يتم استخدام سلاح العزلة قبل بروكسل ضد كل دولة عضو تعارض أي قرارات في المستقبل.

استغلال “ثغرات” قانون العقوبات الأوروبي[22]: وذلك لكل من الوثيقتين (القرار واللائحة) لعقوبات الاتحاد الأوروبي، فكلاهما يتطابقان جوهريًا ويعملان معًا، إذ تتفق الدول الأعضاء وتعتمد قرارًا، يُنفذ بعد ذلك من خلال لائحة، ويجب تمديد اللائحة كل ستة أشهر بالإجماع، لكن القرار لا يُمدد، بل يبقى ساري المفعول ما لم تُصوّت أغلبية مؤهلة على إلغائه. وهذا يعني أن العقوبات قد تبقى سارية دون الحاجة إلى تمديد رسمي، وهذا الأمر من شأنه تقويض الفرصة الكبيرة التي تتمتع بها المجر “لابتزاز” بقية أعضاء الاتحاد في هذا الشأن، وسيدعو إلى توسيع نطاق التصويت بالأغلبية داخل المجلس في قضايا السياسة الخارجية والأمنية المشتركة، وبالتالي اتخاذ القرارات دون الحاجة إلى موافقة المجر. ولكن الأمر ليس بهذه السهولة، كونه معقدًا للغاية من الناحية القانونية والسياسية، ويستوجب إصدار تعريفات تفصيلية بشأنه، كما أن له تداعيات واسعة[23]؛ فقد تلجأ المجر، وربما دول أخرى، إلى مقاضاة الاتحاد الأوروبي بسبب رفضهم الأمر باعتباره سابقة في تاريخ الاتحاد الأوروبي الذي يستخدم “الإجماع” لاتخاذ القرارات، وكونه يمثل تهديدًا للمصالح الأساسية لدول الاتحاد في قضايا أخرى.

مجمل القول، يواجه الاتحاد الأوروبي أزمة حادة في الحفاظ على تماسك موقفه تجاه العقوبات على روسيا بسبب التهديد المزدوج المتمثل في السياسات الأمريكية المنفردة تحت إدارة “ترامب” في الانفتاح على موسكو للتوصل إلى اتفاق ينهي الحرب الروسية الأوكرانية، والمقاومة الداخلية من قبل “فيتو” المجر لعرقلة تمديد العقوبات، مما يدفع بروكسل إلى استكشاف حلول استثنائية تحمل مخاطر تقسيم الوحدة الأوروبية وإثارة صراعات قانونية وسياسية قد تضعف الموقف الأوروبي الموحد في مواجهة التحديات الروسية والأمريكية على حد سواء. ولكن قد تتلاقى المصالح الأوروبية والأمريكية في فرض عقوبات جديدة على روسيا في المرحلة الحالية؛ رغبة من إدارة “ترامب” في تكثيف الضغوط على موسكو للموافقة على اتفاق السلام في أوكرانيا.


[1] ‘Restrictive measures in view of Russia’s actions destabilising the situation in Ukraine’, EU Sanction Map, https://tinyurl.com/4vbwhuf7

[2] ‘Consolidated version of the Treaty on European Union’, EUR-Lex, https://eur-lex.europa.eu/resource.html?uri=cellar:2bf140bf-a3f8-4ab2-b506-fd71826e6da6.0023.02/DOC_1&format=PDF

[3]The adoption of EU sanctions’, European Union, https://www.eeas.europa.eu/eeas/sanctions-eu-adoption_en

[4]Treaty of Lisbon amending the Treaty on European Union and the Treaty establishing the European Community’, EUR-Lex, https://eur-lex.europa.eu/legal-content/EN/TXT/?uri=celex%3A12007L%2FTXT

[5]Council Decision (CFSP) 2024/1484 of 27 May 2024 concerning restrictive measures in view of the situation in Russia’, EUR-Lex, https://eur-lex.europa.eu/legal-content/EN/TXT/?uri=OJ:L_202401484

[6]Consolidated text: Council Regulation (EU) 2024/1485 of 27 May 2024 concerning restrictive measures in view of the situation in Russia’,EUR-Lex, https://eur-lex.europa.eu/legal-content/EN/TXT/?uri=CELEX%3A02024R1485-20240913

[7]Timeline – Packages of sanctions against Russia since February 2022, European Council- Council of the European Union, https://www.consilium.europa.eu/en/policies/sanctions-against-russia/timeline-packages-sanctions-since-february-2022/

[8]EU sanctions against Russia’, European Council- Council of the European Union, https://www.consilium.europa.eu/en/policies/sanctions-against-russia/

[9]What types of sanctions are in place’, European Union, https://www.eeas.europa.eu/eeas/sanctions-what-types_en

[10]Why EU Partners Have Had Enough of Viktor Orban’s Stonewalling’, Bloomberg, https://www.bloomberg.com/news/articles/2025-03-10/why-hungary-s-orban-is-stonewalling-the-eu-and-what-the-bloc-can-do-about-it

[11] ‘EU to unblock €10bn for Hungary ahead of Ukraine summit’, Financial Times, https://www.ft.com/content/da1f9924-be28-4ad5-a028-56d05735380d

[12]Europe Tackles Its Orban Problem After Trump Rips Up Ukraine Aid’, Bloomberg, https://www.bloomberg.com/news/articles/2025-03-06/hungary-s-viktor-orban-is-problem-for-eu-s-ukraine-plans

[13]Trump will make — or break — Europe’s Russia sanctions’, POLITICO, https://www.politico.eu/article/donald-trump-europe-russia-moscow-goods-energy-oil-latvia/

[14]EU renews Russian sanctions after deal with Hungary’, POLITICO, https://www.politico.eu/article/eu-renews-russian-sanctions-after-deal-with-hungary/

[15] ‘Europe will not be part of Ukraine peace talks, US envoy says’, Reuters, https://www.reuters.com/world/europe/zelenskiy-calls-european-army-deter-russia-earn-us-respect-2025-02-15/

[16]Russia and Ukraine Commit to Black Sea Truce. What Does That Mean?’, The New York Times, https://www.nytimes.com/2025/03/26/world/europe/russia-ukraine-black-sea-cease-fire.html

[17] ‘EU says ‘unconditional withdrawal’ of Russia from Ukraine is a precondition to amend sanctions’ Reuters, https://www.reuters.com/world/europe/eu-says-unconditional-withdrawal-russia-ukraine-is-precondition-amend-sanctions-2025-03-26/

[18] ‘Will EU stand in the way of Russia-Ukraine ceasefire?’, Responsible Statecraft, https://responsiblestatecraft.org/eu-black-sea-deal/

[19] ‘Exclusive: US readies Russia sanctions over Ukraine, unclear if Trump will sign, sources say’, Reuters, https://www.reuters.com/world/us-readies-russia-sanctions-over-ukraine-unclear-if-trump-will-sign-sources-say-2025-05-02/

[20] ‘EU strives to make Orbán realise ‘full costs’ of isolation after Ukraine veto’ Financial Times, https://www.ft.com/content/96d15e1a-4e23-4013-a5ba-8234f993b8b4

[21]The time has come to punish Orbán, Germany’s next government says’, POLITICO, https://www.politico.eu/article/germany-next-coalition-vows-punish-hungary-viktor-orban-friedrich-merz/

[22] ‘Brussels’ Sanctions Backup Plan; Visa-Free Travel Rules Face Overhaul’, Radio free Europe, https://www.rferl.org/a/eu-russia-sanctions-workaround-visa-rules-tighten-europe-jozwiak/33383733.html

[23]EU countries push to Orbán-proof Russia sanctions’, POLITICO, https://www.politico.eu/article/eu-countries-viktor-orban-proof-russia-sanction/

Website |  + posts

باحثة بالمرصد المصري

مي صلاح

باحثة بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى