
توقعات صندوق النقد الدولي: المتغيرات المتلاحقة تثقل كاهل الاقتصاد العالمي
عرض – بسنت جمال
أصدر صندوق النقد الدولي أكتوبر الجاري تقريرًا بعنوان “التصدي لأزمة تكلفة المعيشة” ليلقي الضوء على توقعاته المنخفضة للنمو الاقتصادي خلال عامي 2022 و2023، لا سيما عقب التعافي الهش الذي شهده عام 2021، وتطورات العام الجاري التي أضفت على الآفاق العالمية قتامة متزايدة، حيث بدأت المخاطر تتحقق على أرض الواقع.
وأشار التقرير إلى أن تباطؤ النشاط الاقتصادي العالمي بات واسع النطاق وأكثر حدة مما كان متوقعًا، مع ارتفاع التضخم لمستوى قياسي لم يشهده العالم منذ عقود، لتتوقف آفاق الاقتصاد على المعايرة الناجحة لكل من السياسة النقدية وسياسة المالية العامة، ومسار الحرب في أوكرانيا، وآفاق النمو في الصين.
بالإضافة إلى ذلك، لا تزال المخاطر كبيرة بدرجة غير معتادة، فمن الممكن أن تخطئ السياسة النقدية في حساب الموقف الصحيح لتخفيض التضخم؛ ومن الممكن أن يؤدي تباعد مسارات السياسات في الاقتصادات الكبرى إلى ارتفاع سعر الدولار الأمريكي؛ ومن الممكن أن يؤدي تشديد أوضاع التمويل العالمي إلى دخول الأسواق الصاعدة في مرحلة مديونية حرجة؛ ومن الممكن أن يؤدي تفاقم أزمة القطاع العقاري في الصين إلى إضعاف النمو.
اتجاهات عالمية
يشهد النشاط الاقتصادي العالمي تباطؤًا واسعًا فاقت حدته التوقعات، مع تجاوز معدلات التضخم مستوياتها المسجلة خلال عدة عقود سابقة. وترسل الآفاق إشارات بوجود أعباء ثقيلة من جراء أزمة تكلفة المعيشة، وتشديد الأوضاع المالية في معظم المناطق، والغزو الروسي لأوكرانيا، واستمرار تداعيات أزمة كورونا.
وبناء على ذلك، توقع صندوق النقد الدولي تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي من 6% خلال عام 2021 إلى 3.2% خلال عام 2022 مسجلًا عقب ذلك نحو 2.7% بحلول عام 2023، وهو ما يمثل أضعف أنماط النمو على الإطلاق منذ عام 2001 باستثناء فترة الأزمة المالية العالمية والمرحلة الحرجة من جائحة كوفيد-19، وسيعاني أكثر من ثلث الاقتصاد العالمي من الانكماش العام الجاري أو القادم. ومن المتوقع أن يصل النمو إلى 2.4% في الاقتصادات المتقدمة و3.7% في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، على الترتيب. ويُبين الشكل الآتي توقعات النمو الاقتصادي العالمي:
أما عن النمو الاقتصادي الخاص بكل منطقة على حدة، فيتبين أن نمو منطقة اليورو سيتباطأ إلى 3.1%، وسيتراجع معدل نمو أمريكا اللاتينية والكاريبي إلى 3.5% فقط، وسينمو الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة الأمريكية وآسيا الصاعدة والنامية إلى 1.6%، و4.4% على الترتيب، وبالتحول صوب الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، فمن المتوقع أن تنمو بحوالي 5%، وهو ما يتبين من الرسم الآتي:
وتأتي تلك التوقعات في ظل استمرار الأزمة الروسية الأوكرانية في زعزعة استقرار الاقتصاد العالمي، وحدوث أزمة طاقة حادة في أوروبا أدت إلى زيادة حادة في تكاليف المعيشة وإعاقة النشاط الاقتصادي حيث زادت أسعار الغاز في أوروبا أكثر من أربعة أضعاف منذ عام 2021 مع خفض روسيا الإمدادات إلى أقل من 20% مقارنة بمستوياتها العام الماضي، مما يزيد من احتمالية حدوث نقص في الطاقة خلال الشتاء المقبل وما بعده. وعلى نطاق أوسع، أدى الصراع أيضًا إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية في الأسواق العالمية، على الرغم من التخفيف الأخير بعد صفقة الحبوب في البحر الأسود، مما أسفر عن حدوث صعوبات خطيرة للأسر ذات الدخل المنخفض في جميع أنحاء العالم، وخاصة في البلدان منخفضة الدخل.
صدمات تضخمية
من المتوقع ان يرتفع التضخم العالمي من 4.7% في 2021 إلى 8.8% في 2022 ليتراجع لاحقًا إلى 6.5% في 2023 و4.1% في 2024. ولذلك فعلى السياسة النقدية أن تواصل العمل على استعادة استقرار الأسعار، مع توجيه سياسة المالية العامة نحو تخفيف الضغوط الناجمة عن تكلفة المعيشة، على أن يظل موقفها متشددًا بدرجة كافية اتساقًا مع السياسة النقدية. ويمكن أن يكون للإصلاحات الهيكلية دور إضافي في دعم الكفاح ضد التضخم من خلال تحسين الإنتاجية والحد من نقص الإمدادات، بينما يمثل التعاون متعدد الأطراف أداة ضرورية لتسريع مسار التحول إلى الطاقة الخضراء والحيلولة دون التشرذم.
وارتفعت أسعار السلع الأساسية بنسبة 19.1% خلال الفترة التي تتراوح بين فبراير وأغسطس 2022، وذلك بقيادة الطاقة – وخاصة الغاز الطبيعي بزيادة 129.2%، حيث قطعت روسيا إمدادات الغاز عن عدد من الدول الأوروبية، فيما انخفضت أسعار المعادن الأساسية بنسبة 19.3%، وانخفضت أسعار المعادن الثمينة بنسبة 6%، بينما انخفضت أسعار السلع الزراعية بنسبة 5.4%، كما يتبين تاليًا:
• المواد الطاقوية: ارتفعت أسعار النفط الخام بنسبة 3.5%بين فبراير وأغسطس 2022 إلى 120 دولارًا للبرميل في أوائل مارس بعد الغزو الروسي لأوكرانيا حيث عكست الأسعار مخاوف الأسواق من تعطل صادرات النفط في وقت يتسم بالتوازن الضيق بين العرض والطلب وكذلك استجابة صامتة من قبل منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك).
فيما تسبب إطلاق احتياطي النفط الاستراتيجي من قبل أعضاء وكالة الطاقة الدولية وتباطؤ الطلب بسبب حالات الإغلاق بالصين في انخفاض أسعار النفط إلى أقل من 100 دولار للبرميل في أبريل. ومع ذلك، أدى الحظر المعلن على واردات النفط الروسية وتوقعات فرض عقوبات أوسع إلى جانب الانقطاعات في أماكن أخرى إلى ارتفاع الأسعار إلى 120 دولارًا من جديد في أوائل يونيو.
ومنذ ذلك الحين، أثر ارتفاع أسعار الفائدة ومخاوف الركود على الأسعار، حيث عدلت وكالة الطاقة الدولية نمو الطلب العالمي على النفط في 2022 من 3.3 مليون برميل يوميًا إلى 2.0 مليون برميل يوميًا في سبتمبر، ومع قيام الشركات الأوروبية والأمريكية بتخفيض مشترياتها من النفط الروسي، تم إعادة توجيه النفط الروسي إلى الصين والهند بخصم كبير في الأسعار. ورغم ذلك، توجد مخاطر صعودية على أسعار النفط بسبب مخاوف حدوث المزيد من اضطرابات الإمدادات الإضافية نتيجة للعقوبات والحرب وكذلك ارتفاع الطلب بسبب التحول من الغاز إلى النفط.
أما عن أسعار الغاز الطبيعي، فقد شهدت ارتفاعات قياسية أيضًا بسبب تخفيض روسيا صادرات الغاز عبر خطوط الأنابيب إلى أوروبا بنحو 80% في سبتمبر 2022 مقارنة بالعام السابق، بسبب مشاكل الصيانة أو رفض بعض الدول دفع ثمن الغاز بالروبل.
• المعادن: تباطأ نمو أسعار المعادن الأساسية عقب ارتفاعها وسط تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي ليصل صافي انخفاض الأسعار إلى نحو 19.3% من فبراير إلى أغسطس، حيث انخفض سعر الألومنيوم بنسبة 25%، وكذلك النحاس والحديد بنحو 19.6% و21.9% على الترتيب. ويرجع ذلك إلى عمليات الإغلاق في الصين واضطرابات سلاسل التوريد، وتشديد السياسة النقدية مما ساهم في انخفاض الطلب على المعادن وهبوط التوقعات بشأن الطلب المستقبلي، حيث يزن المستثمرون تخفيضات العرض المحتملة من قبل المصاهر الأوروبية وسط ارتفاع تكاليف الطاقة مقابل ضعف الطلب العالمي.
• المنتجات الزراعية: ارتفعت أسعار السلع الغذائية بعد الحرب، لكنها بدأت في تصحيح اتجاهها إلى مستويات ما قبل الحرب بحلول شهري يونيو ويوليو، مما أوقف ارتفاعًا دام عامين حيث أدى تحسن ظروف العرض والإنهاء التدريجي للحصار الروسي على صادرات الحبوب الأوكرانية إلى انخفاض الأسعار، إلى جانب عوامل الاقتصاد الكلي بما في ذلك ارتفاع أسعار الفائدة ومخاوف الركود العالمي.
في الختام، يُبين تقرير صندوق النقد الدولي الضبابية التي يعاني منها الاقتصاد العالمي بضغط من المتغيرات المتلاحقة والمتتابعة بداية أزمة كورونا حتى اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية المستمرة على مدار الثمانية أشهر الماضية.
باحثة ببرنامج السياسات العامة