
الاضطرابات السياسية في السودان.. الاقتصاد تحت وطأة المزيد من الضغوطات
شهد السودان تحركات عسكرية صباح اليوم الإثنين، أدت إلى اعتقال عدد من المسؤولين الحكوميين والقادة السياسيين، بعد أسابيع من التوتر والانقسام بين القوى الحاكمة، فيما تم وضع رئيس الوزراء “عبد الله حمدوك” رهن الإقامة الجبرية في منزله، ليعلن رئيس مجلس السيادة السوداني والقائد العام للقوات المسلحة السودانية “عبد الفتاح البرهان” حل مجلس السيادة والحكومة وتعليق العمل ببعض مواد الوثيقة الدستورية.
وجاءت هذه التطورات في ظل مرور البلاد بأزمة اقتصادية خانقة، كان من المتوقع أن تخف حدتها عقب رفع الولايات المتحدة في ديسمبر 2020 اسم السودان رسميًا من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وكذلك بعد إطلاق مؤتمر “باريس” لدعم الانتقال الديمقراطي في السودان مايو الماضي.
مظاهر الأزمة الاقتصادية في السودان
عانى الاقتصاد السوداني من عدد كبير من الأزمات خلال السنوات الماضية، تتمثل في استنزاف الاحتياطي النقدي بما يعيق قدرته على الوفاء بفاتورة الواردات، وسداد التزاماته من الديون، ونقص الغذاء والوقود والدواء، بالتزامن مع تسجيل قفزات متتالية في معدل التضخم، وانهيار سعر صرف عملته المحلية مما أسفر في نهاية المطاف عن تهاوي معدلات النمو والاتجاه نحو الانكماش. وفيما يلي عرض لأهم المؤشرات الاقتصادية في السودان:
الشكل (1): معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (%)
Source: International Monetary Fund, Real GDP growth (annual %).
يتبين من الشكل السابق أن الاقتصاد السوداني سجل أدنى مستوياته خلال عام 2012 عند 17%، وذلك عقب انفصال جنوب السودان، ليتعافى بعد ذلك حتى عام 2017، ومن ثم تخلى عن تحقيق معدل نمو إيجابي منذ عام 2018 مسجلًا انكماشًا قدره 2.7%، ليزداد الأمر سوءًا بحلول عام 2020 الذي عانى من تداعيات جائحة كورونا وما ترتب عليها من إجراءات احترازية أدت إلى حدوث خلل في النشاط الاقتصادي ليصل انكماش اقتصاد السودان إلى 3.6%. أما عن الدين الخارجي، سنجد أن نسبة الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي في السودان تبلغ 262.5 %، في حين وصلت نسبة الدين الخارجي لإجمالي الناتج المحلي إلى ما يتجاوز 100%، وهو ما يُمكن إيضاحه من الرسم التالي:
الشكل (2): إجمالي الدين الخارجي ونسبته للناتج المحلي
المصدر: بنك السودان المركزي، التقرير الاقتصادي السنوي.
يتضح من الشكل السابق ارتفاع نسبة الدين الخارجي من إجمالي الناتج المحلي إلى 145.8% بحلول 2019 مقارنة مع 59% خلال 2010 بنسبة زيادة قدرها 86.8%، في حين صعدت قيمة الدين الخارجي من 37.8 مليار دولار في 2010 مسجلة 51.2 مليار دولار بحلول 2019، وهو ما يمثل زيادة بنحو 35.4% خلال الفترة محل الدراسة. وبهذا تعتبر السودان من الدول الأكثر مديونية حول العالم.
وبالإضافة إلى ذلك، يرزخ الاقتصاد السوداني تحت وطأة تآكل قيمة الاحتياطي النقدي مما يمثل خطرًا على الاقتصاد في ظل اعتماد البلاد على الواردات في تأمين احتياجاتها الأساسية وارتفاع قيمة الدين الخارجي فضلًا عن تدهور قيمة العملة الوطنية (الجنيه السوداني)، كما يتضح من الشكلين التاليين:
الشكل (3): تطور الاحتياطي النقدي –متضمنًا الذهب
Source: Knoema, Sudan – Total international reserves including gold in current prices.
يوضح الشكل تدهور الاحتياطي النقدي –متضمنًا الذهب- للسودان منذ عام 2010 وحتى 2017 –وفقًا للبيانات المتاحة- بنحو 82.8%، حيث انخفض من 1.036 مليار دولار في 2010 حتى 178 مليون دولار في 2017.
وخلال عامي 2016-2017، تراوحت قيمة الجنيه السوداني أمام الدولار بين 6-7 جنيهات للدولار لترتفع بعد ذلك إلى 18 جنيهًا سودانيًا في المتوسط حتى منتصف 2018، ومن ثم سجلت ارتفاعات متتالية حتى سجلت نحو 55 جنيهًا سودانيًا مقابل الدولار الواحد، وهو ما دفع البنك المركزي فبراير الماضي إلى خفض سعر صرف الجنيه السوداني أمام الدولار بنحو 700% من 55 جنيهًا إلى 375 جنيهًا من أجل القضاء على الفجوة الموجودة بين سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف في السوق الموازي، ويوضح الشكل التالي انهيار قيمة العملة المحلية أمام الدولار خلال الأشهر الماضية:
الشكل (4): تطور سعر صرف الجنيه السوداني أمام الدولار
Source: EX.Currexy, USD to SDG exchange rate chart.
وانعكس تدهور سعر الصرف سلبًا على معدلات التضخم التي تتسم بالارتفاع المستمر بشكل مطرد، بضغط من الزيادات المسجلة في جميع مكونات مجموعة الغذاء والمشروبات، خصوصًا أسعار الخبز والحبوب واللحوم والزيوت والبقوليات والسكر، إضافة إلى زيادات بالأسعار في مجموعتي السكن والنقل، كما يتضح من الشكل الآتي:
الشكل (5): تطور معدل التضخم الشهري
Source: Trading Economics, Sudan Inflation Rate.
يتبين من الشكل السابق ارتفاع معدل التضخم الشهري إلى أعلى مستوياته خلال عام واحد خلال يوليو الماضي مسجلًا 422.78% ليتباطأ عقب ذلك بحلول شهري أغسطس وسبتمبر عند مستويات 387.6% و365.8% على الترتيب.
وبطبيعة الحال، تراجعت مكانة الاقتصاد السوداني في النظام الاقتصادي العالمي بفعل العوامل السابقة إلى جانب التوترات السياسية التي تشهدها البلاد بصورة مستمرة، ولهذا انخفضت الاستثمارات الأجنبية المباشرة كما يتبين من الرسم التالي:
الشكل (6): الاستثمار الأجنبي المباشر الوافد للسودان
Source: UNCTAD, World Investment Report.
يتبين من الشكل السابق أن تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة الوافدة للسودان قد تراجعت بنحو 65.2% خلال عقد زمني منذ 2010 وحتى 2020 من 2.064 مليار دولار لتصل إلى 717 مليون دولار فقط.
تداعيات الاضطرابات السياسية
لا يُمكن فصل أي حدث سياسي عن تبعاته الاقتصادية التي قد تكون أكثر تأثيرًا من الحدث ذاته، ولهذا فمن المتوقع أن تساهم الاضطرابات السياسية في النتائج الآتية:
- مزيد من التدهور الاقتصادي:
من المرجح أن تؤدي التحركات العسكرية التي شهدتها البلاد اليوم إلى حالة من الشلل الاقتصادي في غالبية القطاعات، حيث تزيد الاضطرابات السياسية من المخاطر وترفع حالة عدم اليقين تجاه آفاق الاقتصاد وهو ما يسفر عن هروب الاستثمارات الأجنبية، وتعطيل سير الخطط الاقتصادية متوسطة وطويلة المدى، بما سيؤول إلى مزيد من التدهور الاقتصادي على جميع الأصعدة.
- تهديدات أمريكية:
أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية “نيد برايس” في الثالث من أكتوبر إن الولايات المتحدة تحذر الخرطوم من تداعيات التقاعس عن المسار الانتقالي في البلاد، وهو ما سيعرض علاقة السودان الثنائية مع الولايات المتحدة للخطر بما في ذلك المساعدات الإنسانية والعسكرية.
وتعتبر واشنطن أكبر دولة مانحة للسودان، حيث قدمت ما يقرب من 377 مليون دولار منذ بداية السنة المالية 2021، وكانت مديرة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في الخرطوم قد أعلنت عن تقديم أكثر من 56 مليون دولار كمساعدات إنسانية إضافية للسودان، بما سيساعد الشعب السوداني على التعامل مع الصراع وانعدام الأمن الغذائي والأزمة الاقتصادية ودورات الجفاف والفيضانات.
باحثة ببرنامج السياسات العامة