الصحافة الدولية

دوافع اقتصادية: أسباب التصعيد الإيراني ضد الوجود الأمريكي في العراق

تجتاح الساحة العراقية سلسلة من التصعيدات والتصعيدات المُضادة بين إيران والولايات المُتحدة، فيما يُشبه حربًا بالوكالة بين الجانبين على الأراضي العراقية، وصلت أوجها في بعد استهداف جماعات من الحشد الشعبي العراقي المدعوم والمُمول إيرانيًا قاعدة عسكرية أمريكية في كركوك شمال البلاد، بعشرات القذائف أسفرت عن مقتل مُتعاقد أمريكي مدني واحد، مما دفع الولايات المُتحدة في 29 ديسمبر 2019، للرد بتنفيذ غارات على خمس قواعد لحزب الله العراقي في العراق وسوريا أسفرت عن مقتل 15 مُقاتلًا بينهم قياديين في “الحزب”، الأمر الذي دفع كتائب “الحزب” أولًا إلى إعادة استهداف قواعد أمريكية في العراق بأربعة صواريخ في ذات اليوم، ثم في 31 ديسمبر حاصر مُنتسبون إلى عدة فصائل من الحشد الشعبي السفارة الأمريكية، ثم اقتحموا سورها الخارجي لأول مرة مُنذ تشييد ما يُعرف بالمنطقة الخضراء عقب الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، دفع ذلك الولايات المُتحدة إلى استهداف كُلًا من “قاسم سُليماني” قائد فيلق القدس –زراع العمليات الخارجية في الحرس الثوري الإيراني-، و”مهدي المُهندس” نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي ضمن عدد أخر من قادة الحشد، بطائرات مُسيرة أسفرت عن مقتلهم.
ورغم اتخاذ التصعيدات الشكل العسكري إلا أنها تأتي في جُزء كبير منها مدفوعة بالضغوط الاقتصادية الأمريكية على النظام الإيراني، التي اتخذت صورة العقوبات على القطاعين المالي والنفطي الإيرانيين، مما ولد ضغوطًا على النظام الإيراني في الداخل وعلى أزرعه في الخارج، ومن هنا يهدف هذا المقال إلى توضيح حجم الضغوط الاقتصادية الأمريكية على النظام الإيراني، وتفسير التصعيد الإيراني ضد الولايات المُتحدة في ظلها.
أولًا – حجم الضغوط الاقتصادية الأمريكية
كُنا قد أشرنا في مقالٍ سابق إلى أن الموازنة العامة الإيرانية تعتمد بشكلٍ رئيسيٍ على عائدات النفط، إذ تُشكل حوالي 40٪ من إيرادات ميزانية الحكومة لعام 2019. حيث تتوقع الميزانية الحالية تصدير 1.54 مليون برميل يوميًا من النفط الخام ومكثفات الغاز بسعر 54.1 دولارًا للبرميل، وذلك بإجمالي إيرادات قدرها حوالي 30.4 مليار دولار، تبلغ حصة الموازنة منها حوالي 24 مليار دولار، بينما يُدع الباقي صندوق التنمية الوطني الإيراني. وتُعادل هذه الحصة تقريبًا إجمالي مخصصات الأجور والمعاشات للعاملين بالحكومة والبالغ عددهم نحو تقريبًا 4.6 مليون موظف ومتقاعد وبعض العمال غير الحكوميين في السنة المالية الحالية.
هذا وقد أدت العقوبات الاقتصادية الأمريكية إلى خفض مُعدلات إنتاج النفط الإيراني إلى مستوى 2.1 مليون برميل يوميًا في نوفمبر 2019، بعدما كانت قد بلغت 3.8 مليون و3.5 مليون برميل يوميًا في المتوسط خلال 2017 و2018 على التوالي، أي بنسبة 44% من إجمالي الإنتاج في عام 2017 وفقًا لمُنظمة أوبك، كذلك انخفضت الصادرات الإيرانية من النفط ومُشتقاته إلى مستوى 600 ألف برميل يوميًا في المتوسط خلال 2019، ويتوقع انخفاضها إلى مستوى 500 ألف برميل في 2020 حال استمرار الأوضاع على حالها الآن، كما يوضح الشكل التالي:

يعني ذلك انخفاض الصادرات النفطية عما كانت وزارة المالية الإيرانية تتوقعه وأدرجته في الموازنة بمقدار الثلثين، في حين ارتفع ثمن البرميل خلال 2019 في المتوسط عما كان مُتوقع ليبلغ 61.8 دولار للبرميل تقريبًا، الأمر الذي يعني انخفاض الإيرادات الإيرانية من النفط خلال العام إلى ما يُعادل تقريبًا 11.2 مليار دولار، -وهو أمر كُنا قد توقعناه في ذات المقال السابق، حيث من المُستحيل على الولايات المُتحدة النجاح في تحقيق هدفها بتصفير صادرات النفط الإيراني- كذلك يقتضي تحصيل إيرادات النفط “المُهرب” اتباع أساليب مالية غير مُباشرة وشديدة التعقيد بسبب العقوبات على النظام المالي الإيراني مما يعني في النهاية انخفاض الحصيلة الفعلية عن الرقم السابق، الأمر الذي ساهم في رفع الضغوط على الموازنة العامة الإيرانية بحيث أدى إلى رفع مستويات العجز إلى 4.5% خلال 2019، حيث تحتاج الموازنة العامة الإيرانية لبيع برميل النفط الواحد بسعر 195 دولار عند هذا المستوى من الصادرات للوصول إلى حالة التوازن بين الإيرادات والمصروفات. وقد ظهرت الصورة الأشمل للعقوبات الاقتصادية الأمريكية بعد تصريحات الرئيس الإيراني حسن روحاني بأن العقوبات الأمريكية كلفت اقتصاد بلاده نحو 200 مليار دولار منذ عام 2016 ومن ضمنها حوالي 100 مليار دولار من القروض الأجنبية.
ثانيًا – توابع العقوبات
هذه الآثار الاقتصادية المُدمرة المدفوعة بالأساس بانخفاض عوائد النفط دفع مُعدلات التضخم إلى الارتفاع لتصل إلى مستويات ما بين 30-40% في المتوسط، وهو ما أجج احتجاجات داخلية بداية من ابريل 2018 لتنحصر في بُقع جغرافية مُحددة أو بين فئات مُعينة، لتنتشر في عدد كبير من المُدن الإيرانية خلال يونية من ذات العام، وما إن تنجح السُلطات في السيطرة عليها حتى تهب من جديد بشكل أكبر خلال الرُبع الأخير من العام وتستمر حتى يونية من عام 2019. وقد بلغت هذه الاحتجاجات أعلى وتيرة لها خلال النصف الأخير من نوفمبر 2019، ردًا على قيام الحكومة الإيرانية برفع أسعار البنزين وفرض نظام حصص على الشراء وذلك تحت تأثير انخفاض الإيرادات، حيث ارتفع سعر البنزين من عشرة آلاف ريـال لكل لتر إلى خمسة عشرة ألفًا، مع تحديد حصة للسيارات الخاصة بـ 60 لتر شهريًا يرتفع بعده سعر اللتر الواحد إلى ثلاثين ألف ريـال، وادعت وسائل الإعلام الحكومية الإيرانية أن هذه السياسة، ستُدر إيرادات تُقدر بنحو 800 مليون دولار في السنة، تهدف إلى تمويل إعانات لـ 60 مليون إيراني.
يدخل البنزين في كافة النشاطات الاقتصادية مما يعني مزيدًا من رفع الأسعار على جميع طبقات المُجتمع، مما دفع بأعداد كبيرة من المواطنين على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية للنزول إلى الشوارع لمقاومة الغلاء، الأمر الذي أدى إلى تفاقم الأوضاع في الشوارع، ولم تستطع القوات الحكومية المُختلفة بما فيها الحرس الثوري، السيطرة على الأوضاع إلا بعد انقضاء النصف الأول من ديسمبر بعد مقتل 1500 مُتظاهر وفقًا لوزارة الخارجية الأمريكية. استمرار هذه المُظاهرات لفترات طويلة وعلى طول الإقليم الإيراني بالإضافة إلى تعدُد الفئات المُشتركة فيها، جعل النظام الإيراني يُدرك حقيقة نوايا الولايات المُتحدة الأمريكية المُتمثلة في دفع الإيرانيين لخلع النظام الإيراني دونما تدخل مُباشر من جانبها على عكس ما حدث في العراق قبل سنوات.
من جانب آخر تأثرت أذرع إيران الخارجية في الدول العربية الأربعة (العراق، سوريا، لبنان، اليمن) التي كانت ادعت قبل شهور السيطرة عليها واحتكارها عملية صناعة القرار في عواصمها، ولعل أكبر المُتأثرين كان حزب الله اللبناني والذي أظهرت دراسات أجنبية عديدة حصوله على تمويل سنوي إيراني بما يُقدر بنحو 700 مليون دولار تُمثل 70% من ميزانية الحزب وأن جزء مُعتبرًا من هذه الأموال يوجه إلى رواتب مُقاتلي الحزب في الجهات الخارجية وأسر القتلى والجرحى منهم، لكن هذا التمويل انخفض بعد إعادة فرض العقوبات الأمريكية على إيران في 2018 ليبلغ حوالي 300 مليون دولار تقريبًا، وهو ما دفع “الحزب” إلى تدشين أكبر حملات التبرع في تاريخه خلال عام 2019، وكان من ابرز مظاهره رفعه عدد صناديق التبرعات في شوارع بيروت ومُدن لبنانية أخرى.
أدى هذا الانخفاض الكبير في المُخصصات المالية مصحوبًا بالتوترات السياسية الناتجة عن احتكار أذرع إيران في العراق ولبنان إلى فقدان هذه الجماعات والمليشيات الممولة إيرانيًا السيطرة على بعض أهم مناطق نفوذها، فاندفع أولًا آلاف اللبنانيين ومن بينهم مواطنين شيعيون يُعتبرون في العادة أتباع وثيقين “لحزب الله” و”حركة أمل” إلى الميادين اللبنانية للمُطالبة بالتخلص من النخبة السياسية الحالية بأكملها، والتي يتحكم فيها “حزب الله” وحُلفائه بالداخل اللبناني لأسباب عديدة من بينها الفساد المالي الذي مكن له الحزب وحماه لمحاولة توفير تمويل بديل للأموال الإيرانية. ثم تفاجئ الإيرانيين بخروج مُماثل للعراقيين خاصة في الإقليم الجنوبي والذي يُعتبر منطقة نفوذ خالصة للأحزاب والمليشيات الشيعية الموالية لإيران، حيث توجد الكُتلة الأكبر من السُكان الشيعيين في البلاد للمُطالبة بمطالب مُشابهة تتلخص في إعادة صياغة دستور البلاد وقانون الانتخابات بحيث يكون البرلمان العراقي أكثر تمثيلًا، بالإضافة إلى إجراء انتخابات مُبكرة، وهو ما يُهدد تواجد مُمثلي الأحزاب الموالية لإيران في البرلمان. هذا وقد أسفرت الاحتجاجات في الدولتين عن إقالة الحكومة الموالية لإيران في كُلًا منهم والبدء في إجراءات –وإن كانت تكتيكية- للاستجابة لمطالب المُتظاهرين.
ثالثًا – الهروب للأمام
أصبحت إيران بعد مرور أقل من عامين على إعادة فرض العقوبات محصورة بين مطرقة الدخول في مفاوضات جديدة مع الولايات المُتحدة الأمريكية لن تُسفر عن رفع العقوبات إلى بعد مزيدًا من تشديد بنود الاتفاق النووي السابق الذي انسحبت منه واشنطن بالإضافة إلى تخليها عن برنامجها الصاروخي ونفوذها في المنطقة، والذي عملت مُنذ وصول النظام الحالي على تأسيسهما وهو ما سيُسفر عن فُقدان النظام لشرعيته الداخلية والخارجية القائمتين لدى شعبه وأذرعه الخارجية في الأساس على فكرة المُقاومة، أو تحمل الضغوط الشعبية الناتجة عن تدهور الأحوال الاقتصادية في الداخل والخارج، وهما خياران كلاهما مُر، وهو ما دفع إيران إلى الهروب بالقفز للأمام عن طريق ارتكاب أفعال تُهدد أولًا طُرق مواصلات الطاقة وثانيًا مُنشآت انتاجها عن طريق تفجيرها حاملاتي نفط في الخليج العربي، واحتجاز حاملة بريطانية أخرى، بالإضافة إلى استهدافها مُنشآت “أرامكو” السعودية بطائرات مُسيرة مما أسفر عن فُقدان العالم 5% من الإنتاج العالمي لما يزيد عن أسبوعين. لكن هذه الاعتداءات فشلت في جر أيًا من دول المنطقة إلى حرب مفتوحة مع إيران تُخفف بها العقوبات المفروضة عليها، ويُطلب منها بعدها الجلوس على طاولة مُفاوضات تكون عليها في مواقف تفاوضي يُمكنها في فرض إرادتها أو على الأقل عدم التفريط في ورقتي البرنامج الصاروخي أو النفوذ الإيراني في العواصم العربية الأربعة.
قدرت إيران إذًا أنه ما من سبيل لتحريك المياه الراكدة في المنطقة إلا باستهداف غير مُباشر للمصالح الأمريكية في المنطقة وخاصة العراق، لغرضين أولهما تحويل أنظار المُتظاهرين عن مطالبهم بالتغيرات التشريعية عن طريق إظهار الولايات المُتحدة كمحتل يضرب السيادة العراقية، وثانيًا استعراض قوتها أمام الولايات المُتحدة مفادها أنها قادرة على الوصول للمصالح الأمريكية سواء قواعدها العسكرية أو حتى سفارتها في المنطقة الخضراء شديدة التحصين، مع توقعها بأن الولايات المُتحدة ستكتفي بتوقيع ضربات انتقامية على بعض قواعد وكلائها في المنطقة دونما ضرر يطالها مُباشرة، وقد كان هذا التوقع صحيحًا في البداية إذ اكتفت الولايات المُتحدة بتوجيه ضربات جوية على قواعد حزب الله العراقي ردًا على مقتل المواطن الأمريكي، لكن انتهاك السيادة الامريكية في صورة اقتحام السور الخارجي للسفارة استتبع ردًا غير متوقع من الجانب الإيراني أو المليشيات العراقية أتى في صورة استهداف “سُليماني” و”المهندس”، مع إعلان الولايات المُتحدة التزامها التهدئة وعدم رغبة في شن حرب شاملة على إيران لتفويت الفرصة على النظام الإيراني في حشد المواطنين الإيرانيين، مما يُضيع أثر العقوبات المُستمرة منذ نهاية النصف الأول من العام الماضي.
خلاصة ما سبق إذن أن الإجراءات التصعيدية الإيرانية في العراق جاءت في الأساس مدفوعة بعوامل اقتصادية واستهدفت حلحلة الوضع الاقتصادي المُتردي بفعل العقوبات الأمريكية، عن طريق توصيل رسالة للولايات المُتحدة بالقدرة على استهداف المصالح الأمريكية دونما انخراط فعلي من جانب قواتها، وهو ما أدركته الولايات المُتحدة فأعادت توصيل رسالة بالقدرات الأمريكية الكبيرة على استهداف أهم الشخصيات الإيرانية في الخارج على الإطلاق إذا ما تهددت مصالحها، مع تفويت الفرصة على النظام الإيراني لتقليل أثر العقوبات سواء عن طريق تكوين إجماع شعبي داخلي على التهديد الأمريكي، أو الجلوس على طاولة مفاوضات بعد عمليات إيرانية تُعزز من قدراتها التفاوضية.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى