العراقسياسة

دبلوماسية البنية التحتية وموقع مصر في قمة الجوار العراقي

دعا العراق إلى قمة لدول جواره والقوى الإقليمي والدولية الفاعلة في المنطقة؛ بغرض تهدئة الأجواء الإقليمية، بما يساعد على تعزيز التعاون الإقليمي، خصوصًا في مرحلة ما بعد كورونا. والدورة الفائقة التي يشهدها الاقتصاد العالمي، لعلها تسفر عن مكاسب مشتركة للجميع بعدما خسر الجميع جراء التناحر خلال العشرية السابقة. وقد كان أحد أهم المشاهد هو الدعوة التي وجهت إلى مصر، لتكون على رأس المائدة، وأحد أهم الحضور من خارج النطاق الإقليمي للعراق، ويركز هذا المقال على التأثيرات السياسية للسياسة الاقتصادية المصرية والتي وضعتها في هذا الموضع.

إذ جاءت حيازة هذا الوضع من برنامج الإصلاح الاقتصادي الداخلي بعد انخراط الدولة المصرية أولًا في إعادة تقييم لقدراتها الاقتصادية، بحيث قدمت محركات اقتصادية جديدة كليًا بعد دمج موقعها الاستراتيجي، مع إمكانياتها المعاد تعريفها في مجال الطاقة، أو معاد تفعيلها في قطاع الخدمات، وفي ذات الوقت تطوير إمكانياتها القائمة على محركات النشاط الاقتصادي التقليدية في قطاعي التشييد، والسياحة.

أعقب ذلك تضمين معظم هذه الإمكانيات وخاصة الجديدة منها في مشروعات قومية، يسهل الترويج وحشد الدعم لها داخليًا، ثم فتح المجال أمامها إقليميًا عبر استغلال قدرات الدولة الشاملة في تكوين محاور مع دول الإقليم بما يضمن حمايتها وحسن استغلالها ومن ثم تصديرها، وقد جاء على رأس هذه المنتجات المصدرة للخارج، خدمات البناء والتشييد والتي ازدهرت أسواق خلال سنوات الصراع خلال الفترة الماضية.

إذ ضربت المنطقة منذ مطلع القرن الحالي -ومازالت- موجة من الصراعات ابتدأت في العراق بعد الغزو الأمريكي لأراضيه في عام 2003، ومازالت مستمرة حتى الوقت الحالي بوجود بعض جيوب داعش على الحدود العراقية السورية، وذلك بعدما تقهقرت نتيجة لعمليات تحرير مدن الوسط والشمال الغربي العراقية من سيطرتها وخاصة مدينة الموصل، وقد نتج عن هذه العمليات إزالة شبه تامة للمرافق العامة، بل وحتى المنازل في هذه المدن، وهو ما يقتضي بذل جهود ضخمة وبتكلفة باهظة لإعادة الإعمار، قد تتجاوز 88 مليار دولار، وفقًا لتقديرات الحكومة العراقية. ولا يختلف الوضع كثيرًا في ليبيا التي تعرضت لذات موجات الصراع، خصوصًا في الجزء الغربي منها، حيث تعاني معظم مدنه من آثار الدمار وبخاصة طرابلس العاصمة، والزنتان ومصراته، بالإضافة إلى تردي أوضاع البنية التحتية المتعلقة بتوليد الكهرباء ونقلها، أو الطرق ومرافق النفط.

دشنت مصر في ظل هذه الأوضاع ما يعرف “بدبلوماسية البنية التحتية”؛ بغرض الانخراط في عمليات إعادة إعمار الدول العربية التي طالها الدمار، بما يحقق المصالح الثنائية لمصر والدولتين الشقيقتين، وذلك بطريق تسهيل وجود شركات النفط والتشييد والمقاولات والكهرباء والاتصالات المصرية، التي اكتسبت خبرات عريضة نتيجة برنامج الإصلاح الاقتصادي ومشاركتها في إعادة تأهيل مرافق البنية التحتية المصرية بالكامل على صعيد الطرق والكهرباء وحتى المشاركة في تأسيس مدن جديدة بكاملها، مقابل تسهيلات في طرق الدفع ومدد السداد، وهو ما يعد مكسبًا مهمًا للدولتين وبخاصة العراق الذي يعاني تراكم الديون وتأخر السداد. ولذلك فقد جاءت التحركات الخارجية المصرية لتصيغ تفاهمات مع الدولتين بهذا المقتضى، نتعرض لكلٍ منهما بشيء من التفصيل فيما يلي:

النفط مقابل إعادة الإعمار في العراق:

وقع الجانبان المصري والعراقي على مستوى رؤساء الوزراء اتفاقية “النفط مقابل إعادة الإعمار” في ديسمبر 2020، والتي بمقتضاها سيقدم عدد من الشركات الحكومية المصرية خدمات إعادة التأهيل للبنية التحتية النفطية في العراق، بالإضافة إلى استشارات فنية تتعلق بتنظيم استخدام النفط، وكذلك إسناد أعمال إعادة الإعمار في المدن العراقية المتضررة لشركات إنشاءات خاصة مصرية، على أن يقوم العراق بالدفع عن طريق النفط للحكومة المصرية التي تتولى بدورها سداد مستحقات الشركات المصرية، ويتضمن الاتفاق بشكل أكثر تفصيلًا انخراط الشركات المصرية في المجالات التالية:

  • إعادة تأهيل البنية التحتية النفطية:

يقضي الاتفاق بالاستعانة بخدمات 15 من الشركات المصرية البترولية على الأقل، أبرزها بتروجيت، إنبي، بترومنت، وبلاعيم، في تأهيل البنية المتهالكة للحقول العراقية والتي يتمثل أهمها في إعادة أرصفة وخطوط وقواعد خرسانية للحقول والآبار والصيانات وإعادة الإحلال والتجديد وتركيب محطات لاستقبال البترول من عمليات الإنتاج، بالإضافة إلى تقديم معهد بحوث البترول الاستشارات الفنية التي تطلبها الحكومة العراقية. يضاف إلى ذلك تقديم الدعم لمساعي العراق إنشاء مجمعات للبتروكيماويات ومعامل التكرير، ونقل الخبرة في إنشاء محطات كهربائية جديدة تعمل بتكنولوجيا الدورة المركبة، بهدف خفض ما يواجهه العراق من ضغوطٍ في مسائل استيراد الغاز والكهرباء من إيران.

  • إعادة إعمار المدن العراقية

جرى الاتفاق على الاستعانة بنحو 20 من شركات المقاولات والإنشاءات المصرية للمشاركة في بناء مجمعات سكنية في 15 محافظة عراقية، على رأسها نينوى، وصلاح الدين، والأنبار، وسامراء، بحيث تعمل على تشييد نحو 120 مجمعًا سكنيًا بتكلفة تقترب من 3.5 مليار دولار، يضاف إلى ذلك اشتراكها في بناء نحو 35 مستشفى، وعدد من المصانع، بالإضافة إلى صيانة وإنشاء خطوط سكك حديدية، وبناء محطات الطاقة الشمسية، وتطوير محطات توليد الكهرباء لتعمل بالغاز الطبيعي بدلًا من النفط.

  • تبادل النفط والغاز والكهرباء:

يعاني العراق -كما سبق- من نقص الغاز الطبيعي والكهرباء، اللذين تتمتع مصر بوفرة فيهما، فيما يتوافر لديه خامس أكبر احتياطيات العالم من النفط الخام بما يعادل 140 مليار برميل تقريبًا، على الجانب الآخر تتوافر لدى مصر فوائض من الغاز والكهرباء، فيما تعاني نقصًا من النفط الخام، الذي تستخدمه في معامل التكرير لديها بغرض إنتاج المشتقات النفطية التي تستوردها مصر بما يجاوز 1.4 مليار دولار في 2019.

ولذلك كان من المنطقي العمل على إمداد العراق بالكهرباء المصرية عبر الأردن وسوريا، في مقابل إمداد مصر بالنفط عبر الأردن من خلال خط نفط البصرة – العقبة الذي من المتوقع أن يصل الأراضي المصرية في مرحلة لاحقة، حيث تنوي الحكومة العراقية الاستفادة من قدرات التكرير المصرية المتنامية بعد تحقيق مصر الاكتفاء الذاتي، بحيث تكرر نفطها وتحصل على المنتجات النفطية، في مقابل تكاليف عملية التكرير.

إعادة الإعمار بالقدر الأكبر من التسهيلات في ليبيا:

وقع الجانبان المصري والليبي على مستوى رؤساء الوزارات 11 اتفاقية إطارية، للتعاون في مجالات إعادة الإعمار وتأهيل البنية التحتية والصحة وذلك خلال إبريل 2021، بمقتضاها تستفيد الحكومة الليبية التي تواجه معضلة في الاستفادة من عوائد النفط في الوقت الحالي بسبب الخلاف السائد بين المؤسسات السيادية وخصوصًا فيما يتعلق بمؤسسة النفط الوطنية، والبنك المركزي الليبي، مما يجبرها على تأجيل البدء الفعال في عمليات إعادة الإعمار، وهنا تستمر مصر في تقديم العون عبر شركاتها الحكومية والخاصة، بما يعجل بهذا البدء، وذلك في مجالات من بين أهمها استعادة كفاءة مرفق الكهرباء. 

فمع الدمار الذي طال البنية التحتية للبلاد وخاصة شبكة الكهرباء، برزت الحاجة إلى إقامة محطات طاقة كهربائية جديدة، وترميم شبكة الكهرباء المتضررة بشدة جراء المعارك والاقتتال الدائر منذ نحو عشر سنوات؛ ففي آخر نشرة للأحمال أعلنتها الشركة العامة الليبية للكهرباء في 27/02/2020 تبين أن قدرات التوليد المتاحة للشبكة العامة للبلاد تقف عند 5.2 جيجا وات، وأن الحِمل المتوقع في ذات اليوم بلغ 5.7 جيجا وات، رغم أنه من أيام الشتاء التي ينخفض فيها استهلاك الطاقة في منطقة شمال إفريقيا، وأن العجز جميعه يقع في المنطقة الغربية بإجمالي 500 ميجا وات، بدون أي عجز في المنطقة الشرقية، مما دفع الشركة لتخفيف الأحمال لمدد 3: 4 ساعات في المنطقة الغربية.

ورغم ما تتمتع به الشركات المصرية من قدرة وكفاءة مشهودتين في تشييد وإدارة محطات توليد الكهرباء خاصة التقليدية منها، فإنه لم يسند لها مّنذ عام 2000 وحتى وقت توقيع العقود السابق الإشارة إليها بناء أية محطات في ليبيا، بل ولم يسند لها تنفيذ أية مشروعات حتى تلك البسيطة منها، سوى مشروع وحيد يتمثل في توريد وتركيب الخط الهوائي (سرت- راس لانوف- أجدابيا- جنوب بنغازي) في عام 2003، لذلك فإن توقيع العقود السابقة يعد اختراقًا لسوق جديدة كليًا على الشركات المصرية، رغم العلاقات التي تربط البلدين، ويوضح الجدول التالي محطات توليد الكهرباء التي جرى تنفيذها منذ عام 2000، وتبين خلوها من أية إسنادات مصرية:

ولذلك فقد جرى توقيع 3 اتفاقيات في مجال تطوير الكهرباء، ومذكرة تفاهم في مجالات التدريب التقني وبناء القدرات، بحيث تستفيد ليبيا من الخبرات المصرية في هذا المجال، برغم ما تواجهه الحكومة الليبية من تعثرات الدفع في الوقت الحالي.

خلاصة ما سبق إذن أن التحركات المصرية الخارجية خلال السنوات السبع فيما بعد ثورة يونيو 2013، عملت على تقديم ما يمكن وصفه “بمانبفستو” لكيفية استغلال قدرات الدولة الشاملة في الترويج لمشروعاتها القومية وشركاتها الوطنية، فكانت النتيجة ترسيخ موقع مصر كمركز إقليمي لتداول الطاقة بأشكالها المختلفة، عبر تأليف مجموعة من المحاور يخدم كل منها هذا المشروع في جزءٍ منه، بحيث تؤدي محصلتها إلى فرض الإرادة المصرية على المنافسين الإقليميين الطامحين إلى لعب ذات الدور. 

كذلك قدمت هذه التحركات مفهومًا جديدًا لفتح المجال الإقليمي أمام الشركات الوطنية، خاصة في ظل ما عاناه الدور المصري السياسي والاقتصادي من انحسار فيما بعد ثورة يناير 2011، وذلك في ضوء فتحها سوقي العراق وليبيا أمام شركات النفط والطاقة والإنشاءات المصرية، خاصة وأن الأولى تتنازع السيطرة عليها كل من الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، بينما السوق الليبية ظلت طوال العقدين الماضيين على الأقل مغلقة في وجه شركات الكهرباء المصرية.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى