سوريا

تنافس متنامٍ: سوريا والتحركات الميدانية الجديدة للقوى الدولية الفاعلة في المشهد

شهدت الساحة السورية في الأسابيع الماضية جملة من التطورات الميدانية المهمة، التي قام بها فاعلون رئيسون في المشهد وعلى وجه الخصوص تركيا والولايات المتحدة وروسيا بالإضافة إلى الأردن. وهي التحركات التي ارتبطت بشكل رئيس بتصعيد نسبي من بعض هذه القوى على الأرض، فضلًا عن تحركات أخرى خاصة بترتيبات أمنية في المناطق الحدودية، وأخرى مرتبطة بملف اللاجئين، وهي التطورات التي قد يكون لها انعكاسات مباشرة في الفترة المقبلة، فضلًا عن كونها تشير إلى ترتيبات معينة تجري بخصوص الملف السوري.

تصعيد ميداني روسي

تبنت روسيا في الفترات الأخيرة وبالتحديد منذ بداية الشهر الحالي تصعيدًا ميدانيًا في الأراضي السورية؛ إذ نفذت عددًا من العمليات التي قالت إنها تستهدف تنظيمات إرهابية، ففي الخامس من أغسطس الجاري، نفذت روسيا غارة جوية على ريف مدينة إدلب مما أدى إلى مقتل ثلاثة مدنيين من عائلة واحدة على الأقل وفقًا للمرصد السوري لحقوق الإنسان، وفي 22 أغسطس أعلن مركز المصالحة الروسي في سوريا مقتل 17 عنصرًا من تنظيم “هيئة تحرير الشام”، في غارةٍ جوية نفذتها القوات الجوية الروسية على مقر للتنظيم في إحدى قرى محافظة إدلب، وفي اليوم التالي (23 أغسطس) قُتل شخصان في الأقل خلال غارات روسية استهدفت محطة ضخ مياه قديمة قرب بلدة عين شيب، غرب مدينة إدلب، وقال المرصد السوري لحقوق الإنسان إن الغارات قرب بلدة عين شيب استهدفت “مقارًا عسكرية لهيئة تحرير الشام”.

يأتي هذا التصعيد الروسي منذ يونيو الماضي بعد أشهر طويلة من “الهدوء النسبي غير المستقر” منذ مارس 2020، وهو ما يطرح تساؤلات حول الدوافع الرئيسية التي تقف خلفه، وهو ما يمكن إجماله في الاعتبارات التالية:

● يأتي التصعيد الروسي في شمال غرب سوريا بالتزامن مع تحركات متسارعة لهيئة تحرير الشام في مناطق الشمال السوري، تستهدف تعزيز نفوذ الهيئة. وفي هذا السياق، بدأ أبو محمد الجولاني قائد الهيئة في استغلال بعض القوى العشائرية والأمنية التابعة له من أجل تهيئة الأجواء والأرضية للتمدد نحو ريف حلب الشمالي، والسيطرة الفعلية على كلٍ من منطقة عفرين وإعزاز، وبالتالي تحقيق امتداد جغرافي واسع من البوابة الحدودية مع تركيا في جرابلس شمال شرقي حلب، وصولًا إلى باب جسر الشغور شمال غرب إدلب، وهو ما سيكون له انعكاسات أمنية واقتصادية وسياسية كبيرة بالنسبة لنفوذ الهيئة، وهو ما ترفضه روسيا.

● يحاول الطرفان التركي والروسي منذ سنوات رسم خرائط الوضع الميداني في سوريا بما يتفق ومصالحهما، وهو ما تجسد في توقيع الطرفين في مارس 2020 لمذكرة تفاهم بخصوص سوريا، تقضي بفتح بعض المعابر الحدودية وتسليم المعابر لإدارة مدنية تابعة للنظام، وتفكيك الفصائل المصنفة إرهابية لدى الطرفين. لكن ومع الرفض التركي لتفكيك هيئة تحرير الشام، واشتراطها تفكيك قسد أولًا، فضلًا عن تحفظ روسيا النسبي على جهود تركيا لإقامة منطقة آمنة شمال سوريا؛ يبدو أن روسيا تسعى إلى فرض شروطها في الشمال السوري تدريجيًا عبر التصعيد العملياتي العسكري.

● توجد خلافات واسعة داخل أروقة مجلس الأمن الدولي بخصوص آلية إدخال المساعدات إلى سوريا؛ ففي الوقت الذي تطالب فيه بعض الدول بتمديد الآلية الأممية لإدخال المساعدات إلى سوريا عبر تركيا لمدة عام، طالبت روسيا في يوليو الماضي بتمديد هذه الآلية لمدة 6 أشهر فقط، واستخدمت “الفيتو” لرفض القرار لكنها فشلت في تمرير رؤيتها بهذا الخصوص. وهو ما يمكن ربطه بالتصعيد الروسي الحالي؛ بمعنى أن هذا التصعيد يأتي في إطار سعي روسي للضغط على المجتمع الدولي وتركيا من أجل الوصول إلى تفاهمات تضمن تحقيق رؤيتها والنظام السوري بخصوص ملف إدخال المساعدات إلى سوريا.

تراشق بين الولايات المتحدة وروسيا

تصاعد الحديث منذ شهر يوليو الماضي حول تراشقات واحتكاكات أمريكية روسية متزايدة في الأجواء السورية، وفي هذا السياق أفادت تقرير أمريكية في يوليو الماضي بأن مقاتلة روسية اعترضت طائرة أمريكية بدون طيار فوق سوريا، وقد شهد شهر يوليو وحده نحو 5 حوادث مشابهة وفقًا للرواية الأمريكية، وحذرت القيادة المركزية الأمريكية في المنطقة في أكثر من مناسبة من هذه الحوادث، مشيرةً إلى أن “القوات الأمريكية في الشرق الأوسط لديها الصلاحيات والقدرات للدفاع عن نفسها إذا لزم الأمر”. وفي سياق متصل، نقلت وكالة “أسوشيتد برس” في 15 يوليو الماضي، عن مسؤول عسكري أمريكي مهم قوله إن “الولايات المتحدة تدرس عددًا من الخيارات العسكرية للتعامل مع الأعمال العدائية الروسية المتزايدة في سماء سوريا”، مشيرًا إلى أن “هذه الأعمال تعيق جهود مكافحة الإرهاب الأمريكية في سوريا”.

وفي المقابل كرر المركز الروسي للمصالحة في سوريا اتهاماته للقوات الأمريكية بشأن انتهاك بروتوكول منع التصادم، حيث أكد أن طائرات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة انتهكت عشرات المرات الاتفاق بين الجانبين، ويمكن قراءة هذا التصعيد في سوريا بين الجانبين في ضوء بعض الاعتبارات الرئيسية، وذلك على النحو التالي:

● تربط بعض التقديرات الاستخبارية الأمريكية بين هذه التحركات الروسية على الأراضي الروسية ورؤية روسيا العامة للمنظومة الدولية الراهنة وسعيها الحثيث إلى إنهاء فكرة “القطب الأوحد” وإضعاف الولايات المتحدة، وترى أن هذه التحرشات الروسية “تمثل محاولة لإجبار الولايات المتحدة على التراجع العسكري في سوريا، كجزء من خطتها لتقليل حضورها العسكري في منطقة الشرق الأوسط”، وهو الأمر الذي سيخلف فراغًا استراتيجيًا كبيرًا تستفيد منه روسيا.

● مع إنهاك روسيا في الحرب الأوكرانية وسحبها قوات ووحدات عسكرية كانت موجودة في بعض دول الأزمات وعلى رأسها سوريا، تصاعد الحديث عن تراجع النفوذ الروسي في سوريا، بما يعكس أن هذه التحركات المتنامية من قبل روسيا تأتي في إطار ما يمكن وصفه بالسعي للتأكيد على أن “روسيا لا تزال موجودة وأحد الفاعلين الرئيسين في المشهد السوري”.

● لا يمكن فصل هذه التحركات العسكرية الروسية تجاه الولايات المتحدة في سوريا عن مسار الحرب الأوكرانية، خصوصًا بعد التحولات الاستراتيجية التي يشهدها ميدان الحرب في ظل الدعم الغربي لكييف. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن تصاعد الاستهداف الروسي للتحركات الأمريكية في سوريا وبالتحديد منذ يوليو الماضي، جاء في أعقاب الهجوم الأوكراني بطائرة مسيرة على موسكو، وهو الهجوم الذي قالت روسيا إنه “تم بمساعدة من الولايات المتحدة وحلف الناتو”، بمعنى أن موسكو تحاول الرد على الدعم الأمريكي لأوكرانيا عبر الساحة السورية، خصوصًا وأن هذه الساحة مثلت منذ سنوات منطقة للحرب بالوكالة والحرب المباشرة بين الجانبين.

● جاء التصعيد الروسي ضد الوجود العسكري الأمريكي في سوريا بالتزامن مع تحركات متنامية تبنتها الولايات المتحدة في الفترات الأخيرة كشفت عن رغبة أمريكية في ترسيخ الوجود العسكري لفترات طويلة؛ فعلى سبيل المثال زودت الولايات المتحدة قواعدها في دير الزور والحسكة بقاذفات صواريخ “هيمارس” الدفاعية، وأنشأت القوات الأمريكية أيضًا قاعدة عسكرية جديدة في منطقة السويدية في ريف الرقة الغربي بالقرب من مدينة الطبقة، وجهزت قاعدة أخرى عند مدخل الرقة الجنوبي. وشهدت قواعد التحالف الدولي في التنف وشرق الفرات مناورات وتدريبات مشتركة، واعتبرت بعض التقديرات أن هذه التحركات تتجاوز حدود الهدف المعلن المتمثل في مواجهة تنظيم داعش، بما يعني أن التحركات العسكرية الروسية تأتي كرد على هذه التحركات الأمريكية.

تحركات تركية على أكثر من مستوى

بالتزامن مع تلك التحركات الأمريكية الروسية على أكثر من مستوى على الأراضي السورية، تبنت تركيا بدورها إجراءات عديدة استهدفت تحقيق رؤيتها بخصوص التعامل مع التطورات الراهنة، فضلًا عن ترسيخ وجودها ونفوذها في الأراضي السورية، وقد شملت هذه التحركات أكثر من مستوى وذلك على النحو التالي:

● تبنت تركيا تصعيدًا عسكريًا متزايدًا في الفترات الأخيرة في سوريا خصوصًا في المناطق القريبة من الحدود المشتركة، وقد استهدفت الهجمات التركية وفق الرواية الرسمية قوات سوريا الديمقراطية والمقاتلين الأكراد، وكان من أبرز مؤشرات هذا التصعيد التركي الهجوم الذي حدث في 29 يوليو الماضي في المناطق الحدودية عبر مسيرة تركية، مما أدى إلى مقتل 4 عناصر من قوات سوريا الديمقراطية. وفي الرابع من أغسطس الجاري، أعلنت وزارة الدفاع التركية عن عملية استهدفت قوات “قسد” ردًا على محاولة استهداف تلك القوات لمنطقة «نبع السلام» الخاضعة لسيطرة القوات التركية وفصائل ما يعرف بـ«الجيش الوطني السوري» في شمال شرقي سوريا. ويمكن فهم هذا التصعيد التركي في إطار الحرب التركية الشاملة على حزب العمال الكردستاني سواءً في سوريا أو العراق.

● في 22 أغسطس الجاري، أشارت تقارير إلى أن تركيا تسعى إلى توحيد إدارة المناطق الخاضعة لسيطرة قواتها وفصائل ما يعرف بـ”الجيش الوطني السوري” الموالي لها، شمال وشمال شرقي سوريا، عبر تعيين حاكم واحد يتولى سلطات إدارة تلك المناطق بدلًا من 7 ولاة عُينوا للتنسيق هناك؛ وذلك بهدف منع الارتباك في إدارة تلك المناطق. وكشفت تقارير مطلعة على الخطة عن أنه يجري العمل حاليًا على وضع نظام جديد للتنسيق بين أنقرة والمجالس المحلية في 13 منطقة مختلفة، في مقدمتها: أعزاز، وجرابلس، والباب، وعفرين، وتل أبيض، ورأس العين. وحسب صحيفة «تركيا» القريبة من الحكومة، سيتم تعيين حاكم واحد (والي) للمناطق الآمنة التي تسيطر عليها القوات التركية والفصائل شمال سوريا؛ بهدف إزالة ارتباك السلطة هناك وإدارة العلاقات بدرجة عالية من التنسيق مع أنقرة. وبشكل عام، تستهدف هذه الخطة التركية توحيد وتركيز إدارة تركيا للمناطق الشمالية، على المستوى السياسي والإداري فضلًا عن المستوى الأمني الذي تعتمد فيه تركيا على قواتها والفصائل المتحالفة معها.

● أشارت تقارير تركية إلى أن الحكومة تخطط لتنفيذ خطة تُعرف إعلاميًا باسم “مثلث حلب”، وهي الخطة التي تستهدف تشجيع عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، مع التفاوض على مصير مدينة حلب. وقد تزامن الحديث عن هذه الخطة مع تكثيف عمليات ترحيل السوريين من تركيا إلى شمال سوريا، إضافة إلى تصريحات “أردوغان” بأن تركيا كثفت إجراءاتها ضد مهربي البشر، ومنعت دخول مئات الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين.

وبشكل عام، يبدو أن تركيا تستهدف في اللحظة الراهنة التعامل مع الملف السوري وفق مقاربة تقوم على تعزيز نفوذها في مناطق الشمال، بالإضافة إلى تكوين مناطق آمنة تكون حاضنة للمهاجرين الذين سيتم ترحيلهم، وخالية من نفوذ القوات الكردية، فضلًا عن “مشروطية” قبول المهاجرين؛ بمعنى أن قبول المهاجرين سوف يكون على أساس اعتبارات اقتصادية، أي أن الأولوية ستكون للمهاجرين الذين سيكون لديهم خطط استثمارية واقتصادية في تركيا، خصوصًا في ظل تنامي موجات ترحيل رؤوس الأموال السورية من تركيا بسبب الممارسات العنصرية التي تنامت في الآونة الأخيرة. وبالتزامن مع ذلك، تتبنى تركيا تحركات على المستوى الاستراتيجي تستهدف تعزيز نفوذها في سوريا، من خلال بناء تفاهمات تضمن ذلك مع النظام السوري وروسيا على وجه الخصوص.

ترتيبات أمنية في المناطق الحدودية

أشارت صحيفة “إندبندنت عربية” في تقرير لها منذ أيام إلى أن الأردن قد يطلب من الجانبين الأمريكي والروسي في المستقبل تأمين مناطق عازلة ضمن المناطق الحدودية مع سوريا في حال استمر تهريب المخدرات، وأشارت الصحيفة إلى أن تقارير صحفية أمريكية تحدثت عن احتمال مشاركة الولايات المتحدة مع الأردن في حربه ضد المخدرات، لكن تحت مظلة التعاون الدولي لمكافحة الجريمة المنظمة والمخدرات، خصوصًا مع رصد الجيش الأردني أكثر من 160 شبكة في سوريا تعمل على تهريب المخدرات إلى دول الجوار.

ويبدو أن هذا التعاون الأمريكي خصوصًا مع الأردن في هذا الملف قد يتم عبر قاعدة “التنف”، لكن السؤال الأهم يرتبط بحدود الدور الأمريكي في هذا الصدد، وهل سيقتصر على حدود مواجهة الجريمة المنظمة، أم سيتعداه إلى أدوار استخباراتية قد تتحفظ عليها بعض الأطراف وعلى رأسها روسيا، ما قد ينذر بمواجهات وصدام في هذا الملف، قد تأتي على حساب موجات الجريمة المنظمة.

وفي إطار الترتيبات الراهنة بخصوص المناطق الحدودية السورية، تصاعد الجدل بخصوص الترتيبات الأمنية التي تجري في المناطق الحدودية السورية مع العراق، وذلك مع حديث العديد من الدوائر خصوصًا الروسية عن عملية أمنية أمريكية مرتقبة في هذه المناطق الحدودية، تستهدف بشكل رئيس المنظمات والميليشيات الموالية لإيران في المنطقة، خصوصًا مع إشارة تقارير إلى أن الولايات المتحدة عززت من وجودها العسكري في هذه المنطقة، وتخطط للدفع بحوالي 3 آلاف عسكري إليها. وحال تحقق هذه الفرضية فإن الولايات المتحدة تستهدف منها فرض منطقة أمنية عازلة تمتد من جنوب سوريا في درعا إلى بادية الشام ودير الزور والرقة شرقي سوريا وصولًا إلى الحسكة والقامشلي في الشمال الشرقي لسوريا.

وفي الختام، يمكن القول إن الساحة السورية تشهد في اللحظة الراهنة العديد من التحركات من القوى الرئيسة الفاعلة في المشهد، سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا، وهي التحركات التي ترتبط بشكل رئيس بسعي هذه الأطراف إلى تعزيز نفوذها في المشهد السوري، مع فرض إطار تفاوضي معين يكون فيه الرهان على الوجود على الأرض، في إطار المتغيرات القائمة. لكن ماهية وتداعيات هذه التحركات سوف تتوقف على بعض المحددات الرئيسية وعلى رأسها مدى قدرة هذه الأطراف على بناء تفاهمات معينة تعزز من حالة الاستقرار وتضمن نفوذًا نسبيًا متوازنًا، لكن هذه المتغيرات تطرح تهديدًا يتمثل في احتمالية تحولها إلى مواجهات جديدة جيوسياسية واستراتيجية، ما يعيد إنتاج دوامة الفوضى وعدم الاستقرار في سوريا.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى