تركيا

دبلوماسية الزلازل: قراءة في المكتسبات السياسية لتركيا

يجمع مصطلح “دبلوماسية الكوارث” بين كلمتين ليستا بالضرورة لهما نفس المدلول، فالدبلوماسية على حدة هي فكرة إدارة العلاقات الدولية بتوظيف مهارات التفاوض والحوار وبما يحقق المصالح للكيان الذي تعمل لخدمته، بينما توظيف الدبلوماسية إلى جانب الكوارث يعني التضامن والإغاثة والدعم غير المشروط. وهو يتناقض هنا مع فكرة جوهرية في الدبلوماسية التقليدية وهي “تحقيق المصلحة”، وإن كانت التحركات الدبلوماسية “الإغاثية” التي أعقبت زلزال تركيا وسوريا قد امتزجت بتحقيق مصالح بعض الأطراف مما يجعل مفهوم “دبلوماسية الكوارث” أكثر واقعية وعملية، بحيث يمكن القول إن دبلوماسية الكوارث قد تشكل عاملًا محفزًا لتقوية العلاقات الدولية بشرط أن تكون هناك إرهاصات مسبقة لهذا التقارب وألا يكون وليد الكارثة.

ملفات متعددة

ويمكن إسقاط ما تقدم على الواقع السياسي لتركيا بعد الكارثة الزلزالية التي ضربت حوالي عشر ولايات؛ فقد شهدت أنقرة اختراقات في عدد من الملفات منها الملف الأرميني، والملف اليوناني، وكذلك ما يتعلق بالملف السويدي- الفنلندي وتباطؤ انضمامهما إلى حلف الناتو حتى الآن على خلفية الفيتو التركي، ويتضمن كل ملف دوافع ومآلات يمكن تفصيلها كالتالي:  

● التقارب على المستوى التركي- اليوناني: من بين الدول التي جذبت الانتباه في كارثة الزلزال الأخيرة “اليونان” وذلك من حيث مستوى وسرعة استجابتها الإنسانية للحدث مع الوضع في الاعتبار الخلافات المتشعبة التي تسطير على ملف العلاقات بين أثينا وأنقرة، حيث أجرت الرئيسة اليونانية إيكاتيريني ساكيلاروبولو، اتصالًا هاتفيًا بالرئيس التركي رجب أردوغان الذي تلقى أيضًا اتصالا هاتفيا من رئيس الوزراء كيرياكوس ميتسوتاكيس. ووصل وزير الخارجية اليوناني نيكوس ديندياس إلى تركيا للتعبير عن دعم أثينا لتركيا، وهذه الزيارة هي الأولى لوزير أوروبي بعد الزلزال. 

وهو مستوى لا بأس به يمكن أن يبشر بتطبيع العلاقات بين البلدين على الرغم من تعدد مستويات الخلاف التاريخية والجيوسياسية والقومية، بيد أن الخلاف المتصاعد بين البلدين في الفترة الحالية يرجع إلى أسس اقتصادية مع اكتشاف كميات كبيرة من احتياطي النفط والغاز شرقي المتوسط الأمر الذي أحدث نزاعًا جديدًا بين البلدين للاستفادة من تلك الثروات المكتشفة، وعليه بدأ نزاع ترسيم الحدود البحرية وحدود كل طرف في مناطقه الاقتصادية الخالصة.

هذا النزاع الذي كاد أن يصل إلى مواجهة عسكرية منتصف 2020 إثر السجال السياسي والإعلامي بين البلدين قبل أن تعود الأجواء لقدر من الهدء بعد اندلاع الحرب الروسية- الأوكرانية وكون الدولتان عضوتين في حلف الناتو الذي تدخل قبيل اشتعال الأمور مرة أخرى في 2022 على خلفية مناوشات بين الجانبين تمثلت في صورة تحرشات دفاعية خلال مهام حلف الناتو في المتوسط، ولولا تدخل الحلف لتهدئة الأجواء لربما وصلت الأوضاع إلى طريق كارثي، ويضاف إلى ما سبق الآثار الاقتصادية الوخيمة الناجمة عن الحرب الأوكرانية والتي تدفع بالأطراف الدولية إلى تصفير مشاكلها نظرًا للتكلفة الضخمة لأي حرب أو عملية عسكرية.

ومن زاوية أخرى، فإن اقتراب الانتخابات التركية ورغبة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في فترة رئاسية جديدة يحدو به إلى الدفع للتقارب مع خصومه السياسيين على مستويات مختلفة لما لذلك من انعكاسات إيجابية على الناخب التركي الذي يرى أن حزب العدالة والتنمية لم يستطع التعامل مع الكارثة على المستوى الداخلي، ومن ثم سيكون من المبالغ فيه إخفاق الحكومة التركية حتى على المستوى الخارجي.

وتخشى الحكومة التركية من أن يتم استغلال هذا من جانب المعارضة خصوصًا أن تركيا بمختلف حكوماتها السابقة والحالية تمتلك تراثًا قديمًا من التعامل مع الكوارث، ومن ثم كيفية الاستعانة والحاجة إلى تطبيق “دبلوماسية الكوارث”، وطبيعة المخرجات الناتجة من سياق التفاعلات التركية الدولية والداخلية. وأفرزت الكارثة الإنسانية في تركيا كذلك حالة من التقارب مع الأوروبيين، ويرجع ذلك بشكل أساسي إلى أن أنقرة قريبة ثقافيًا من الشعوب الأوروبية مما يجعل التعاطف الإنساني معها على مستوى أعمق.

● انضمام السويد وفنلندا للناتو: سارع رئيس الوزراء السويدي أولف كريسترسون إلى التعبير عن حزنه وتعازيه في ضحايا الزلزال المدمر، وقال في تغريدة على “تويتر”: “أرسلت أحر التعازي إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان”، مضيفًا أن بلاده بصفتها شريكًا لتركيا وكونها تتولى رئاسة الاتحاد الأوروبي فإنها مستعدة لتقديم الدعم وفي اليوم التالي للزلزال، وأرسلت ستوكهولم فريقًا من المهندسين المعماريين ومتخصصين في تكنولوجيا المعلومات ومتخصصين في الخدمات اللوجستية إلى تركيا، وقدمت ستوكهولم حتى الآن 3.3 ملايين يورو في شكل دعم إنساني . وذلك على الرغم من تصاعد الخلافات بين البلدين بسبب استضافة السويد لعناصر من منظمة العمال الكردستاني و”جولن”، وإهانة أردوغان في مسيرات في العاصمة ستوكهولم، وحرق نسخة من القرآن الكريم أمام سفارة أنقرة.

وفي فنلندا، كان رد الحكومة سريعًا وقويًا، ووفَّرت هلسنكي أماكن إقامة دافئة للطوارئ، بما في ذلك الخيام والمواقد لـ3000 شخص، وتسليم الإمدادات المنسق من خلال الناتو. وأرسل الفنلنديون خبراء في البحث والإنقاذ، وأسهموا من خلال الصندوق المركزي لمواجهة الطوارئ التابع للأمم المتحدة، والذي قدم حتى الآن 50 مليون دولار. وانضمام هلسنكي إلى الناتو معرقل أيضًا بسبب اتهامات تركيا لها بأنها تأوي عناصر إرهابية تابعة لحزب العمال الكردستاني.

وحسب السويد وفنلندا، فإنه تاريخيًا ضرب زلزال قوي تركيا عام 1999 بالقرب من مدينة إزميت، وكان اليونانيون من بين أول من استجابوا للمساعدة، رغم العداء الذي استمر عقودًا بين البلدين، وبعد بضعة أشهر عندما ضرب زلزال بقوة 6.0 درجات أثينا رد الأتراك بالمثل. وقد أدَّى إظهار حسن الجوار إلى تخلّي اليونان عن اعتراضاتها على أن تصبح تركيا دولة مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي، وهو أمر يأمل صانعو السياسة بفنلندا والسويد في تكراره فيما يخص الانضمام للناتو. ومن هذه الزاوية يتضح أن دبلوماسية الكوارث ليست فقط نهجًا تقوم به الدول المتضررة من الكوارث، بل أيضًا يمكن أن تستفيد منها الدول الأخرى عبر تحسين أوضاعها المحلية والخارجية بما لا يتحقق في ظروف مغايرة.

● التقارب التركي- الأرميني: بعد 35 عامًا من الخلاف المعلن بين البلدين، قربت كارثة الزلزال الذي ضرب تركيا بين أنقرة وأرمينيا، وتم فتح حدود الدولتين بعد نحو 3 عقود، وزار وزير خارجية أرمينيا العاصمة التركية أنقرة في إشارة إلى طي صفحة الخلاف الدبلوماسي. وتنبغي الإشارة هنا إلى وجود إرهاصات للتقارب التركي- الأرميني قبل الزلزال، خصوصًا بعد انتهاء الاحتلال الأرميني للأراضي الأذربيجانية، وهي الأسباب التي من أجلها قطعت تركيا علاقاتها مع أرمينيا عام 1993، وأغلقت حدودها البرية معها؛ دعمًا لأذربيجان التي لم تعد معترضة اليوم على بوادر التقارب كما كانت في عام 2009، وأعلنت أنها تدعم تطبيع تركيا الشقيقة علاقاتها مع أرمينيا، وصرح وزير خارجيتها جيهون بيراموف بأن تطبيع تركيا مع أرمينيا سيخدم المصالح المشتركة بين أنقرة وباكو أيضًا.

● الأجندة الإسرائيلية في التقارب مع تركيا: كان من اللافت للانتباه أن إسرائيل كانت الدولة الثانية من حيث حجم المساعدات التي تم تقديمها لتركيا بعد أذربيجان. وإن كان للتقارب بين أنقرة وتل أبيب سابقة لكارثة الزلزال، فإن تل أبيب تحاول استغلال الحدث لفرض أجندتها أو على الأقل للخروج بمكاسب على غرار هلسنكي وستوكهولم.

فقد ظهر توجه إسرائيلي مغاير ألمح إلى محاولة إجراء مقايضة سياسية مع تركيا التي تتلقى المساعدات الدولية عن طريق مطالبة أنقرة مقابل ما يقدمه الجانب الإسرائيلي من مساعدات في مواجهة الزلزال بألا تمنح حق اللجوء لمن يستهدفونها بعمليات إرهابية على حد تعبير تل أبيب. وعلى الرغم من أن الوقت لا يتسع للحديث عن تسييس المساعدات، فإن إسرائيل لم تفوت التذكير بما وصفته بأنه خلال العشرين الماضية أصبحت إسطنبول عاصمة قيادة كبرى حركات المقاومة الفلسطينية، ومركزًا دوليًا ضخما لتحويل الأموال.

مما سبق يمكننا الإشارة إلى أن دبلوماسية الكوارث هي نوع من الدبلوماسية الذي يخفف حد الصراع وقد يؤجله، لكنه لا يخلق منعطفًا جديدا في العلاقات، طالما لا يوجد تغير ملموس في المواقف الأصيلة للدول تجاه القضايا الخلافية، إلا أن الأكيد أن انشغال تركيا بإنقاذ الأوضاع داخليًا قد ينعكس على تعطل بعض ملفات وساطة منها ملف الوساطة بين روسيا وأوكرانيا اللتين تبديان تلميحات مشروطة للذهاب نحو المفاوضات.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

نيرمين سعيد

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى