تركياالعراق

تحريك القضايا الإشكالية: دلالات زيارة الرئيس التركي إلى العراق

أجرى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان زيارة إلى بغداد يوم الاثنين الموافق 22 أبريل 2024 تعد الأولى لرئيس الجمهورية التركي منذ 15 عامًا، عندما زار الرئيس السابق عبد الله جول بغداد في 2009، وتعد الأولى لأردوغان منذ 13 عامًا عندما كان رئيسًا للوزراء، حيث قام بـ 3 زيارات للعراق في أعوام 2008 و2009 و2011، وقد حظيت الزيارة بأهمية خاصة؛ كونها تناولت قضايا حاسمة مثل: محاربة حزب العُمال الكردستاني، والمُضي قدمًا في مشروع “طريق التنمية”، وإدارة المياه، وتصدير النفط، وغيرها من قضايا التعاون الثنائي.

دلالات وملفات الزيارة

استغرقت الزيارة يومًا واحدًا وشهدت التوقيع على 26 اتفاقية ومذكرة تفاهم غطت مجالات متنوعة؛ شملت: اتفاق الإطار الاستراتيجي بين البلدين، واتفاقية تشجيع وحماية وتبادل الاستثمارات، ومذكرة اتفاق إطاري للتعاون في مجال المياه، فضلًا عن مذكرة تفاهم مشروع طريق التنمية، ومذكرة تفاهم لتشكيل لجنة تجارية اقتصادية مشتركة (JETCO)، ومذكرة تفاهم بين اتحاد الغرف التجارية العراقية ومجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية التركي، ومذكرة تفاهم للتعاون الفني والعلمي والاقتصادي في مجال المشاريع الصغيرة والمتوسطة، ومذكرة تفاهم في مجال التدريب العسكري، ومذكرة تفاهم بشأن التدريب والتعاون في مجال الصحة العسكرية، ومذكرة تفاهم للتعاون الاستراتيجي بين هيئة التصنيع الحربي وسكرتارية الصناعات الدفاعية التركية، ومذكرة تفاهم للتعاون الأمني، ومذكرة تفاهم للتعاون في مجال الشباب والرياضة.

ذلك علاوة على مذكرة تفاهم بين معهد الخدمة الخارجية ومعهد الدراسات الاستراتيجي التركي، ومذكرة تفاهم للتعاون في مجال العلوم الصحية والطبية، ومذكرة تفاهم بشأن خطة مجموعة العمل الزراعية للفترة 2024-2025، ومذكرة تفاهم بشأن البحث العلمي والتكنولوجي، ومذكرة تفاهم للتعاون في المجال التربوي، ومذكرة تفاهم في مجال التعاون السياحي، ومذكرة تفاهم في مجال التشغيل والضمان الاجتماعي، ومذكرة تفاهم في مجال الشأن الاجتماعي والأسرة، ومذكرة تفاهم بشأن الوثائق والأرشيف الحكومي، ومذكرة تفاهم في مجال أمن المنتجات والحواجز الفنية أمام التجارة، ومذكرة تفاهم في الشؤون الدينية، ومذكرة تفاهم حول التعاون في مجال التدريب القضائي، ومذكرة تفاهم في مجال الكهرباء، ومذكرة تفاهم في مجال الإعلام والاتصالات.

واتصالًا بذلك يُمكن توضيح دلالات الزيارة على النحو التالي:

• إحداث نقلة على صعيد العلاقات الثنائية: تُعد الزيارة تتويجًا دبلوماسيًا لجولتي المباحثات الأمنية التي أجراها وزراء الخارجية والدفاع والداخلية ومدير جهاز الاستخبارات خلال ديسمبر ومارس الماضيين، كما أنها كانت مقُررة منذ العام الماضي وجرى تأجيلها مرات عدة ما يعني أنها أخذت الوقت الكافي للإعداد والتحضير، بحيث وصلت القضايا الثنائية لمرحلة توافقية على ما يبدو وفق صيغة “الأمن مقابل التنمية”، تُقدم بموجبها بغداد تسهيلات أمنية واستخباراتية لأنقرة لتقويض التهديد الكردي مقابل تحريك القضايا الاقتصادية والتجارية المتعثرة مثل ملفات زيادة التدفقات المائية للعراق، وإعادة تصدير نفط إقليم كردستان عبر تركيا، واتخاذ خطوات فعلية بشأن مشروع طريق التنمية، وزيادة التبادلات التجارية والاستثمارات التركية في العراق، حيث عملت فرق ولجان مشتركة على الإعداد للزيارة في ملفات الأمن والمياه والزراعة داخل العراق، والاقتصاد والتبادل التجاري، وعدة لجان أجرت زيارات متبادلة للعراق وتركيا للإعداد بشأنها بدقة خلال سنة كاملة.

ويُمكن من خلال النظر لطبيعة الوفد المرافق لأردوغان -الذي غلب عليه الطابع الأمني والاقتصادي والخدمي، حيث ضم وزراء الخارجية والدفاع والتجارة والنقل والبنية التحتية والزراعة والغابات والطاقة والموارد الطبيعية والصناعة والتكنولوجيا- معرفة طبيعة مستهدفات الزيارة وتركزها على تطوير جوانب العلاقات الاقتصادية مقابل معالجة المخاوف الأمنية لأنقرة. ومع ذلك، ينبغي ملاحظة أن الصيغ الاتفاقية في جانبها الأكبر جاءت تحت بند “مذكرة تفاهم”، ما يعني أن المجالات موضوع المذكرات لا تزال في مراحلها الاتفاقية الأولى، وعليه، سوف يتعين على المسؤولين التنفيذيين في البلدين عقد اجتماعات وتفاهمات لتحديد خطوات تنفيذية وآليات عمل مُجدولة تضع موضوع المذكرات موضع التنفيذ على أرض الواقع.

• إعطاء الضوء الأخضر لعملية عسكرية تركية شمال العراق: تتطلع أنقرة لتنفيذ عملية عسكرية لتطهير المنطقة الشمالية من عناصر حزب العُمال الكردستاني وإنشاء منطقة عازلة آمنة بعمق يتراوح بين 30 و40 كيلومترًا لمنع تسلل مقاتلي الحزب إلى تركيا، على أن تُنفذ العملية بقوات مشتركة من الجيش التركي والقوات العراقية والحشد الشعبي بالتعاون مع قوات حكومة أربيل. ويبدو أن العملية التركية لا تحظى بممانعة إيرانية رغم امتعاض طهران من النشاط التركي في مناطق الشمال العراقي وما يعنيه من تقاسم للنفوذ، ورغم تأثيراتها المحتملة على خطوط الإمداد اللوجيستي الإيرانية المارة عبر شمال العراق، وتحديدًا جبال سنجار. ويبدو أن التفهم الإيراني ينطلق من تفاهمات مشتركة مع الجانب التركي تتضمن عدم الإضرار بالمصالح الإيرانية، فضلًا عن رغبة طهران إحباط نفوذ حزب العمال في ساحتها الخلفية معتقدة أن القيام بذلك يخدم مصالحها أيضًا.

• المُضي قدمًا في مشروع “طريق التنمية”: انضمت الإمارات وقطر لتوقيع مذكرة للتعاون بشأن مشروع السكك الحديدية والطرق الذي يبلغ طوله 1200 كيلومتر دولار ويمتد من ميناء الفاو الكبير جنوب شرق البلاد حتى الحدود الشمالية مع تركيا بحيث يربط آسيا بأوروبا، تحت مسمى “طريق التنمية”. وتبلغ التكلفة الاستثمارية للمشروع نحو 17 مليار دولار لا تستطيع الميزانية العراقية تغطيتها وبالتالي فهي بحاجة لاستثمارات أجنبية يُرجح أن يأتي أغلبها من دول الخليج. ورغم أن صعوبة الاستعاضة بمشروع طريق التنمية عن مشاريع النقل الإقليمية الحالية نظرًا للتحديات الاقتصادية واللوجيستية العديدة التي تُضعف تنافسيته، فإنه يتمتع بطابع استراتيجي طويل الأمد يضمن للعلاقات الثنائية درجة من الاستدامة ومبررًا لاستمرار التفاهمات رغم تعدد وتعقد القضايا الإشكالية، ناهيك عن كونه يُمثل شريانًا تنمويًا حيويًا بالنسبة للعراق الذي يرزح تحت وطأة ضغوط اقتصادية متفاقمة لن يستطيع تجاوزها منفردًا بمعزل عن الشراكات الاقتصادية الخارجية.

• مناقشة قضية الإمدادات المائية: خلقت قضية خضوع المنابع المائية للأنهار المارة بالعراق لدول الجوار الإقليمي مثل تركيا وإيران إشكالية تتعلق بارتهان الإطلاقات المائية للعراق للحسابات السياسية لهاتين الدولتين، ومع كون العراق أحد أكثر خمس دول معرضة لخطر تغير المناخ في العالم، وانخفاض مخزونه الجوفي المائي، ومساهمة الزراعة بنسبة % من الوظائف وثاني أكبر مساهم في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5% بعد النفط، فإن انخفاض الاطلاقات المائية بحيث تحصل فقط على ثلث الإمدادات المفروضة من تركيا وعُشر الإمدادات من إيران يضع اقتصادها تحت ضغوط إضافية نتيجة الجفاف وتبور الأراضي الزراعية، ويعرقل خطط التنمية ومحاولات تنويع الاقتصاد بعيدًا عن النفط، ويُسهم في إحداث اضطرابات اجتماعية.

ومع ذلك، يبدو أن الزيارة لم تحرز تقدمًا ملحوظًا على صعيد ملف المياه، حيث اقتصرت معالجته على مذكرة الاتفاق الإطاري للتعاون بشأن تنفيذ مشاريع مشتركة للمياه، وتحسين إدارة المياه في نهري دجلة والفرات، وتبادل الخبرات في مجال تحديث أنظمة الرّي وتقنياته الحديثة، دون التشاور بشأن حجم التدفقات المائية للعراق. ومن المتوقع أن يظل هذا الملف مرهونًا بالتقدم على صعيد التعاون الأمني في مكافحة حزب العُمال الكردستاني، كما أن ضعف الحكومة العراقية والواقع السياسي الحالي يُضعف قدرة العراق على فرض رؤيته في هذا الشأن.

• التواصل مع مختلف المكونات العراقية: تُظهر زيارة أردوغان لأربيل بعد لقائه المسؤولين العراقيين في بغداد رغبة أنقرة في إقامة علاقة فعالة مع مختلف المكونات العراقية، وتحقيق قدر من التوافق لإزالة العقبات السياسية أمام المستهدفات الأمنية والمشروعات الاقتصادية المقترحة؛ فعلى سبيل المثال تتطلب مكافحة عناصر حزب العُمال في مناطق الشمال مع قوات الإقليم والحشد الشعبي لاسيَّما أن الأخير كان يستغل الطبيعة الجغرافية الوعرة لمنطقة جبار سنجار (خارج النطاق الجغرافي لإقليم كردستان)، بموجب تفاهمات مع حزب العُمال، كممر لتهريب الأسلحة الإيرانية إلى الشمال السوري، كما أن خطوط النقل والسكك الحديدية المتعلقة بمشروع “طريق التنمية” تمر عبر الحدود الشمالية الخاضعة في جزء منها للقوات الكردية.

• تعزيز العلاقات الاقتصادية: يحتل العراق المركز الثالث في قائمة أهم وجهات التصدير التركية بعد ألمانيا والولايات المتحدة عند مستويات تبلغ 12.76 مليار دولار خلال عام 2023، مقابل المركز الثاني وأربعين في الواردات التركية عند 1.419 مليار دولار، وهو ما يعني أن الميزان التجاري الثنائي بين الدولتين يصب لصالح تركيا بفارق يبلغ 11.341 مليار دولار. وقد بلغ حجم التجارة بين البلدين 24.2 مليار دولار في 2022، و19.9 مليار دولار عام 2023، ويسعى البلدان إلى رفع حجم التبادل التجاري إلى مستويات أعلى مع اكتمال طريق التنمية. وفي هذا الإطار، عُقد على هامش الزيارة الملتقى الاقتصادي العراقي التركي حيث شهد توقيع مذكرة تفاهم لتشكيل اللجنة التجارية والاقتصادية العراقية التركية لتعمل كمنصة لتبادل الخبرات وتنسيق الجهود وتقوية العلاقات التجارية وتشجيع الاستثمار المشترك.

• استمرار تعثر ملف الإمدادات النفطية: لم تحرز الزيارة تقدمًا على صعيد عودة صادرات النفط من إقليم كردستان إلى تركيا عبر خط الأنابيب المغلق منذ أكثر منذ عام متسببًا في خروج قرابة نصف مليون برميل من النفط يوميًا من الأسواق العالمية، ويرجع ذلك إلى استمرار المفاوضات مع حكومة الإقليم وشركات النفط الأجنبية العاملة في الإقليم، حيث تريد الأخيرة الحصول على ثلاثة أضعاف الرسوم البالغة 6.9 دولارات للبرميل التي يمنحها العراق للمنتجين في أجزاء أخرى من البلاد، كما تريد تصفية مستحقاتها السابقة، بما في ذلك مليار دولار للنفط المنتج بين سبتمبر 2022 ومارس 2023، وبالنظر لغياب إطار زمني محدد للتفاوض، تظل مسألة عودة الإمدادات معلقة حتى إشعار آخر.

ختامًا، لم يكن متصورًا أن تؤدي زيارة أردوغان إلى معالجة بعض الإشكاليات ذات الجذور العميقة بين البلدين، فهي زيارة بروتوكولية هدفها إطلاق مرحلة جديدة من العلاقات تحمل درجة أكبر من الملامح التعاونية الاتفاقية التي يُمكن أن تسهمفي طرح حلول لمعالجة المشاكل المتراكمة تلبي تطلعات الطرفين.

ماري ماهر

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى