مصر والصين … مستوى استراتيجي من الشراكة
تتطور العلاقات المصرية- الصينية بوتيرة لافتة في العقد الأخير حتى وصلت إلى إعلان الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، وذلك على مستوى العلاقات بين القاهرة وبكين وحتى على مستوى العلاقات بين الصين كقطب صاعد وبين الدول العربية تقف مصر حاضرة على الدوام باعتبارها قطب أساسي في المنطقة العربية فضلًا عن كونها تتمتع بعلاقات قوية مع جميع القوى العربية مما يؤهلها لممارسة تأثير هائل في كل الملفات المطروحة على الساحة بالاستناد على مبدأ أساسي يبني رؤية مصرية مميزة تجاه كل الملفات والأزمات، وتتلخص في إعلاء الحلول السياسية ومبدأ الحوار باعتبارهما المخارج الأساسية من كل الأزمات والطريق الوحيد للوصول إلى حالة من الاستقرار السياسي في منطقة الشرق الأوسط. حيث تتبنى القاهرة رؤية موحدة بشأن ضرورة العمل العربي الجماعي على مختلف المستويات بما يسمح بأن تكون الدول العربية رقمًا مهمًا في المعادلة الدولية ويؤهلها لممارسة التأثير المطلوب فيما يتعلق بالملفات العربية في المحافل الدولية في ظل ما تمتلكه هذه الدول من قدرات اقتصادية وبشرية تمكنها من ممارسة هذا الدور.
وفي هذا السياق تبرز رؤية مصرية خالصة تبني سياسة متوازنة تجاه جميع القوى الدولية المؤثرة والبعد عن سياسة التحالفات المبنية على مبادئ أمنية لصالح التحالفات والشراكات التي تراعي المصالح الاقتصادية للدول الأعضاء فيها مما يمنح التحركات المصرية هذا القدر من التأثير والفعالية. وفي هذا الإطار توجه الرئيس عبد الفتاح السيسي اليوم إلى العاصمة الصينية بكين تلبية لدعوة نظيره الصيني. حيث تتضمن القمة التي ستنعقد غدًا الأربعاء بين الرئيسين المصري والصيني مباحثات بين القيادتين إضافة إلى لقاءات ستجمع الرئيس السيسي مع كبار المسؤولين في الصين للتباحث بشأن تعزيز أوجه العلاقات الثنائية وفتح مجالات أوسع أمام التعاون بين البلدين وذلك بالتزامن مع الذكرى العاشرة لإطلاق الشراكة الاستراتيجية بين مصر والصين. كما ستشمل زيارة السيد الرئيس أيضًا حضوره لفعاليات الجلسة الافتتاحية للاجتماع الوزاري العاشر لمنتدى التعاون العربي الصيني الذي يعقد يوم ٣٠ مايو الجاري، بمشاركة الرئيس الصيني وعدد من القادة العرب وهو الملتقى المعنى بمناقشة كافة أوجه التعاون بين الدول العربية والصين وآفاق هذه العلاقات.
أهمية القمة ودلالات التوقيت:
تكتسب القمة الثنائية بين الرئيسين المصري والصيني أهمية خاصة نظرًا لحساسية التوقيت الذي تتم فيه القمة والذي يتسم بتصاعد حدة التوترات في منطقة الشرق الأوسط واحتمالية اتساع رقعة الصراع مما يتطلب تحركات دبلوماسية مستمرة تصب في سياق تهدئة الأوضاع وإشراك كل القوى الدولية الفاعلة وكذلك المجتمع الدولي على مستوى المؤسسات، وفي إطار التوقيت:
-لا تزال الحرب التي اشتعلت في أكتوبر الماضي داخل قطاع غزة مستمرة حتى اليوم مع تزايد الخسائر البشرية ونمو حالة عدم اليقين حول المسار السياسي المتعلق بالمفاوضات للوصول إلى وقف إطلاق نار مستدام وتنفيذ صفقة الإفراج عن الرهائن. ووسط حالة التعنت الإسرائيلي والتمادي في الجرائم المتعلقة بالإبادة الجماعية داخل قطاع غزة وداخل رفح الفلسطينية تبرز أهمية التحركات المصرية على المستويات الدبلوماسية لما له من تأثير على إعادة طرح حل الدولتين على الساحة الدولية باعتباره الحل العادل والشامل للمسألة الفلسطينية.
– اتساع دائرة الصراع داخل منطقة الشرق الأوسط والتي كادت أن تنزلق بالمنطقة إلى حرب شاملة بعد التصعيد الإسرائيلي- الإيراني يجعل من الأهمية إشراك الدول ذات الصلة في محاولات التهدئة والضغط على الأطراف لضبط النفس خوفًا من انجرار المنطقة لنقطة اللاعودة وفي هذا السياق يمكن التعويل على التأثير الذي تمتلكه الصين على إيران بحكم استراتيجية العلاقات.
– تأتي زيارة الرئيس السيسي للصين في توقيت يشهد زيارات من قادرة آخرين من دول عربية في انعكاس لحالة الانفتاح العربي على التقارب مع الصين وهو تقارب بلغ ذروته خلال القمة العربية- الصينية الأولى والتي انعقدت في المملكة العربية السعودية في ديسمبر من عام 2022، وخلال التوقيت الحالي سوف تتوالى الزيارات من قادة الإمارات- البحرين وتونس إلى العاصمة بكين تمهيدًا لحضور حفل افتتاح المؤتمر الوزاري العاشر لمنتدى التعاون الصيني العربي.
-كما تأتي الزيارة الحالية بعد انضمام مصر لتكتل البريكس إيمانًا منها بأهمية تنويع الشراكات الاقتصادية والاندماج في تحالفات تفتح أمام مصر المزيد من الفرص المتعلقة بجذب الاستثمارات الأجنبية وفي هذا الإطار تتمتع القاهرة بعلاقات اقتصادية جيدة مع بكين وقد وصل حجم التبادل التجاري بين الجانبين إلى حوالي 20 مليار دولار خلال عام 2021 إضافة إلى حجم الاستثمارات الصينية في مصر والتي تبلغ قيمتها تقريبا حوالي ربع مليار دولار، فضلا عن حرص مصر على الاستفادة من الصين في مجالات نقل التكنولوجيا وتوطين الصناعة وتطوير البنية الأساسية ووجود آفاق متميزة أمام جذب المزيد من الاستثمارات الصينية في المنطقة الاقتصادية الخالصة لقناة السويس وفضلًا عن ذلك هناك استثمارات للصين في المشروعات العملاقة التي تقودها الدولة المصرية وتساعد بكين جزئياً في تمويل وبناء المنطقة التجارية للعاصمة الإدارية الجديدة التي تبلغ تكلفتها 59 مليار دولار كجزء من صفقة مع شركة هندسة البناء الحكومية الصينية المملوكة للدولة.– وفي سياق آخر تسعى مصر إلى رفع عدد السياح من الصين خاصة أن قطاع السياحة من أهم مصادر النقد الأجنبي بالنسبة لمصر.
-كذا تكتسب القمة أهمية باعتبارها تأتي في توقيت تستهدف مصر تحقيق أجندتها الطموحة فيما يتعلق بأن تصبح مصر مالكة لشبكة من أهم الموانئ على مستوى العالم، وفي هذا السياق فإن بكين تعد شريكًا مهماً للغاية وقد وقعت مصر مذكرة تفاهم مع شركة هاتشيسون بورتس الصينية لإنشاء محطة حاويات على البحر الأبيض المتوسط في أبو قير.
– كما تنعقد القمة في وقت لازالت فيه جائحة كورونا تلقي بظلالها على الاقتصادات العالمية ومن أبرزها الاقتصاد الصيني نتيجة لسياسية الإغلاق وسياسة صفر كورونا وهي التأثيرات التي طالت أيضًا مسألة الأمن الغذائي الذي تفاقمت تأثراته أيضًا جراء استمرار الحرب الروسية – الأوكرانية بشكل جعل من الأهمية قيام الأطراف المختلفة بإعادة حساباتها والنظر في التحالفات التي تحقق لها مصالحها خاصة في المجال الاقتصادي الذي تأثر بشكل كبير من جراء هذه الأحداث.
– في إطار آخر تتزايد التأثيرات الناجمة عن مسألة التغير المناخي والتي ضربت بتأثيراتها المتشعبة العديد من المناطق والدول على مستوى العالم مما يتطلب درجة أكبر من التعاون بين الدول في مجالات الطاقة النظيفة والمتجددة لتقليل كارثية الانبعاث الحراري على المناخ خاصة أن الصين لديها حالة خاصة في هذا السياق ، ففي عام 2021، أطلقت الصين 14,3 مليار طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون، وفق بيانات لمعهد بوتسدام لبحوث آثار تغير المناخ استناداً إلى أرقام أداة “كلايمت ووتش”.وهذا الرقم يجعل من الصين أكبر مصدر للانبعاثات في العالم. ومع الأخذ في الاعتبار الانبعاثات التراكمية للبلدان، تظهر الصين في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة. في الوقت الذي تتمتع فيه مصر بقدرات جيدة في استغلال الطاقة النظيفة المعتمدة على الشمس والرياح وكذلك الطاقة النووية للأغراض السلمية بالشراكة مع روسيا.
– كما أن أهمية الزيارة تنبع من أن مصر انفتحت في الأعوام الأخيرة على الحوار مع إيران وقام السيد الوزير سامح شكري بلقاءات الثنائية مع وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان ومن الممكن أن تسهم الصين في المزيد من تقريب وجهات النظر بين البلدين خاصة أن الصين كانت قد حققت اختراقًا في الاتفاق الذي وقع بين المملكة العربية السعودية وإيران والذي كان برعاية ووساطة صينية.
– كذلك من حيث أهمية التوقيت لازالت هجمات الحوثي مستمرة في البحر الأحمر وسط تحذيرات أمريكية من احتمال وصول هذه الهجمات إلى البحر المتوسط أيضًا وهي الهجمات التي ألقت بظلال اقتصادية سيئة على الدول المطلة على البحر الأحمر نتيجة لتأثير هجمات الحوثي على أمن الممرات المائية مما يضر بحركة التجارة العالمية والاقتصاد العالمي خاصة أن الصين من أكبر المستخدمين لقناة السويس – وهي حلقة وصل حاسمة لشحن بضائعها إلى أوروبا. وبكين بالعلاقات الجيدة التي تتمتع بها مع طهران يمكنها أن تمارس دورًا في الضغط على إيران لتضغط بدورها على الحوثي خاصة مع عدم وجود تكهنات حول انتهاء الحرب في غزة في وقت قريب.
موقف الصين من قضايا الشرق الأوسط:
تنتمي الصين في مدرسة السياسة الخارجية إلى إعطاء الأولوية لما يعرف بعلاقات ” عدم الضغط” وبعبارة أخرى تنأى الصين بنفسها عن التدخل في الشؤون الداخلية للدولة وتعلي من قيم الشراكة الاقتصادية المبنية على المصالح الوطنية وهي نفس المدرسة التي تنتمي إليها مصر في دبلوماسيتها مع احترام قواعد القانون الدولي، وهو ما يجعل من بكين شريكًا موثوقَا في المنطقة العربية بالاستناد إلى موقفها في عدد من القضايا والملفات والارتكاز على مبدأ الابتعاد عن الاستقطابات السياسية وفي هذا الإطار يمكن رصد المواقف الصينية على النحو التالي:
-ابتعدت الصين منذ الأحداث التي اجتاحت المنطقة العربية في 2011 عن التدخل في شؤون أي دولة ودفعت على طول الطريق باتجاه الحلول السياسية والحوار.
-من ناحية أخرى فإن الصين ولمدة 30 عامًا حافظت على تقليد مفاده أن أول رحلة خارجية يقوم بها وزير خارجية معين ستكون إلى أفريقيا. وفي هذا السياق تدرك بكين أن مصر هي بوابة العبور إلى أفريقيا وتريد الاستفادة من مكانتها في العالم العربي وأفريقيا لتسهيل التعاون الثنائي والجماعي في المنطقتين، بما في ذلك المشاريع التي تعزز مبادرة الحزام والطريق. كما تعد مصر واحدة من أكبر ست دول إفريقية مساهمة في ميزانية الاتحاد الأفريقي. (والدول الأخرى هي الجزائر وأنجولا والمغرب ونيجيريا وجنوب أفريقيا) كما أن القاهرة عضوة في التكتلات الاقتصادية داخل القارة الأفريقية ومنها الإيكواس والكوميسا.
-انخرطت الصين في الأيام الأخيرة في ملف الوساطة الفلسطينية- الفلسطينية، وفي هذا الإطار تمتلك القاهرة الخبرة الأكثر اتساعًا وعمقًا سواء في العملية السياسية المتعلقة بالقضية الفلسطينية ككل والتي من المفترض أن تفضي إلى حل الدولتين أو حتى في ملف المصالحة الفلسطيني- الفلسطيني وكون الصين تتبنى نفس وجهة النظر من القضية الفلسطينية والمتعلقة بحل الدولتين يجعلها لاعب مهم في الملف يمكن التعويل عليه ووجود علاقات قوية مع القاهرة يؤهل الصين لدور أكثر فاعلية في هذا الإطار. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الصين قد اعترفت منذ العام 1988 بالدولة الفلسطينية التي أعلنت قيامها منظمة التحرير الفلسطينية. كما أنها ترى أن فلسطين قد تعرضت لظلم تاريخي يحتاج من المجتمع الدولي أن يقف إلى جانب الحق والعدالة.
-عرضت الصين رؤية شديدة الوضوح في هذا الملف تصل إلى حد التطابق مع الرؤية المصرية التي ترى أن جمود عملية السلام يحب ألا يستمر نظراً لأن استمراره يجدد دورات الصراع. وأن المخرج الأساسي من هذه الحلقة المفرغة هو إقامة دولة فلسطينية مستقلة في إطار حل الدولتين. فضلًا عن ضرورة استئناف محادثات السلام بأسرع وقت ومطالبة المجتمع الدولي بالالتزام بدوره وتعهداته.
– من ناحية أخرى تعد الصين شريكًا مهمًا بالنسبة للدول العربية خاصة المصدرة للطاقة منها خاصة أن الصين هي القوة الاقتصادية الثانية في العالم وتتصاعد قوتها بشكل مضطرد وأصبحت تمثل المستورد الأول للنفط العربي وشريكا تجاريا رئيسيا للدول العربية حيث وصل حجم هذا التبادل إلى حوالي 330 مليار دولار إضافة إلى الاستثمارات الصينية في الدول العربية التي بلغت خلال عام 2021 حوالي 200 مليار دولار، كما أن هناك 19 دولة عربية وقعت على الانضمام لمبادرة الحزام والطريق.
-على الرغم من تمتع الصين بعلاقات جيدة مع إيران، إلا أنها تمتلك اتجاهات متوازنة أمام ما تثيره إيران من قلق للدول العربية وعلى رأسها السعودية كما ترفض الصين على سبيل المثال احتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاثة وعوضًا عن ذلك فهي تطلب من طهران حل الأمور بالوسائل السياسية ،ويمكن الإشارة إلى أن وساطة بكين الأخيرة بين إيران والمملكة العربية السعودية لم تكن خطوة عشوائية أو معزولة عن سياقات أخرى لأن الصين تستهدف بناء علاقات أقوى في الفضاء الشرق أوسطي مستفيدة من موقف البلاد من مسألة عدم الانحياز بين الشرق والغرب. ويبدو هذا الطرح أكثر وجاهة، لا سيما في ضوء تردد واشنطن الواضح بشأن التزاماتها وعلاقاتها في الشرق الأوسط وهو ما خلق فراغات استطاعت الصين ملئها سواء في ملف الوساطة بين السعوديين والإيرانيين، أو في ملف الوساطة في ملف المصالحة الفلسطيني- الفلسطيني أو حتى في الضغط الصيني على الحوثي عن طريق إيران بعد إدراك الصين أن تجارتها العالمية تتأثر سلبًا بهذه الهجمات.
– في ملف مكافحة الإرهاب تمتلك الصبن رؤية متماثلة لرؤية القاهرة وهناك تعاون على مستويات مختلفة فيما يتعلق بهذا الإطار خاصة أن مصر تمتلك دور رائد في صون السلم والأمن والاستقرار في المنطقة، خاصة من خلال مكافحة الإرهاب والفكر المتطرف، أو عن طريق الجهود المصرية الفاعلة في تحقيق التسوية السياسية لمختلف الأزمات في محيطها الإقليمي، وهو الدور الذي تعول عليه الصين في ترسيخ الشراكة الصينية العربية.
أخيرًا، تحتل مصر الموقع الجغرافي الأكثر أهمية في الشرق الأوسط، حيث تقع بين قارات أفريقيا وآسيا وأوروبا. وتمتلك قناة السويس، أهم ممر مائي في العالم وهي واحدة من الشركاء الأساسيين في مبادرة الحزام والطريق كما أنها تحتل مكانة كبرى في العالم العربي والإسلامي والأفريقي، وعلاقات استثنائية وطويلة الأمد مع معظم دول العالم. ومن شأن النفوذ المصري أن يعزز موقف الصين مع الدول العربية وفي القارة الأفريقية وفي ملفات الوساطة، لكن وعلى الرغم من كل أوجه الأهمية لهذه القمة الثنائية بين الرئيس المصري والرئيس الصيني والتي تتعلق بالمضمون قبل إشكالية التوقيت تنطلق القاهرة من مبدأ أن التقارب مع الصين على عمقه لا يمثل بحال من الأحوال بديلاً عن الشراكة المصرية- الأمريكية خاصة أنها علاقات استراتيجية تم بناؤها على فترات زمنية طويلة وعلى أسس ثابتة وقوية مع حفاظ مصر على حقوقها في البحث عن مصالحها وتنويع تحالفاتها في إطار واسع لسياسات التوازن في العلاقات مع القوى الدولية المختلفة وحرية القرار الوطني.