
زيارة استثنائية.. قراءة في دلالات زيارة الرئيس الأمريكي بايدن إلى كييف
فيما يقترب النزاع بين روسيا وأوكرانيا من دخول عامه الثاني دون إعلان منتصر، فاجأ الرئيس الأمريكي جو بايدن العالم بزيارة سرية إلى كييف قبل توجهه إلى بولندا، معلنًا عن حزمة جديدة من إمدادات الأسلحة الأمريكية الإضافية بقيمة 500 مليون دولار، تشمل: ذخيرة مدفعية، وأنظمة مضادة للدروع، ورادارات للمراقبة الجوية، علاوة على فرض عقوبات جديدة على روسيا سيتم الإعلان عنها لاحقًا خلال هذا الأسبوع.
الزيارة إلى كييف تمت بشكل سرى ودون إشعار مسبق لمخاوف أمنية، حيث أصدر البيت الأبيض مساء الأحد جدولًا زمنيًا لأعمال الرئيس الاثنين يظهر أنه لا يزال موجودا في واشنطن، وأنه سيغادر في المساء متجهًا إلى وارسو، في حين أنه كان قد قطع الطريق بالفعل إلى أوكرانيا. وقد غادر بايدن من قاعدة أندروز المشتركة بالقرب من واشنطن بعد وقت قصير من الساعة الرابعة صباح يوم الأحد، وتوقف في قاعدة رامشتاين الجوية في ألمانيا قبل أن يشق طريقه إلى أوكرانيا.
الزيارة السرية للغاية -التي تمت في الوقت الذي يمكن فيه سماع صفارات الإنذار من الغارات الجوية تدق في جميع أنحاء كييف بينما كان بايدن يسير جنبًا إلى جنب مع الرئيس فولوديمير زيلينسكي حول كاتدرائية سانت مايكل ذات القبة الذهبية- جاءت في لحظة حرجة في الصراع المستمر منذ 12 شهرًا، حيث تستعد روسيا لهجوم الربيع، بينما تأمل أوكرانيا في استعادة الأراضي التي سيطرت عليها موسكو.
ظهر بايدن، إلى جانب الرئيس الأوكراني بربطة عنق تمثل علم أوكرانيا بلونيه، الأزرق والأصفر. وألقى خطابًا أشاد فيه بشجاعة أوكرانيا خلال الحرب، مشيرًا إلى أنه زار كييف ست مرات عندما كان يشغل في وقت سابق منصب نائب الرئيس. وقال “كنت أعلم أنني سأعود”. واستذكر الرئيس الأمريكي المخاوف قبل نحو عام من أن قوات الغزو الروسية قد تستولي بسرعة على العاصمة الأوكرانية. قال بايدن: “بعد عام واحد، تقف كييف”.
وعلى الرغم من أن هذه ليست المرة الأولى لرؤساء الولايات المتحدة لزيارة مناطق الصراع، فقد سبق وأن قام أسلافه دونالد ترامب وباراك أوباما وجورج دبليو بوش بزيارات مفاجئة إلى أفغانستان والعراق خلال فترة رئاستهم للقاء القوات الأمريكية وقادة تلك الدول؛ فإن هذه الزيارة تعد أكثر خطورة، حيث سافر بايدن إلى منطقة حرب نشطه حيث لا توجد سيطرة للولايات المتحدة أو حلفائها على المجال الجوي. مما جعل رحلته أكثر تذكيرًا بزيارة جون كينيدي إلى برلين في عام 1963 في ذروة الحرب الباردة. ووفقًا لبيان صادر عن البيت الأبيض، فقد تم إبلاغ روسيا بموعد الزيارة؛ لتجنب أي سوء تقدير قد يؤدي إلى دخول الدولتين المسلحتين نوويًا في صراع مباشر.
دلالات متعددة
تتمثل مهمة بايدن بزيارته إلى كييف في التأكيد على أن الولايات المتحدة مستعدة للبقاء مع أوكرانيا “طالما يتطلب الأمر” لصد القوات الروسية، حتى في ظل استطلاعات الرأي العام التي تشير إلى دعم توفير الولايات المتحدة وحلفائها الأسلحة لأوكرانيا، خاصة أن بعض حلفاء أمريكا قد ضغطوا على أوكرانيا لبدء التفاوض على اتفاق سلام قد يشمل التخلي عن أراضٍ لروسيا. وفى الولايات المتحدة، طالب رئيس مجلس النواب الجديد كيفين مكارثى وبعض الجمهوريين بنهاية لما أسموه شيكًا على بياض لجهود الحرب. لذلك تحمل زيارة بايدن المفاجئة إلى كييف عدد من الدلالات، أبرزها:
رمزية التوقيت: زيارة بايدن إلى العاصمة الأوكرانية، بعد مرور عام تقريبًا على محاصرة القوات الروسية لها في الأيام الأولى من الحرب، ترسل إشارة قوية إلى دعم الولايات المتحدة والمجتمع الدولي لأوكرانيا. حيث يتطلع بايدن إلى إبقاء الحلفاء موحدين في دعمهم لأوكرانيا، ومن المتوقع أن تشتد الحرب مع استعداد الجانبين لهجمات الربيع. يضغط زيلينسكي على الحلفاء لتسريع تسليم أنظمة الأسلحة التي تم التعهد بها، ويدعو الغرب إلى تسليم طائرات مقاتلة إلى أوكرانيا، وهو أمر رفض بايدن فعله حتى الآن.
مناقشة الدعم الغربي لأوكرانيا: جاءت رحلة بايدن في الوقت الذي التقى فيه وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في بروكسل لمناقشة الشراء المشترك للذخيرة لتزويد أوكرانيا في حربها ضد روسيا، بوصفها القضية الأكثر إلحاحًا. وقال كبير الدبلوماسيين بالاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، قبل الاجتماع: “إذا فشلنا في ذلك، فإن نتيجة الحرب في خطر”. وقد اقترحت إستونيا على الاتحاد الأوروبي إنفاق نحو 4 مليارات يورو على شراء الذخيرة لأوكرانيا، سيتم تخصيصه من “صندوق السلام الأوروبي” الذي أنشأته بروكسل لدعم أوكرانيا. حيث تستخدم أوكرانيا ما بين 60 ألفًا و210 آلاف ذخيرة، بينما تبلغ قدرات الصناعة الأوروبية ما يصل إلى 25 ألف ذخيرة خلال الفترة ذاتها.
إظهار التضامن: منحت الزيارة فرصة لبايدن لإلقاء نظرة مباشرة على الدمار الذي أحدثه الغزو الروسي لأوكرانيا. حيث قُتل الآلاف من القوات والمدنيين الأوكرانيين، وفر ملايين اللاجئين من الحرب، وعانت أوكرانيا من أضرار تقدر بعشرات المليارات من الدولارات في البنية التحتية. بالنسبة إلى زيلينسكي، فإن رمزية وقوف الرئيس الأمريكي جنبًا إلى جنب معه على الأراضي الأوكرانية مع اقتراب الذكرى السنوية ليست بالأمر الهين، لأنه يحث الحلفاء الأمريكيين والأوروبيين على توفير أسلحة أكثر تقدمًا وتسريع وتيرة التسليم.
دعم الصين لروسيا: تأتي زيارة بايدن إلى أوكرانيا مع تزايد مخاوف الولايات المتحدة بشأن دعم الصين للجيش الروسي، وتأكيد الولايات المتحدة على ظهور معلومات استخباراتية “مقلقة” ودلائل تشير إلى أن بكين تريد “التسلل إلى خط المواجهة” وتقديم مساعدات عسكرية لموسكو. وتشير المعلومات إلى تحول حديث في موقف الصين، وأن المسؤولين الأمريكيين تبادلوا المعلومات الاستخباراتية مع الحلفاء والشركاء في مؤتمر ميونيخ للأمن. وقد أثار وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن القضية عندما التقى بنظيره الصيني وانغ يي على هامش المؤتمر. ومن المتوقع أن يصل وانغ، الذي تم تعيينه كبير مستشاري السياسة الخارجية للزعيم الصيني شي جين بينج الشهر الماضي إلى موسكو هذا الأسبوع، في أول زيارة للبلاد من مسؤول صيني في هذا الدور منذ غزو روسيا لأوكرانيا. ووفقًا لوزارة الخارجية الصينية، ستوفر زيارة وانغ فرصة للصين وروسيا لمواصلة تطوير شراكتهما الاستراتيجية و”تبادل وجهات النظر” حول “القضايا الساخنة الدولية والإقليمية ذات الاهتمام المشترك”.
تغير تكتيكي لحسم الصراع: جاءت زيارة بايدن بينما تحاول وزارة الدفاع الأمريكية إقناع المشرعين الأمريكيين بتمويل برنامجين سريين للغاية في أوكرانيا، تم تعليقهما بعد أن شنت روسيا عمليتها العسكرية. وإذا استطاع البنتاغون حسم الأمر، فقد تستأنف العمليات التي تشارك فيها القوات الخاصة الأمريكية في عام 2024. ستسمح المخططات المعنية لقوات الكوماندوز الأمريكية باستخدام عملاء أوكرانيين “لمراقبة التحركات العسكرية الروسية والتصدي للمعلومات المضللة”. وهي تعد شكلًا من أشكال “الحرب غير النظامية” المعدة للاستخدام ضد الخصوم الذين لا تشارك واشنطن معهم في نزاع عسكري.
تحدي بوتين: جاءت زيارة بايدن قبل يوم من الخطاب المقرر أن يلقيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والذي سيتحدث فيه عن جهود الحرب في ظل مؤشرات على هجوم وشيك في أوكرانيا في الربيع. وتمثل الرحلة أيضًا تحديًا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي كان يأمل أن يجتاح جيشه كييف بسرعة في غضون أيام. بعد عام، تقف العاصمة الأوكرانية وعادت مظاهر الحياة الطبيعية إلى المدينة حيث تركز القتال في شرق البلاد، وتخللته هجمات بصواريخ كروز وطائرات بدون طيار ضد البنية التحتية العسكرية والمدنية. ومن المتوقع أن يكون بوتين غدًا متشددًا للغاية مع الغرب في خطابه السنوي.
على خطى قادة العالم: كان بايدن يتوق إلى زيارة أوكرانيا منذ أشهر، خاصة بعد أن تحمل العديد من نظرائه في أوروبا رحلات قطار طويلة للقاء زيلينسكي في كييف. وقام كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتس ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو ورئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك وكذلك رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون بزيارات إلى كييف لإظهار دعمهم. كما قام العديد من كبار مساعدي بايدن، بمن فيهم وزير الخارجية أنتوني بلينكين ووزير الدفاع لويد أوستن، بزيارة العاصمة الأوكرانية للتعهد بتقديم مساعدات جديدة. قام مسؤولون كبار في الإدارة، بمن فيهم مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بيل بيرنز وكبار المسؤولين في البيت الأبيض، بزيارة كييف الشهر الماضي. حتى أن زوجة بايدن السيدة الأمريكية الأولى جيل بايدن قد قامت بزيارة لم يعلن عنها مسبقًا إلى أوكرانيا، قرب منتصف العام الماضي، في خطوة وصفتها التحليلات حينها بأنها “عالية المخاطر” وغير مسبوقة من قبل زوجات الرؤساء اللاتي اعتدن دومًا الظهور في الاحتفالات وليس على جبهات الحروب.
وفي الختام، قرأ الكرملين زيارة بايدن بوصفها دليلًا على أن واشنطن مستعدة للمضي قدمًا في دعمها كييف لضمان خسارة روسيا الحرب، أو على الأقل تفادي تحقيق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كامل خطته بالنسبة لأوكرانيا تعقد مغامرته. حيث تؤكد روسيا أن الوقت يعمل ضد إدارة بايدن، وتتحول أوكرانيا بشكل متزايد إلى ثقب أسود يمتص مليارات الدولارات الغربية، بينما تدور أزمة اقتصادية حادة في العالم وفي الولايات المتحدة الأمريكية حتى بدون أوكرانيا.
وقد أعلن جهاز استخبارات الخارجية الروسي أن معظم المعدات العسكرية التي قدمها الغرب لأوكرانيا تم تدميرها من قبل القوات الروسية، وجاء في بيان المكتب الصحفي لجهاز الاستخبارات الخارجية: “لدى جهاز الاستخبارات الخارجية الروسي معلومات تفيد بأنه خلال فترة العدوان على روسيا منذ ديسمبر من عام 2021، قامت دول حلف شمال الأطلسي (ناتو) بتزويد القوات المسلحة الأوكرانية، بـ 1170 نظام دفاع جوي، و440 دبابة، و1510 مركبة قتال مشاة، و655 منظومة مدفعية” وأكد جهاز الاستخبارات الخارجية، أن القوات الروسية دمرت معظم المعدات العسكرية التي قدمتها الدول الغربية لأوكرانيا. بما يشير إلى أن استعدادها لمواجهة أي دعم عسكري غربي جديد لأوكرانيا.