اليمن

التأثير السياسي للحرب في غزة على مسار التسوية في اليمن

يتمثل التحدي الفعلي لإجراء تسوية سياسية توصف بالشمولية في اليمن في عدد من العوامل، أهمها غياب مشروع وطني جامع للفرقاء، وحتى إذا وجد إطار سياسي تحت رعاية الأمم المتحدة وفي إطار الحل الإقليمي، فإن فرص إنفاذه على أرض الواقع ليست كبيرة نظرًا لمتغيرات طرأت على الساحة الإقليمية وفرضت مناخًا جيوسياسيًا جديدًا يصعب معه تطبيق ما كان ممكنًا تطبيقه من قبل، حيث تحتل الحرب المشتعلة في غزة منذ أكتوبر الماضي صدارة قائمة هذه المتغيرات بالنظر إلى التحديات والتبعات التي فرضتها هذه الحرب على المستويين الإقليمي والدولي.

أولًا) تراجع الاهتمام الإقليمي بالأزمة اليمنية:

  • قبل عملية طوفان الأقصى، كان الانصراف عن الأزمة اليمنية يرجع في أصله إلى أن القوى الدولية لم تكن منخرطة فيها منذ بدايتها، مثلما انخرطت القوى الدولية الكبرى في الأزمتين الليبية والسورية لرغبتهم في حماية مصالحهم هناك. وبعد الحرب الروسية الأوكرانية، زاد هذا الانصراف، حيث تركزت أنظار العالم على إدارة الصراع هناك. ولذلك، اعتمدت الأسس في تصفية الأزمة اليمنية على تفاعل المتغيرات الإقليمية، خاصة أن اتجاه التهدئة هو الغالب على توجهات الدول العربية بالنسبة للأزمة اليمنية في السنوات الأخيرة. ولكن وبالتوازي مع المشهد المتفاقم في غزة، كان من الطبيعي أن يتراجع الاهتمام الإقليمي وينصرف إلى أولوية التهدئة في غزة، ويتراجع الحديث في اليمن عن السلام، وتتلاشى مقدماته التي كانت قد لاحت في الأفق في نهايات عام 2023.
  • وبعد توقيع السعودية وإيران اتفاقًا خلال عام 2023، كانت هناك الكثير من التوقعات التي أشارت إلى أن الاتفاق سيكون له مردود إيجابي فيما يتعلق بتسوية الأزمة اليمنية. ولكن على الرغم من أن التهدئة بين الأطراف الإقليمية المنخرطة في أي صراع مهم لتسوية هذه الصراعات، إلا أنه ليس العامل الوحيد المؤثر، وهو ما ثبت بعد اندلاع الحرب في غزة وما ارتبط بها من متغيرات إقليمية ودولية باتت الأكثر تأثيرًا على المسار السياسي للأزمة اليمنية.

ثانيًا) التعامل الوظيفي لجماعة الحوثي مع الحرب في غزة:

  • –    مثل التصعيد الحوثي ضد إسرائيل أول انخراط للجماعة خارج حدود الأزمة اليمنية مما جعل منها لاعبًا إقليميًا بل ودوليًا بالنظر إلى التأثير الهائل لهجمات الحوثيين على حركة التجارة العالمية عبر البحر الأحمر وهو ما ينعكس على حجم التأثير السياسي الذي يمكن أن يحصل عليه الحوثيون داخليًا.
  • قامت جماعة الحوثي بتوظيف هذه الحرب لتوسيع أرضيتها السياسية عن طريق رفع شعبيتها واكتساب الشرعية بالموقف الذي اتخذته من الحرب في غزة والذي تأسس على نصرة الشعب الفلسطيني عن طريق استهداف الاقتصاد الإسرائيلي بالضربات التي شنتها جماعة أنصار الله في البحر الأحمر مستغلة مناطق تمركزها على الساحل اليمني. ومن هنا يمكن القول إنه بغض النظر عن تأييد اليمنيين لجماعة أنصار الله من عدمه إلا أن عموم الشعب اليمني كان مؤيدًا لتحركاتها ضد العدوان الإسرائيلي وهو ما انعكس في المظاهرات الحاشدة في المناطق التي تسيطر عليها جماعة الحوثي بينما استثنت المناطق الجنوبية في عدن.
  • وعلى المستوى الداخلي أيضًا فقد مثل تدخل الحوثي في حرب غزة نوعًا من الهروب إلى الأمام بعد تآكل شعبية الجماعة على خلفية إقالة حكومة “بن حبتور” التي كانت متهمة بالفساد الذي أفرز أوجهًا متعددة من الفشل وهو ما يخلق المزيد من الإشكاليات أمام فرصة وجود ترتيبات داخلية في اليمن في هذا التوقيت، فانخراط الحوثي في أعمال قتالية ضد إسرائيل يثبت أن قرار الحرب ليس حكرًا على حكومة موحدة أيًا كانت صيغتها كما أنه يخلق إشكالية أخرى تتعلق بكيفية التعامل مع التسليح الذي تمتلكه جماعة الحوثي بعد التوصل لاتفاق خاصة أن تراجع الحوثي عن استخدام سلاحه خارجيًا ضد إسرائيل قد يعني عودة المعارك على المستوى الداخلي وتكرار ما حدث في شبوة مثلًا لا حصرًا.
  • وهو ما تم تأكيده حينما قامت جماعة أنصار الله وقبل حرب غزة -حيث يشار إلى أنه في ذلك التوقيت كان التفاوض على خارطة الطريق- ولكن قامت الجماعة بعمل أكبر عرض عسكري في تاريخها في إشارة إلى أنها لن تتفاوض على سلاحها بقدر ما ستوظفه للحصول على أكبر مكاسب سياسية. وهو ما بدأ الحوثي بتوظيفه بالفعل عن طريق التعامل مع حرب غزة على أنها مرحلة مؤقتة وعلى أن وضع جماعة الحوثي داخل اليمن قبل هذه الحرب لا يشبه واقعها بعد الحرب فيما يمكن وصفه بموسم جني الثمار بعد الشعبية التي نجح في تحقيقها على مستوى الداخل اليمني أو على مستوى إقليمي.
  • استطاع الحوثي من خلال وضعه العسكري والسياسي وموقعه الجغرافي أن يدخل في مواجهة مع إسرائيل دون أن تُصبغ هذه المواجهة بصبغة الصراع الإقليمي لأن إسرائيل حتى عندما استهدفت الداخل اليمني بضربة مباشرة، وجهتها إلى الحديدة التي تسيطر عليها جماعة أنصار الله وليس إلى مناطق نفوذ أخرى في اليمن. مما يعني أن الحوثي نجح في توظيف حرب غزة للتأكيد على الأيديولوجية التي تنتمي إليها الجماعة والتي تستند إلى أن تمردها في اليمن هو جزء من مشروع مناوءة قوى الاستكبار “إسرائيل- الولايات المتحدة” ومن ثم نجحت جماعة أنصار الله في استعادة شعبيتها المتراجعة على مستوى الداخل اليمني وعلى مستوى الرأي العام العربي باعتبارهم الضلع الأكثر تأثيرًا في محور المقاومة التابع لإيران.
  • استطاع الحوثي من خلال زيادة حالة الاستقطاب داخل اليمن النيل من الخصوم السياسيين له والتشكيك في انتماءاتهم العقائدية والأخلاقية خاصة في ضوء رد فعل الحكومة الشرعية مقارنة برد الحوثي على العدوان الإسرائيلي على غزة، ولهذا انعكاسات جد خطيرة لأنه يدفع باتجاه عسكرة المجتمع وهي حيلة دأبت الجماعات ذات الأيديولوجيات الدينية على توظيفها عن طريق تجنيد المزيد من المواطنين بحجة الجهاد، الأمر الذي قد ينذر بموجات إرهاب وقرصنة. وكان لهذا مقدمات انعكست في تمكن الحوثي من جمع التبرعات من اليمنيين بدعوى دعم أهالي غزة مما يوحي بأن ضم وتجنيد المزيد من العناصر لن يمثل عقبة أمام توسع الحوثي.

ثالثُا) كيف تأثر مسار السلام في اليمن؟

  • مثل انخراط الحوثي في هذه العمليات العسكرية ضد إسرائيل بعدًا في المسافات ووجهات النظر بين الجماعة والأطراف الداخلية وكذلك أطراف إقليمية فاعلة وتحديدًا السعودية التي يرى الحوثي أن مباحثات التسوية يجب أن تكون معها وليس مع الحكومة الشرعية، بدليل أن مباحثات صنعاء التي انعقدت في أبريل ٢٠٢٣ لم يحضرها ممثلو الشرعية اليمنية. كما أنه وخلال جولة المباحثات التي جرت بين السعودية والحوثي في سبتمبر ٢٠٢٣ لم يكن هناك تنوع في الوفد الحوثي الذي حضر المباحثات حتى من الأحزاب التي تقول عنها جماعة أنصار الله أنها تابعة لها مما يشير إلى عدم وحدة هذه الجبهة أيضًا.
  • وبالنظر إلى أن أي اتفاق سلام سيجمع بين الحوثي والحكومة الشرعية فإن هذا يعني أن الأفق كانت منسدة بدرجة من الدرجات قبل عملية طوفان الأقصى لأن جبهة الحوثي ليست موحدة مما يشير إلى أن أي اتفاق لن يكون شاملًا لجميع الأطراف.
  • ولكن هذا لا ينفي التأثيرات السياسية للحرب على غزة على الأوضاع في اليمن خاصة بعد أن قررت جماعة أنصار الله وبعد أسبوعين من اندلاع الصراع أن تكون طرفًا فيه ووظفت إمكاناتها العسكرية عن طريق استهداف السفن التي تمر في باب المندب متوجهة إلى إسرائيل بهدف قطع الإمدادات عنها وثانيًا عن طريق استهداف ميناء إيلات مباشرة بالصواريخ وهو ما اتسم بمحدودية الأثر نظرًا لتمكن إسرائيل من التصدي لهذه الضربات بالفعل عن طريق منظومة القبة الحديدية.
  • من ناحية أخرى، فإن أولوية تسوية الأزمة اليمنية ووجود مسار سياسي تراجعت بعد اشتعال الحرب في غزة وتحولت الأولوية إلى الحد من تأثير ممارسات جماعة الحوثي في البحر الأحمر لما لها من قدرة على إدخال اليمن في دائرة الصراع بعد توسع رقعته وهو ما حدث بالفعل بعد استهداف إسرائيل لميناء الحديدة ردًا على ضرب تل أبيب، ويضاف إلى ذلك الضربات الأمريكية المتكررة لأهداف داخل اليمن ضمن مسألة حماية التجارة الدولية وهو ما جعل مركز الانتباه يتحول من عملية السلام داخل اليمن إلى مسألة منع توريط اليمن في هذا الصراع الإقليمي.
  • كما أن نجاح جماعة الحوثي في خلق رأي عام مؤيد لدورها ضد الاحتلال الإسرائيلي والإبادة الجماعية للفلسطينيين في قطاع غزة زاد من توسيع قاعدتها الشعبية داخل اليمن، في الوقت الذي انتقدت فيه الحكومة الشرعية بشدة ما يقوم به الحوثيون من تعطيل لحركة التجارة الدولية، الأمر الذي يباعد بين الطرفين، بل يزيد من حالة الاحتقان.
  • ولكن في نفس السياق أيضًا يبرز اتجاه آخر له وجاهته ويتعلق بأن استهداف إسرائيل لميناء الحديدة مباشرة ومشاهد الحرائق وهي تلتهم مصافي النفط يمكن أن يكون له تأثير سلبي على شعبية الحوثي داخل اليمن باعتباره يورط اليمن ويضيف المزيد من المعاناة الإنسانية على ملايين اليمنيين عن طريق إلحاق الضرر بالاقتصاد المتراجع أساسًا.
  • من جانب آخر شكل الوضع الأمني والجيوسياسي الذي فرضه الحوثيون في البحر الأحمر عاملًا مزعزعًا للاستقرار على مستوى إقليمي ودولي مما خلق واقعًا جديدًا بالنسبة للعديد من الدول مثل الدول الأوروبية على سبيل المثال بشكل قد يجعلها أكثر انخراطًا في الأزمة اليمنية وربما تكون أكثر انفتاحًا للحوار مع الحوثيين باعتبارهم لاعبًا إقليميًا قادرًا على زعزعة الاستقرار، حيث ينطوي استقرار البحر الأحمر، وسلامة الملاحة فيه، على أهمية قصوى للأمن الاقتصادي الأوروبي، مما يجعل من استمرار الأزمة اليمنية خطرًا حقيقيًا وهو ما قد يشجع أطرافًا أوروبية بل ودولية على الانخراط في حل هذه الأزمة لضمان مصالحها التي تأثرت بضربات الحوثيين في البحر الأحمر.

في الأخير، يمكن القول إن الحرب في غزة كرست حالة اللا سلم واللا حرب في اليمن، ويضاف إلى ذلك أن أطراف الأزمة في اليمن سيواجهون ضغوطات متزايدة خاصة إذا ما أدت ممارسات الحوثي إلى جر البلاد لحرب إقليمية وتحولها إلى ساحة للصراع أو حتى ما هو أبسط من ذلك من تعرض النشاط الاقتصادي في البلاد للخطر مثلما حدث في ميناء الحديدة. حيث ستتعرض الحكومة الشرعية لضغوطات أكبر خاصة إذا ما قررت الجهات والدول المانحة وقف المساعدات ويضاف إلى ذلك أن إيراداتها النفطية متوقفة من الأساس. مع الأخذ بالاعتبار أن الحوثي وإن نجح في التغطية على فشله الاقتصادي نظرًا لندرة الموارد في المناطق التي يسيطر عليها إلا أن وضع الجماعة السياسي منقسم على نفسه داخليًا مع طول فترة اللا سلم واللا حرب والتي من الممكن أن تؤدي إلى المزيد من الانقسامات.

نيرمين سعيد

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى