أفريقياتركيا

حدود التوافق: انعكاس التقارب المصري التركي على مستويات التنسيق المشترك في أفريقيا

احتلت القارة الأفريقية مكانة خاصة في السياسة التركية منذ صعود حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم والإعلان عن استراتيجية تطوير العلاقات الاقتصادية مع أفريقيا عام 2003. ومنذ ذلك الحين، تراكم المساعي التركية نفوذًا متزايد في النطاقات الجديدة التي تخترقها؛ سواء من الناحية الجغرافية أو من حيث القضايا النوعية التي بدأتها من مداخل تنموية وإنسانية وأبعاد اقتصادية، كتمهيد نحو مرحلة جديدة من النفوذ السياسي والعسكري.

واصطدم هذا الواقع الجديد بالحضور التركي المتنامي في دوائر الأمن القومي المصري، خاصة مع الفجوة في العلاقات المصرية التركية، إذ بات ينظر إلى الحضور التركي في الدوائر الأفريقية باعتباره خصمًا من الرصيد المصري في تلك الدوائر. وعليه، بات التساؤل الحاضر الآن، هل يمهد استئناف التقارب المصري التركي على المستوى الرئاسي لفتح صحفة جديدة تسمح بمزيد من التنسيق الإقليمي المشترك على مستوى الدائرة الأفريقية.

السودان

تميل تركيا إلى استعادة النفوذ العثماني في السودان خلال القرن التاسع عشر، حينما ضمّ محمد على السودان لحكم مصر على يد ابنه إسماعيل عام 1820، تحت تبعية الدولة العثمانية، حيث كانت تعرف تلك الفترة حتى عام 1885 بفترة الحكم الثنائي التركي المصري للسودان.

وانطلاقًا من هذا التاريخ، سعت السياسة التركية إلى استعادة النفوذ العثماني في السودان ومنطقة القرن الأفريقي وحوض النيل تحديدًا، وذلك مقارنة بتنامي حضورها في مناطق فرعية أخرى في غرب أفريقيا والساحل والصحراء، والذي جاء تاليًا لتعزيز حضورها في منطقة شرق أفريقيا، موطن نفوذها التاريخي.

وفي السودان، سعت تركيا إلى استعادة حضورها في منطقة البحر الأحمر والذي بلغ مداه في عام 2017 خلال عهد الرئيس السابق عمر البشير، حينما وقع البلدان اتفاقيات للتعاون شملت توقيع 22 مذكرة تفاهم في مجالات: الزراعة، والصناعة، والتجارة، والحديد والصلب، والتنقيب واستخراج البترول، والتعدين واستخراج الذهب، وكذلك إنشاء الصوامع للغلال والخدمات الصحية والتعليم؛ هذا فضلًا عن تطوير ميناء سواكن على البحر الأحمر، قبل أن تعطل الحكومة الانتقالية بعد “البشير” تلك الاتفاقيات.

ورغم الفتور الذي أصاب العلاقات بعد “البشير”، كانت هناك مساعٍ متواصلة تمثلت في زيارة محمد حمدان دقلو، نائب رئيس مجلس السيادة آنذاك، لأنقرة في 27 مايو 2021، والتي صاحبه فيها وفد وزاري بما يضيف للبعد الدبلوماسي أبعادًا اقتصادية متعددة ومتنوعة. وجاءت هذه الزيارة استكمالًا لاهتمام تركي بالسودان، تجلى في حضور وزير خارجيتها مولود تشاووش أوغلو حفل تويع الوثيقة الدستورية بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير في أغسطس 2019.

ويعد التعاون العسكري التركي أحد ركائز حضورها في أفريقيا، من خلال تقديم التعاون الدفاعي والخبرات المهنية للجيوش والمعدات العسكرية وبيع الطائرات بدون طيار، التي بات الطلب عليها متزايدًا في الكثير من الدول الأفريقية التي تشهد صراعًا. وتجلى هذا مؤخرًا في تضمين تركيا ضمن الدول التي توجه إليها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان في سبتمبر2023، بعد اندلاع الصراع بين الجيش السوداني والدعم السريع؛ والتي صاحبها توقعات بدعم تركي للجيش السوداني بالطائرات المسيرة. وقد سبقتها زيارة لنائب رئيس مجلس السيادة الحالي مالك عقار، الذي توجه ضمن جولاته الخارجية إلى تركيا في يونيو 2023.

ومن هذا المنطلق، فإن هناك مساحات يمكن رسمها لتقريب الرؤى بين مصر وتركيا حول الموقف من الصراع السوداني، سواء فيما يتعلق بضرورة وقف هذا الصراع، أو ملف إعادة الإعمار ما بعد الصراع، أو فيما يتعلق بالبعد الإغاثي، وكذلك فيما يتعلق بأزمة سد النهضة، لما تملكه تركيا وإثيوبيا من علاقات متنامية.

ورغم وقوف تركيا على نفس الخط من الموقف المصري الداعم للمؤسسة العسكرية في الصراع السوداني، فإن هذا التوافق يتعين أن يشمل ألا يدعم الموقف التركي استمرار الصراع بتقديم الدعم العسكري، أو مزيدًا من الاستقطاب الإقليمي على الساحة السودانية، نظرًا لارتباط الموقف في السودان بالموقف في ليبيا، وكذلك مواقف الدول الإقليمية المتدخلة في الصراعين.

الصومال

في ضوء سياسة أنقرة الخارجية التي ارتكزت على توسيع الروابط في السياسة الخارجية وإقامات شراكات جديدة دبلوماسية وسياسية وعسكرية، كانت الصومال واحدة من النماذج القوية في القارة الأفريقية الدالة على الحضور التركي في المنطقة، خاصة مع الاهتمام التركي المبكر بمنطقة شرق أفريقيا والبحر الأحمر.

وقد احتفظت تركيا والصومال بعلاقات وثيقة تنامت منذ عام 2011، والتي بدأت بمدخل إنساني، وتنامت فيما بعد حتى وصلت إلى توثيق العلاقات السياسية والتجارية، وافتتاح أنقرة سفارتها في مقديشيو عام 2015، وإدارة ميناء مقديشيو، في إطار مساعيها لتعزيز الحضور في البحر الأحمر. مما مهد لها انخراطًا في الملف الأمني ومكافحة الإرهاب؛ إذ تدير أنقرة أكبر قاعدة عسكرية لها في الخارج من مقديشيو منذ عام 2017، تقوم من خلالها بتدريب أفراد في الجيش الصومالي، وفق ما هو معلن.

وتوطدت العلاقات في عهد الرئيس السابق محمد عبد الله فرماجو، الذي كان حليفًا وثيقًا لأنقرة؛ حيث زاد من النفوذ التركي، في الوقت الذي كانت فيه الفجوة تتزايد بين مقديشيو ومصر. واقترن رحيل نظام “فرماجو”، الذي كانت تراهن عليه أنقرة، بتحولات في السياسة الخارجية الصومالية، ارتبطت بانفتاح حكومة حسن شيخ محمود على مصر والدول التي كانت توترت العلاقات معها في عهد النظام السابق.

ورغم أن التغيرات في كل من السودان والصومال كانت تشي بتهديد الحضور التركي في المنطقة، فإن المؤشرات الأخيرة والتي تمثلت في شمول كلٍ من مصر والإمارات وتركيا ضمن الجولة الرئاسية الأولى للرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، وكذلك المساعي التركية الصومالية لتدعيم التعاون العسكري بينهما بعد اتفاق مماثل بين مصر والصومال مؤخرًا؛ مما يعكس حالة من التعددية الإقليمية في المنطقة، بما يضمن استمرار الحضور التركي لكن في سياق من التجاذب والاستقطاب بين فواعل إقليمية متعارضة المصالح، في ظل استمرار الاضطراب الأمني وعدم الاستقرار السياسي في الصومال.

ويفرض هذا الواقع مدخلًا للتنسيق المصري التركي إزاء قضايا المنطقة، وقد تجلى ذلك في الموقف المشابه للبلدين من الأزمة، فمع دعم الموقف المصري لسيادة ووحدة الصومال ورفض الاتفاق الإثيوبي مع أرض الصومال، جاء بيان الرئاسة التركية في ذات الإطارالداعم لوحدة الأراضي الصومالية؛ وهو ما يمكن أن يخلق أرضية مشتركة للتنسيق إزاء الوضع الأمني في الصومال، بما يضمن عدم انعكاس الاستقطاب على حالة الأمن والاستقرار في الصومال.

الساحل والصحراء

مع تنامي الحضور التركي في أفريقيا منذ أن أعلنت عام 2005 عام أفريقيا وعقد القمتين التركية الأفريقية، الأولى في أنقرة 2008 والثانية في غينيا الاستوائية عام 2014 واستضافت إسطنبول قمة الشراكة التركية الأفريقية 2021؛ وهناك اهتمام أفريقيا بتنوع الشراكة التجارية والعسكرية والسياسية مع كافة دول القارة؛ فقد بلغ حجم التجارة التركية مع القارة الأفريقية بشكل عام 20 مليار دولار عام 2021، مع تركيز حضورها في شرق أفريقيا، حيث بلغ حجم التبادل التجاري مع السودان 500 مليون دولار، والصومال 300 مليون دولار، ومع إثيوبيا مليار دولار، في نفس العام.

وفي منطقة الساحل وغرب أفريقيا، وظّفت تركيا نفس الأداة الدبلوماسية والتنموية مع دول المنطقة، حيث بدأت من مدخل المساعدات الإنسانية والتنموية والاستثمار في البنية التحتية وبناء المساجد، إلى أن تنامى دورها على نحوٍ كان يثير مخاوف الدول الأوروبية وفي مقدمتها فرنسا، التي شهدت تراجعًا ملحوظًا في المنطقة؛ بحيث كان ينظر إلى الدور التركي كبديل عن الحضور الفرنسي في المنطقة.

ومثل حلول وزير خارجية تركيا كأول مسؤول يتوجه إلى مالي بعد وقوع الانقلاب العسكري، انعكاسًا للرغبة التركية في ملء الفراغ الذي شكله الانسحاب الفرنسي من المنطقة؛ إذ حافظت تركيا بجانب الصين وروسيا وإيران على حضور متنامٍ في تلك المنطقة التي تصاعد فيها الرفض والعداء للحضور الفرنسي.

ورغم الموقف التركي الرسمي الداعي للاستقرار واستعادة النظم الدستورية في الدول التي شهدت انقلابات في المنطقة، فإن حضورها ورغبتها في تعزيز التعاون الدفاعي في المنطقة يثير المخاوف بشأن احتمالية تقديم أنقرة الدعم للمجالس العسكرية، بما يزيد من نطاق الفوضى السياسية وتمدد النشاط الإرهابي في المنطقة.

ومع تحول تركيا إلى سوق بديلة للتسليح لدول غرب أفريقيا، وتوطيد علاقتها بالنخب العسكرية، إلا إن الاضطرابات السياسية والأمنية التي تشهدها دول المنطقة تثير المخاوف التركية من تهديد مصالحها الاقتصادية وكذلك حضورها الذي ربما يتم استهدافه من جانب المنافسين الإقليميين والدوليين وكذلك الجماعات الجهادية التي تجعل من مصالح الدول المنخرطة في تلك البلدان هدفًا لعملياتها.

ويفرض هذا الوضع بدوره أهمية تعزيز الاستقرار السياسي والأمني في دول المنطقة، وهو ما يمثل أولوية مصرية، التي تولي أمن الساحل والصحراء أهمية خاصة، وقد تجلت في المقاربة المصرية الداعية لتشكيل قوة إفريقية مشتركة لمكافحة الإرهاب في الساحل والصحراء، والتي قد دعت إليها خلال رئاستها للاتحاد الإفريقي عام 2019، وكذلك وافق مجلس النواب المصري خلال عام 2022 على استضافة مصر لمركز الساحل والصحراء لمكافحة الإرهاب؛ كجزء من التعاون المصري مع دول الساحل في مكافحة الإرهاب.

ونظرًا للاهتمام التركي بدول المنطقة بما في ذلك المسألة الليبية، فإن المقاربات المصرية لإحلال السلام والأمن في منطقة الساحل والصحراء لن تغيب عن أية نقاشات مشتركة بشأن تحقيق الحد الأدنى من التوافق على ضرورة ألا يكون التدخل الإقليمي عاملًا لتحفيز عدم الاستقرار في المنطقة.

في الأخير، تعد الخطوة الأولى نحو حلحلة الخلافات المصرية التركية بشأن القضايا الإقليمية المتعددة بداية لرسم خريطة المصالح المشتركة والمتباعدة بين الطرفين، بحيث يسمح الحوار المشترك بين البلدين بالكشف عن ماهية المصالح وتعريفها، بما يسمح بتحقيق قدرًا من التعاون المشترك بشأنها، ولا تنفصل القارة الأفريقية عن خريطة المصالح المتقاطعة والمشتركة بين البلدين.

شيماء البكش

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى