مصر

أموال التأمينات: ماضٍ متشابك ومستقبل منظم

وفقًا لقرار المحكمة الدستورية العليا، فإن أموال التأمينات هي “أموال خاصة” يجب استثمارها لصالح أصحاب المعاشات، لكن ذلك الأمر لم يتحقق وما حدث خالف تلك الحقيقة؛ إذ تم استثمار تلك الأموال في أصول لا تتناسب مع المخاطر الخاصة بها. وما يتم تداوله إعلاميًا حول عملية سطو أو نهب لأموال التأمينات أمر يجانبه الصواب من الناحية الاستثمارية؛ فالوصف الأكثر دقة لما حدث هو ارتكاب مخالفات قانونية وإدارية في استثمار تلك الأموال نتج عنها خسارتها في الأسواق المالية، وليس سرقة لتلك الأموال.

أموال التأمينات، هي الأموال التي يتم تحصيلها من جانب العاملين بالدولة قطاعًا عامًا كان أو خاصًا، وهي عبارة عن نظام تكافلي يضمن للمشتركين الحصول على أموال في شكل دفعات شهرية عند التعاقد، يتم جمع تلك الأموال ووضعها في صندوق يتخذ شكلًا قانونيًا. ويتم تعيين إدارة استثمار مستقلة سواء من جانب هيئة التأمينات والمعاشات أو من خلال إسناد مهام الإدارة إلى مدير استثمار مستقل، لكن يجب أن تتم تلك الاستثمارات وفقًا لثلاثة مبادئ رئيسة تخضع كلها لمبادئ إدارة الاستثمارات بما يتناسب مع معدلات المخاطر.

أول هذه المبادئ هي أن تلك الأموال لا يمكنها تحمل مخاطر مرتفعة؛ نظرًا إلى كونها أموال العاملين الذين يعولون عليها كمصدر تمويل لفترة التقاعد، وعليه فإن تلك الفرضية تشير إلى ضرورة استثمار تلك الأموال في أدوات الدين الحكومية التي تسمي بالسندات، سواء كانت بعملات محلية أو أجنبية، مع التأكد من الجدوى الاستثمارية للجهة (الدولة) المصدرة للسند. 

أما الأمر الثاني الذي يتم النظر إليه فهو مبدأ السيولة؛ فلكون تلك الأموال يتم تجميعها من جانب العاملين بالدولة من مختلف القطاعات، ربما يتعثر قطاع في سداد التزاماته تجاه الصندوق، وهو ما يتطلب توافر سيولة في الصندوق للوفاء بالتزاماته تجاه أي قطاع في أي وقت، ومن ثم فإن ذلك المبدأ يتطلب توافر نقدية بالصندوق طوال الوقت للحد الذي يفي بالالتزامات، واستثمار نسبة من أصول الصندوق في أدوات مالية (سندات) قصيرة الأجل. أما المعيار الثالث فهو تحقيق الربحية بما يتناسب مع مستوى المخاطر المقبول، فالأموال المحتفظ بها في الصندوق تتآكل بفعل معدل التضخم على الجنيه المصري، وعليه يجب توظيف تلك الأموال في استثمارات تحقق عوائد جيدة تضمن وفاء الصندوق بالتزاماته.

ما حدث، هو أن الإدارة القائمة على إدارة تلك الأموال لم تستوف تلك المحددات الاستثمارية لإدارة تلك الأموال، وعليه فقد تم استثمارها في سوق الأوراق المالية الأمريكية في الأعوام السابقة للأزمة المالية العالمية، تلك الفترة كانت أسعار الأصول المالية (الأسهم والسندات) عالميًا مرتفعة إلى حد كبير، وقد تسببت الأزمة المالية العالمية التي ضربت العالم في عام 2008 في انهيار أسواق المال، وهو ما ترتب عليه خسارة 60% من استثمارات الصندوق بتلك السوق. 

على النحو الآخر، تم استثمار أموال التأمينات بسوق الأوراق المالية المصرية في شركات قوية ماليًا بالتعاون مع البنوك الحكومية العاملة في مصر وبعض المؤسسات الأخرى، وتم تحقيق عوائد جيدة على تلك الاستثمارات، أو على الأقل تلك الأموال لم تخسر قيمتها. ومن الجدير بالذكر أن الفترة قبل عام 2010 شهدت استخدامًا كبيرًا لأموال التأمينات لتمويل العجز في الموازنة العامة بالدولة، مقابل التعهد بسداد عوائد مجزية على تلك الأموال كان يتم قيدها بشكل دفتري، وهو ما ترتب عليه وجود مستحقات كبيرة لهيئة التأمينات طرف وزارة المالية. لكن ووفقا لبرنامج فض التشابك المزمع تطبيقه من جانب وزارة المالية لسداد مستحقات الهيئة، فإن إجمالي ما ستحصل عليه الهيئة من وزارة المالية على مدار الخمسين عامًا القادمة (محملة بالفوائد والعوائد) سيصل إلى حوالي 45 تريليون جنيه مصري.

لكن الفترة منذ عام 2014، ومع تغيير القائمين على الإدارة وتولي الرئيس السيسي زمام الأمور في البلاد صدرت توجيهات رئاسية إلى وزير المالية بفض الاشتباك المالي بين المؤسستين، ووضع خطة زمنية تقوم فيها وزارة المالية بسداد تلك المبالغ لهيئة التأمينات. وقد نتج عن ذلك القرار تعديل في قانون التأمينات الاجتماعية والمعاشات رقم 148 لسنة 2019؛ بهدف توفير السيولة المالية اللازمة لخدمة أصحاب المعاشات والمستحقين عنهم والمؤمن عليهم والوفاء بكامل الالتزامات تجاههم.

ومن الجدير بالذكر أن الخزانة العامة للدولة انتهت من تحويل 465.4 مليار جنيه للهيئة القومية للتأمينات الاجتماعية خلال 33 شهرًا، ليصل إجمالي ما تم تحويله من الخزانة لصندوق «المعاشات والتأمينات» 510.5 مليارات جنيه بنهاية يونيو 2022. وقد تم تخصيص مبلغ 190.5 مليار جنيه في موازنة العام المالي 2021/2022 للهيئة القومية للتأمين الاجتماعي، والتي ساعدت في صرف الزيادة السنوية في قيمة المعاشات بنسبة 13٪ بحد أدنى 120 جنيهًا بدءًا من أول أبريل الماضي. 

هذا إلى جانب تعديل وزارة المالية نسبة زيادة القسط السنوي لفض التشابكات لتصبح 5.9٪ بدلاً من 5.7٪؛ لاستيعاب الإجراءات التي اتخذتها الدولة لتحسين الأوضاع المعيشية لأصحاب المعاشات، وعليه فمن المقرر أن يصل إجمالي ما تسدده الخزانة العامة للدولة للهيئة القومية للتأمينات الاجتماعية خلال 7 سنوات منذ توقيع اتفاق فض التشابكات بدءًا من أول يوليو 2019، ما يقرب من تريليون و٣٦٣ مليار جنيه.

تبدو الأمور الآن أكثر وضوحًا؛ فالدولة أصبحت أكثر التزامًا تجاه الفصل المالي بين مؤسساتها ورد الحق إلى مستحقيه، وهو ما يحفظ لأموال المصريين من أصحاب المعاشات حقوقهم، لكن تلك الخطوات لم تكن لتتم دون وجود قيادة رشيدة جادة في الحفاظ على أموال المصريين، خاصة كبار السن منهم في سن التقاعد أصحاب تلك الأموال، والذي يأتي في إطار حرص الدولة على توفير حياة كريمة للمصريين من جميع المناحي.

+ posts

باحث ببرنامج السياسات العامة

أحمد بيومي

باحث ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى