“القاهرة – بيجين”.. شراكة اقتصادية راسخة تبني مستقبلًا مزدهرًا
تعود العلاقات بين مصر والصين إلى العصور القديمة عبر طريق الحرير، الذي كان شبكة من الطرق التجارية التي ربطت الصين بالشرق الأوسط وأفريقيا وأوروبا. كانت مصر، بموقعها الجغرافي الاستراتيجي، واحدة من المحطات الرئيسية في هذا الطريق، مما ساهم في تبادل السلع والثقافات بين الحضارات القديمة، إلا أن العلاقات الدبلوماسية الحديثة بدأت في الخمسينات من القرن الماضي. منذ ذلك الحين، شهدت العلاقات تطورات كبيرة، خاصة بعد تبني الصين لسياسة الإصلاح والانفتاح الاقتصادي في الثمانينات.
بدأت العلاقات الدبلوماسية الحديثة بين مصر والصين في منتصف القرن العشرين. في 30 مايو 1956، أصبحت مصر أول دولة عربية وأفريقية تقيم علاقات دبلوماسية رسمية مع جمهورية الصين الشعبية. جاء ذلك في إطار السياسات التقدمية التي تبناها الرئيس جمال عبد الناصر، الذي كان يسعى لتعزيز العلاقات مع الدول غير الغربية والنامية، وخلال الستينات والسبعينات، شهدت العلاقات بين البلدين تناميًا في التعاون السياسي والاقتصادي. دعمت الصين مصر خلال العدوان الثلاثي عام 1956 وحرب يونيو 1967، ووقفت إلى جانبها في قضايا الاستقلال والتنمية. في هذه الفترة، كانت مصر مستوردًا رئيسيًا للسلع الصناعية والزراعية الصينية، بينما كانت تصدر إلى الصين منتجاتها الزراعية والنفطية. مع أواخر السبعينيات، تبنت الصين سياسة الإصلاح والانفتاح تحت قيادة دينج شياو بينج، مما أدى إلى تسريع النمو الاقتصادي والتجاري. تزامن ذلك مع سياسة الانفتاح الاقتصادي التي تبنتها مصر في عهد الرئيس أنور السادات. شهدت هذه الفترة زيادة ملحوظة في حجم التبادل التجاري بين البلدين، حيث أصبحت الصين موردًا رئيسيًا للتكنولوجيا والمنتجات المصنعة، بينما وفرت مصر للصين المواد الخام والمنتجات الزراعية.
كان العام 2014، وبعد تولي القيادة السياسية للبلاد عاما محوريا في تاريخ العلاقات الاقتصادية بين مصر والصين حيث تم تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين البلدين عبر عدة زيارات رفيعة المستوى واتفاقيات مهمة. كان هذا العام بمثابة نقطة تحول في العلاقات الثنائية، مع التركيز على تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري، حيث قام السيد الرئيس بزيارة رسمية إلى الصين، والتي كانت بمثابة علامة فارقة في العلاقات بين البلدين. خلال هذه الزيارة، التقى السيسي بالرئيس الصيني شي جين بينغ، حيث بحث الجانبان سبل تعزيز التعاون في مختلف المجالات. تم توقيع العديد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم التي شملت مجالات الطاقة، والنقل، والتصنيع، والبنية التحتية، والتعليم، وفي اطار الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين مصر والصين، تم تنفيذ العديد من المشاريع الهامة والتي تتمثل في اطلاق برنامج التبادل الديون في اكتوبر 2023 حيث وافقت الصين على برنامج لمبادلة الديون مع مصر للمرة الأولى في تاريخها، ويهدف هذا البرنامج إلى تخفيف العبء على مصر من حيث الديون وتعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين.
من جانب آخر شهدت الشراكة الاستراتيجية توقيع شركات صينية اتفاقات لضخ استثمارات بأكثر من 15 مليار دولار في مجال إنتاج الوقود الأخضر والتصنيع في مصر، وقامت مصر بطرح سندات باندا بقيمة 3.5 مليار يوان صيني (ما يعادل أكثر من 478 مليون دولار) بهدف جذب استثمارات صينية في ظل ما تعانيه مصر من نقص في النقد الأجنبي، وتم التفاوض على مشاريع باستثمارات تزيد عن 10 مليارات دولار أمريكي لإنشاء منطقة صناعية على البحر المتوسط في مصر. هذه المنطقة ستحقق قيمة إنتاج سنوية تبلغ 18.7 مليار دولار وتوفر 15000 فرصة عمل، وتسعي مصر والصين لتعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري من خلال مشروعات مشتركة في إطار تجمع بريكس ومبادرة الحزام والطريق.
ساهمت تلك المشروعات في زيادة حجم التبادل التجاري بين مصر والصين ليصل إلى 15.7 مليار دولار في عام 2023، وفي نفس العام، سجلت الصادرات المصرية إلى الصين مبلغًا قدره 881 مليون دولار، مقابل صادرات مصرية بقيمة 551 مليون دولار خلال العام 2022 بزيادة سنوية قدرها 60%،
الشكل 1: تطور صادرات مصر إلى الصين (مليون دولار أمريكي)[1]
وبلغ حجم الاستثمارات من الشركات ذات المساهمة الصينية في مصر أكثر من 8 مليارات دولار من خلال أكثر من 2600 شركة[2]، ويستحوذ قطاع البترول على 46.3% من اجمالي الاستثمارات الصينيه بمصر، بينما يأتي القطاع الصناعي في الترتيب الثاني بنسبة 31.5% من اجمالي الاستثمارات، يلية قطاع الخدمات بحصة بحوالي 13.6% من الاستثمارات، واخيرا يأتي قطاع الانشاءات بنسبة 5.8% من اجمالي الاستثمارات الصينيه بمصر، وتعد منطقة “تيدا” الصناعية الصينيه أحد اهم المناطق الشاهدة على عمق العلاقات المصرية الصينيه، إذ تعتبر تلك المنطقة هي المنطقة الصناعية الأولى في افريقيا، وتتخذ من منطقة العين السخنة مقر لها بالمنطقة الاقتصادية لقناة السويس، ومن المقرر ان تضم تلك المنطقة قرابة 180 مصنعًا لمختلف الصناعات اللوجستية والخدمية والصناعية، وتبلغ المساحة الاجمالية للمنطقة الصناعية حوالى 7.34 مليون متر مربع (1.34 للمرحلة الأولى من منطقة تيدا” بينما تتمثل المنطقة الثانية “التوسعات” في حوالى 6 مليون كم مربع أخرى بقيمة استثمارية اجمالية بحوالي 230 مليون دولار أمريكي، وتستهدف منطقة التوسعات ضم ما يقرب من 152 – 180 من المشروعات الصغيره بإجمالي استثمارات متوقع جذبها بحوالي 2 مليار دولار أمريكي، ومبيعات متوقعه بحوالي 8 – 10 مليار دولار امريكي، وستوفر تلك المنطقة حوالي 40 ألف فرصة عمل محلية للمصريين، وتغطي المساحة الأولية لمنطقة تيدا حوالي 1.34 كم مربع، وقد تم الانتهاء من اعمال التطوير والبناء لتلك المنطقة وتحتوى تلك المنطقة على 4 صناعات رئيسية وهي صناعة مواد البناء الجديدة، وصناعة معدات الجهد العالي والمنخفض، وصناعة المعدات البترولية، وصناعة الآلات، وتعتبر منطقة تيدا نموذجًا للتعاون الاقتصادي بين مصر والصين، وتعزز العلاقات الثنائية وتسهم في تطوير البنية التحتية الصناعية في المنطقة.
مستقبل العلاقات بين مصر والصين يبدو واعدًا ومليئًا بالفرص لتعزيز التعاون في مختلف المجالات. مع استمرار تنفيذ مشاريع مبادرة الحزام والطريق، من المتوقع أن تشهد العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين نموًا كبيرًا. كما أن التركيز على التكنولوجيا والابتكار سيوفر فرصًا جديدة للتعاون في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، والطاقة المتجددة، والبنية التحتية الذكية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يسهم تعزيز التعاون الثقافي والتعليمي في تعميق الفهم المتبادل وتعزيز الروابط الإنسانية بين شعبي البلدين. كل هذه العوامل تساهم في بناء شراكة استراتيجية مستدامة، يمكنها مواجهة التحديات العالمية والإقليمية، ودعم التنمية الشاملة في كلا البلدين.
[1] خريطة الصادرات والواردات | الموقع الرسمي لبوابة الصادرات المصرية (expoegypt.gov.eg)
[2] https://www.msr2030.com/355376