
الطريق نحو الردع.. كيف نفهم تحركات اليونان الأخيرة في شرق المتوسط؟
لم تتفرد المنطقة الشرق أوسطية كونها من أبرز محركات الصراع العالمي بين مختلف القوى الإقليمية والدولية خلال الخمس سنوات الماضية، إذ حلت منطقة شرق المتوسط لتصبح الساحة الأبرز التي خطفت أنظار القوى الدولية، وشغلت حيزًا كبيرًا من فكر وأطروحات المخططين الاستراتيجيين.
فالمنطقة تعيد للصراعات الدولية واجهة “الصراع على موارد الطاقة”، ولكن هذه المرة يتصدر الغاز الطبيعي عوضًا عن النفط سلسلة دوافع مختلف القوى الفاعلة في شرق المتوسط. إذ تحتوي المنطقة على احتياطات من الغاز تمثل 1% من الاحتياطي العالمي، ورغم ضآلة هذا الحجم فإنه يحمل قيمة مضافة استراتيجية لدي دول الحوض والعديد من الفواعل الدولية؛ نتيجة مآلات الواقع الجيوسياسي في المنطقة الممتدة من جنوب القوقاز مرورًا بسوريا ووصولًا بالبحر المتوسط. إذ كانت أبرز سمات هذا الواقع الجيوسياسي المحفز على عدم الاستقرار:
- تسرب النفوذ الروسي للمياه الدافئة وتثبيته لنقاط ارتكاز من القرم شمالًا إلى قاعدتي حميميم وطرطوس جنوبًا.
- توافق العواصم الغربية على تقليل الاعتماد على مصادر الطاقة الروسية وتقويض النفوذ الروسي، ما دفع بالاهتمام الأمريكي للاستثمار في المنطقة اقتصاديًا وأمنيًا.
- بدء الاشتباك التركي الإيراني مع الجغرافيا السياسية من خلال تصادم مشروعيهما التوسعي بالعديد من كوابح الدول الرئيسة في المنطقة العربية والقوى الغربية، ووسط هذه المعادلات المتشابكة كان الغاز وخطوط إمداده لأوروبا من أهم محفزات الصراع.
ومثلت عقيدة الوطن الأزرق التركية التي تهدف للسيطرة على المسارح البحرية الثلاث “البحر الأسود – بحر إيجه – شرق المتوسط” وثرواتها؛ تهديدًا مباشرًا لدول الحوض المتوسطي. وكانت اليونان أكثر هذه الدول تضررًا جراء تصادم المشروع التوسعي التركي “الوطن الأزرق” معها وسيادتها على مياهها الإقليمية، فعامل القرب الجغرافي وموروث العداء التاريخي بينهما، منذ عهد الدولة البيزنطية والسلاجقة الأتراك، والطبيعة الطبوغرافية المميزة لليونان (6 آلاف جزيرة منهم 227 مأهولة بالسكان) قد أذكيا من سخونة المواجهة واحتمالات التصعيد العسكري. وخاصة مع إبداء تركيا عدم التردد في استخدام القوة العسكرية في الكثير من المجابهات التي وقعت بين مختلف القطع البحرية ومقاتلات سلاح الجو بينهما خلال الخمس سنوات الماضية.
ولما كان ميزان القوى بين اليونان وتركيا يميل لصالح الأخيرة كمًا ونوعًا، واستمرار إصرار أنقرة على عدم الاعتراف بالقانون الدولي والشرعية الأممية في تحديد وترسيم المياه الاقتصادية الخالصة، وتحقيق تركيا لمكاسب تكتيكية في شمالي العراق وسوريا جراء استخدامها القوة الصلبة؛ اندفعت تركيا نحو عسكرة غالبية تفاعلاتها مع اليونان وتمثلت إجمالًا في:
- الانتهاك الدوري للمجال الجوي والبحري لليونان بواسطة المقاتلات متعددة المهام إف 16، والطائرات المسيرة، وزوارق الدورية الساحلية وصولًا للفرقاطات الصاروخية. وتجدر الإشارة إلى تنفيذ مقاتلات سلاح الجو التركي لـ 33 خرقًا جويًا لليونان في يوم واحد، وهو يوم توقيع اليونان على اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع مصر في السادس من أغسطس 2020. ونفذت الخروقات تشكيلات من مقاتلات الإف 16 وطائرات الاستطلاع والاستخبار CN-235، بينما انتهكت أيضًا منطقة معلومات الطيران في أثينا 4 مرات.
- توسيع نشاط سفن المسح والتنقيب عن الغاز في المناطق المتنازع عليها مع اليونان، حيث مددت تركيا مهمة عمل سفن التنقيب في شرق المتوسط والعاملة ضمن مناطق تخضع لسيادة اليونان حوالي 6 مرات منذ أغسطس الماضي، على الرغم من توسط العديد من القوى الأوروبية لتخفيف حدة التوتر، ومنها ألمانيا التي حالت وساطتها دون اندلاع حرب بين البلدين في يوليو 2020 حينما تحركت 18 سفينة تركية نحو جزيرة كاستيلوريزو، فيما تلقت الجهات اليونانية في الوقت نفسه أوامر بالتحرك إلى الجزيرة، في مجابهة ميدانية كانت ستتحول لما يبدو أكبر مواجهة بحرية في المنطقة منذ حرب أكتوبر لولا تدخل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في اللحظات الأخيرة.
- ابتزاز اليونان بورقة اللاجئين، ففي أحدث محاولات تركيا للضغط على الدول الأوروبية وتهديد اليونان؛ أطلقت أنقرة في مارس 2020 موجة من آلاف المهاجرين واللاجئين لديها صوب الحدود البرية والبحرية مع اليونان. في موجة كانت الأكبر منذ اختراق مليون لاجئ الحدود الأوروبية انطلاقًا من تركيا سيرًا على الأقدام في العام 2015-2016.
وفي محاولة مارس 2020 ظهر التنسيق التركي علنًا في عمليات نقل المهاجرين واللاجئين عبر حافلات ورحلات قطار للحدود مع اليونان، بالتزامن مع إعلان الرئيس التركي فتح كامل الحدود مع أثينا، وتم نشر قوات أمنية يونانية لمنع الأشخاص من الدخول في ذلك الوقت. وشكرت رئيسة المفوضية الأوروبية أورزولا فون دير لاين على إثرها اليونان لكونها “الذرع الواقي” لأوروبا. كما تمركزت وكالة فرونتكس الأوروبية للحدود على الحدود اليونانية التركية.
ورغم احتواء الموقف أوروبيًا إلا أن واقعة مارس الأخيرة تداخلت فيها حسابات الحرب في إدلب السورية بالتصعيد مع اليونان والاتحاد الأوروبي كلِ على حدة بورقة اللاجئين وعدم التردد في استخدام هذه الورقة في المستقبل القريب إن اقتضت الحاجة ولاسيما في سياق واقع ضعف التجهيزات اليونانية الدفاعية بطول خط الحدود، إذ لم تكن تم بدأت بعد في إنشاء أسوار فولاذية “برًا” وعائمة “بحرًا”.
فقد أظهر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، سبتمبر 2020، وفي خلال حواره عبر الفيديو مع رئيس المفوضية الأوروبية أوسولا فون دير لايين بشأن التوتر في مياه شرق المتوسط، أسلوبًا ابتزازيًا بالحديث عن ملف اللاجئين ملوحًا باستخدامه من أجل إتمام المفاوضات مع اليونان والاتحاد الأوروبي بشأن مسألة التنقيب في المنطقة المتنازع عليها.
من التهديد العسكري برفع احتمالات المواجهة والمساومة بأوراق اللاجئين من أجل الضغط على أثينا في طاولة المفاوضات؛ تعاظمت حاجة اليونان لتخليق منظومة ردع قادرة على لجم السلوك العدواني التركي، أو بالأحرى قادرة على خفض مستويات التهديد والمواجهة العسكرية، ومعالجة نقاط الضعف الناجمة عن الطبيعة الطبوغرافية المتناثرة لليونان.
فحالة المواجهة مع تركيا تتطلب الدفاع ضمنيًا عن 227 جزيرة مأهولة بالسكان ما يعني صعوبة تأمين خطوط إمداد كلاسيكية، ما يدفع بضرورة فرض مظلة بحرية وجوية تعمل بأسلوب تكاملي وفق تكتيكات الحرب الحديثة “الجو – بحرية”. وعليه انتهجت اليونان عدة مسارات لتخليق منظومة الردع تلك، ويمكن إبرازها كالاتي:
- المراوحة بين الاستعداد القتالي وفتح قنوات الحوار، على الرغم من رفع درجات الاستعداد القصوى لدى القوات المسلحة اليونانية مرتين على الأقل خلال العام المنصرم، واشتراكها في مناورات مع مصر والإمارات وفرنسا والولايات المتحدة؛ إلا أن اليونان مازالت تقدم مسارات الحوار على المجابهة العسكرية. حيث تم الإعلان مؤخرًا في 11 يناير الجاري عن استئناف الجولة الحادية والستين من المحادثات الاستطلاعية بين أثينا وأنقرة وإجرائها في 25 يناير بهدف تسوية النزاع حول التنقيب عن النفط والغاز. وبعد أربعة أيام من إعلان استئناف المحادثات الاستطلاعية، اتهمت انقرة أثينا بعدم التجاوب معها في المحادثات. وجاء الاتهام غداة لقاء وزير الخارجية اليوناني نيكوس دندياس نظيره الإيطالي لويجي دي مايو، الأربعاء الماضي، حيث ناقش الطرفان عدم رغبة إيطاليا في دعم العقوبات الأوروبية على تركيا.
- انتهاج سياسة نشطة في دائرة الخليج، حيث أجرى رئيس الوزراء اليوناني زيارة رسمية للسعودية في فبراير 2020، وزار وزير الخارجية السعودي اليونان في يناير من ذات العام، واستقبل الملك سلمان وزير الخارجية اليوناني في زيارته الرسمية للرياض ديسمبر 2019. وفي نوفمبر 2020 استقبل الشيخ محمد بن زايد رئيس وزراء اليونان، وذلك بعد زيارة وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد لأثينا في سبتمبر من ذات العام. وعبّرت جولات الزيارات المتبادلة بين اليونان والسعودية والإمارات تحديدًا عن رفع التنسيق والتعاون المشترك في القضايا التي تمس أمن الثلاثي، إذ تحدثت تقارير إعلامية عن تزويد اليونان للسعودية بصواريخ باتريوت في فبراير 2020، كما تثير التقارير الإعلامية اليونانية عن عزم الرياض إرسال طائرات “F 15” إلى قاعدة “سودا” العسكرية في جزيرة كريت اليونانية وذلك لإجراء تمارين عسكرية مشتركة في هذه المنطقة. فيما شاركت تسع طائرات إماراتية طراز F16، في إطار التدريبات والمناورات المشتركة في أغسطس 2020،
ما عزز من الطوق الاستراتيجي الذي تسعى اليونان لنسجه في المجال الحيوي التركي لتقويض النهج العدائي لأنقرة ورفع تكلفة تهديد اليونان التي لطالما لم يتوار الرئيس التركي عن تهديدها بـ “الخراب”. ولكن تطورات الأزمة القطرية قد تحول دون تحقيق آمال أثينا في إحكام الطوق حول تركيا بواسطة القوى الخليجية بعد التفاهمات التي هدأت من وتيرة الصراع بينها وبين تركيا وإن كانت مرحلية.
- تعزيز الصفقات العسكرية والتعاون الدفاعي، فقد أعلنت أثينا في سبتمبر 2020 عن برنامج تسليح شامل يعزز من القدرات الدفاعية للبلاد، حيث أكد رئيس الوزراء اليوناني على توافق الآراء بين اليونان وفرنسا، بشأن بيع أنظمة أسلحة فرنسية الصنع لليونان، وأعلن أن اليونان ستشتري من فرنسا 18 طائرة حربية فرنسية الصنع، من طراز رافال في غضون ستة أشهر.
وأضاف أن هناك برنامج تسليح لليونان لمدة 10 سنوات، يشمل تحديث القوة البحرية أيضًا باستقدام 4 فرقاطات جديدة من الجانب الألماني مع عدد من المروحيات البحرية، فضلًا عن تجنيد 15 ألف فرد في القوات المسلحة خلال الخمس سنوات المقبلة. وأكدت اليونان نزعتها للتحديث النوعي لسلاح الجو لديها بإعلان اعتزامها شراء 24 مقاتلة F35، من الولايات المتحدة، فيما عبرّت الأخيرة عن عدم معارضتها لرغبة اليونان في دوائر الخارجية والبنتاجون.
إلا أن المحطة الفارقة في مسار تعزيز الصفقات العسكرية، هي توقيع اليونان لاتفاق في مجال الدفاع مع إسرائيل في 5 يناير، وتنص بشكل خاص على إنشاء مدرسة طيران لسلاح الجو اليوناني من قبل شركة “إلبيت سيستمز” الإسرائيلية. وتشمل الصفقة الحصول على 10 طائرات تدريب متقدم من طراز M364. وتمتد الاتفاقية لمدة 20 عامًا وتبلغ قيمتها 1.8 مليار دولار. وتؤشر على رغبة اليونان في رفع كفاءة طياريها الذين باتوا منخرطين بشكل شبه يومي في مواجهات متلاحمة Dog Fight، مع الجانب التركي.
تداعيات تخليق اليونان لمنظومة ردع في شرق المتوسط
تضم الآن منطقة شرق المتوسط منظومتين للردع على قدر متابين من الفاعلية والقدرة، المنظومة الأولى تعود لمصر والتي نجحت في تخليقها مبكرًا منذ قدوم حاملتي المروحيات ميسترال والتغييرات التي حصلت جراء ذلك على المستوى التخطيطي والتدريبي للقوات المسلحة المصرية، وقد تناول المرصد المصري في إحدى ورقاته المنشورة منظومة الردع المصرية تفصيلًا.
أما المنظومة الثانية، فهي المنظومة اليونانية –قيد الإنشاء– ويبدو أنها تسير في ركب تعظيم قدرات سلاحي الجو والبحرية بشكل يقلل من فاعلية منظومة الدفاع الصاروخية الروسية إس 400 التي تمتلكها تركيا وإن كانت غير قادرة على تشغيلها إداريًا أو سياسيًا. ففي حال نجاح اليونان في وضع منظومة الردع لديها أمام الطموحات التركية، فإن ذلك من شأنه أن يدفع على المدى القريب انتزاع اليونان دور تركيا كقوة جوية رائدة لحلف شمال الأطلسي في شرق البحر المتوسط، ولاسيما أن المقاتلات الشبحية F35، ركيزة أساسية في مخططات الحلف لردع “العدوان الروسي” فضلًا عن تدعيم الحصن الجنوبي لحلف الناتو.
وقد تتطلع الولايات المتحدة لمحاولة شغل القاعدة الجوية في جزيرة كريت لتزاحم المهام الوظيفية لقاعدة انجرليك التركية التي لا يبدو أن الولايات المتحدة قد تنسحب منها في ظل إدارة بايدن؛ كي لا تمنح الروس انتصارًا بلا حرب في واحدة من أهم إحداثيات المواجهة بين الروس والكتلة الغربية.



