آسياروسيا

الطريق من أوكرانيا إلى كازاخستان.. نموذج الحرب الباردة في القرن الواحد والعشرين

في العام 2014 بدأ يتسرب إلى الميدان السوري مئات من المقاتلين الشيشان والكازاخ والإيجور، القادمين من آسيا الوسطى وجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق. تراكمت عملية تسرب المقاتلين تدريجيًا حتى وصل الأمر بتشكيل جماعات مسلحة بأكملها شيشانية وأخرى صينية المنشأ “الحزب الإسلامي التركستاني” وأخيرة من أوزباكستان “كتيبة الإمام البخاري” التي تعد أول كتيبة مقاتلة أوزبكية، كما تصنفها الولايات المتحدة كمنظمة إرهابية.

اجتمعت هذه الجماعات المسلحة على قواسم مشتركة ليس فقط في ملامح الوجه الآسيوي وسمات الجسد المنغولي، وإنما في الشراسة والدموية في القتال. حيث غدت الجماعات المسلحة النشطة في سوريا والقادمة من جمهوريات الاتحاد السوفيتي من أشرس ما شهد الميدان السوري. لدرجة أن العناصر الانغماسية “العناصر التي تنفذ الاقتحامات” في تنظيمات داعش والقاعدة، أصبحت حكرًا على المقاتلين القادمين من آسيا الوسطى، بجانب أن وزير الحرب في تنظيم داعش كان شخصية قوقازية، وهو “أبو عمر الشيشاني”.

وتجدر الإشارة إلى المكون القوقازي ضمن هذا اللفيف القادم من آسيا الوسطى. إذ كان بمثابة شبح الرعب الجديد بالنسبة لموسكو، ويكفي أن نسلط الضوء على أدوار جماعتي جند الشام وأجناد القوقاز في السيطرة على إدلب في العام 2015، والتحول التدريجي لتثبيت السيطرة على أجزاء من الساحل السوري، لتصبح أول جماعة مسلحة تشرف على شواطئ تطل على البحر المتوسط. 

وعلى قدر خطورة الوضع، جاء التدخل العسكري الروسي في الحرب السورية في سبتمبر من العام 2015 بهدف علني وهو مساندة الحكومة السورية في حربها على الإرهاب وبناءً على طلب من دمشق. إلا أن الهدف الحقيقي للحملة الروسية في سوريا تمحور في: تصفية أكبر عدد ممكن من العناصر القوقازية وتلك القادمة من آسيا الوسطى ومنعها من العودة لمواطنها في آسيا الوسطى وتهديد البطن الرخوة الروسية مرة أخرى. أي منع إعادة تدوير الأجيال الجديدة من الإرهاب لاستنساخ تجربة مشابهة لحرب الشيشان الأولى والثانية على أقصى تقدير، ومنع تسرب “الثورات الملونة” لآسيا الوسطى (المنطقة الرخوة لروسيا). لكن محصلة الجهود الاستراتيجية في هذا الصدد اصطدمت بجدار أمريكي حديدي في سوريا، ووصول أمريكي سهل لكازاخستان.

فما علاقة ما سبق بالأحداث التي شهدتها كازاخستان أول أسبوع في العام 2022، وكيف يبدو مستقبل منطقة آسيا الوسطى في ضوء تحليل أنماط الحراك الشعبي في كازاخستان والاستجابة السريعة من منظمة معاهدة الأمن الجماعي؟

كازاخستان.. رقعة مهمة في التنافس الجيوسياسي للقوى التقليدية مع الغرب

يصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين انهيار الاتحاد السوفيتي بأنه أكبر كارثة في القرن العشرين، وعدّ هذا الانهيار بنهاية روسيا التاريخية. يعكس هذا الوصف جزءًا من ذهنية الرئيس الروسي حيال طبيعة المنظومة الأمنية لدى الدائرة الإقليمية الأقرب لروسيا المعاصرة، وهي دائرة آسيا الوسطى التي تضم (طاجيكستان – أوزباكستان – قيرغيزستان – تركمانستان – كازاخستان). وتُعرف هذه الدول بـ “الستانات الخمس”. وهي ذهنية ترى روسيا وريثة حقوق والتزامات الاتحاد السوفيتي، وهو ما اتضح في مقترح الرئيس الروسي للتعديلات الدستورية. حيث جاء في نص التعديلات المقترحة خلال مطلع العام 2020: “تعتبر روسيا خليفًا قانونيًا للاتحاد السوفيتي على أراضيها وفي المنظمات الدولية، وعليها التزامات الاتحاد السوفيتي ولها أصوله المنصوص عليها في المعاهدات الدولية”.

لا يستغرق الأمر ثوانِ عند النظر إلى خريطة آسيا الوسطى؛ حتى تلفت كازاخستان النظر بتوسطها جغرافيًا بين روسيا وكتلة الصين – الهند. علاوة على مساحتها الشاسعة والبالغة 2.725 مليون كم2. هذه المساحة الكبيرة تجيء مع سمات لكازاخستان أكثر أهمية، كالآتي:

  • أكبر دولة إسلامية على الإطلاق –مساحةً-.
  • أطول حدود برية في العالم مع روسيا بإجمالي طول 7600 كم.
  • تستحوذ على 60% من الإنتاج المحلي لآسيا الوسطى.
  • الثانية عالميًا من حيث حجم احتياطي اليورانيوم والكروم والرصاص والزنك.
  • المرتبة الحادية عشر عالميًا من حيث احتياطي النفط، ولديها احتياطات مؤكدة من الغاز تصل إلى 80 تريليون قدم مكعب.
  • تضم أكبر أقلية عرقية روسية –حيث يشكل الروس 20% من السكان-، وتضم 131 عرقية يمثل الكازاخ منهم 60% من السكان.

على قدر هذه السمات الشخصية لكازاخستان، إلا أن أهمها يندرج تحت بند “سياسات الدمج العرقي”، التي نفذها ستالين حين كان قائمًا على شؤون القوميات والعرقيات، حيث حرص على التأكد من كون كل جمهورية عرقية تحتوي على أقلية عرقية متنافرة معها، وبدأ في ضخ مزيج من العرقيات في كل دولة على حدة، وكانت كازاخستان واحدة من أكبر جرعات هذا الضخ غير المتجانس بكثير من الروس والأوكرانيين والبيلاروس بسبب ما أُطلِق عليه حملة الأراضي العذراء التي أطلقها الاتحاد السوفيتي لإنهاء المجاعة. 

نتيجة هذا الضخ غير المتجانس، تسببت سياسات الاتحاد السوفيتي في استمرار صراعات عرقية طاحنة كتلك التي شهدها العالم 2020-2021، بين أرمينيا وأذربيجان في إقليم قرة باغ، وتسببت أيضًا في وصول نسبة السكان من أصل روسي في كازاخستان إلى أكثر من 50% في العام 1991، لكنها تقلصت تدريجيًا حتى وصلت الآن إلى 20% فقط.

كازاخستان.. لبنة أساسية في التكتلات الأمنية والاقتصادية الروسية

أضفت هذه السمات خصوصية نوعية لكازاخستان بالنسبة إلى خطط روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي؛ في بناء طوق عازل في خاصرتها الرخوة يحول دون تغلغل غربي سياسي وثقافي يقف تمامًا أمام حدود روسيا. وهذا الطوق العازل عصبه الحقيقي كيانات تكاملية اقتصادية بالمقام الأول، ومن ثم يأتي التكامل الأمني.

 كانت كازاخستان أولى الدول المنضمة إلى معاهدة الأمن الجماعي عام 1992. وكانت كذلك اللبنة الأولى التي وضعتها موسكو في تدشين الفضاء الاقتصادي الأوراسي ومن ثم الاتحاد الجمركي مع بيلاروسيا، عام 2000. وللمفارقة استمرت كازاخستان كعضو في هذه التكتلات الأمنية والاقتصادية منذ العام 1992، في وقت انتقلت فيه أوزباكستان بين تكتلات أمنية واقتصادية أسست بتخطيط من واشنطن وموسكو. حيث انسحبت –أول مرة- من اتفاقية الامن الجماعي 1999، وانضمت إلى منظمة تشكلت بتخطيط من واشنطن تُسمّى “غوام”. 

البناء التدريجي للطوق العازل لروسيا، لم يكن ليشمل الدائرة الأوسع لآسيا الوسطى “أوراسيا”، بل واجه مجالًا مقاومًا في مصفوفة “أوكرانيا – أذربيجان – تركمانستان – أوزباكستان – جورجيا”. والأجدر القول إنه خلال العقدين الماضيين تعاظمت أدوار دول هذه المصفوفة لدي مخططي الاستراتيجية في الناتو والولايات المتحدة الرامية إلى تقويض النفوذ الروسي، بنفس درجة تعاظم أدوار كازاخستان وطاجيكستان لدى روسيا، كجبهة متقدمة لمواجهة الولايات المتحدة والناتو في أفغانستان والبلطيق. فمثلًا، لدى روسيا قواعد عسكرية في كازاخستان تحمل مهام الدفاع الاستراتيجي بما في ذلك محطات للإنذار المبكر وقواعد مخصصة لأغراض استخبارات الفضاء، ونقاط للدفاع الجوي الإقليمي الموحد مع كازاخستان. 

هذه الأهمية الكبيرة لكازاخستان، دفعت بعلاقات أكثر استقرارًا مع روسيا وهو ما طبقه الرئيس الكازاخي الأسبق نور سلطان نزارباييف الذي حكم منذ 1990 حتى عام 2019. وبالرغم من ذلك وازن علاقته بالولايات المتحدة، التي تعد أكبر مستثمر أجنبي في البلاد، والمستثمر الأول كذلك في قطاع النفط، لدرجة أن نزارباييف أعلنها صراحةً خلال مقابلة في ملتقى دافوس 2014، إن لدى كازاخستان ثلاثة جيران كبار، الصين وروسيا والولايات المتحدة كجار افتراضي. 

فتيل الحراك الشعبي المناهض للحكومة الكازاخية

على قدر غنى كازاخستان بالثروات الطبيعية واتساع مساحتها الجغرافية، ولعبها سياسة متوازنة إلى حد ما في علاقتها الخارجية مع الصين وروسيا والولايات المتحدة، إلا أن الأوضاع الاقتصادية في البلد الغني بالثروات تلامس مستوى الركود. فمستوى دخل الفرد شهريا لا يتخطى حاجز 600 دولار على الرغم من تعداد سكانها القليل 18.8 مليون نسمة.  علاوة على انتشار الفساد وانعدام العدالة في توزيع الثروات واستئثار النخبة السياسية ورجال الأعمال بعملية توزيع الاستثمارات والمداخيل القومية داخل أوليجارشية ضيقة تدين بالولاء إلى حاكم كازاخستان الفعلي “نزارباييف”. 

وبات إرث الاستقرار الذي عانق كازاخستان طوال ثلاثة عقود في مهب الريح مع قرار الحكومة رفع رسوم غاز البترول المسال، مطلع الشهر الجاري، ما تسبب في خروج مظاهرات عارمة في أهم مدن البلاد بدأت في منطقة “مانغستاو” في الغرب. وسرعان ما تحولت إلى موجة صدام عنيف مع قوات الأمن أدت إلى سيطرة لافتة وسريعة للمتظاهرين على مبانٍ حكومية رئيسية وأكبر مدينة في البلاد “ألماتي” والمطار الرئيسي في أقل من ثلاثة أيام على بدء الاحتجاجات، مما اضطر رئيس البلاد الحالي “قاسم توكاييف” إلى إعلان أن البلاد تتعرض لهجوم إرهابي من عناصر وكيانات خارجية مدربة بمستوى عالٍ. 

وعلى الرغم من أن الحكومة الكازاخية لم تقدم حتى الآن دليلًا حول “العناصر الخارجية” التي قادت الحراك الشعبي إلا أن مستوى التنسيق بين المتظاهرين بالرغم من قطع الاتصالات مازال محيرًا، فقد تحولت مجموعات من المتظاهرين في عدة مناطق حدودية إلى ما يشبه مجموعات قتالية لديها مهارة القتال المنسق، واستخدام السلاح، واقتحام مراكز الشرطة، وحصار القوات الأمنية ولاسيما قوات الجيش. 

استجابة فورية من منظمة معاهدة الأمن الجماعي.. ولكنها استثنائية

بدأت روسيا في إرسال قواتها إلى كازاخستان بناءً على طلب من رئيس الأخيرة؛ في 5 من الشهر الجاري وذلك ضمن إطار منظمة معاهدة الأمن الجماعي. وللمفارقة أن عملية إرسال القوات تلك كانت أسرع استجابة لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي منذ تأسيسها ويتضح ذلك إذا ما قورنت باستجابات أخرى بطيئة وأخرى منعدمة كتلك التي حدثت حين اندلعت ثورة شعبية في قيرغيزستان في أبريل 2010، حيث أرسل رئيس الدول آنذاك “كرمان بك باكييف” طلبًا عبر ألكسندر لوكاشينكو لإرسال قوات منظمة الأمن الجماعي ولكن الاحتجاجات قضت على باكييف قبل البت في وصول إمدادات من المنظمة. 

وتكررت الاستجابة البطيئة حينما اندلعت اشتباكات بين قيرغيزستان وأوزباكستان، حيث رفضت روسيا في النهاية إرسال أية قوات لفض الاشتباك معللة ذلك بميثاق معاهدة الأمن بأن يتم التحرك عسكريًا فور انتهاك حدود أي دولة من كيان خارجي. 

وعلى الرغم من عدم ثبوت أدلة توضح انتهاك حدود كازاخستان من كيانات خارجية؛ إلا أن روسيا تحركت في ظرف ساعات ودشنت جسرًا جويًا ينقل تشكيلات من قوات المظلات، يعمل على:

  • تعزيز الحماية على الأصول العسكرية الروسية في كازاخستان.
  • حماية المنشآت المدنية والعسكرية الحساسة لكازاخستان.

بينما نجحت روسيا ضمنيًا في تهدئة الأوضاع الأمنية، إلا أنها أثبتت فشلها استخباراتيًا في استقراء مشهد التصعيد، على نحو أدى إلى سقوط أكثر من 200 قتيل من المتظاهرين وعشرات من القوات الأمنية الكازاخية الذين قُتل عدد منهم ذبحًا في عدة مناطق نائية. 

مقايضة الحرب الباردة.. أوكرانيا مقابل كازاخستان

يسيطر على فكر الكرملين الاستراتيجي التوجه نحو اتحاد وتكامل أوراسيا التي تحوي بين دولها ثلاثة أرباع مخزون الطاقة في العالم، وتضم الصين والهند بجانب روسيا، وهو ما يعبر عنه “عراب بوتين” ألكسندر دوغين صاحب أطروحات النظرية السياسية الرابعة المتمثلة في أوراسيا ككتلة واحدة تٌدار من خلال هيمنة روسية.

وعلى الرغم من ضعف إمكانات روسيا اقتصاديًا وعلى صعيد القوة الناعمة إلا أن الكرملين بدا وكأنه يسير ناحية هذا الاتجاه منذ بداية الحرب الجورجية في 2008. ويدعم ذلك مؤشرات الشراكة الاستراتيجية مع كل من الصين والهند، ودول آسيا الوسطى كلِ على حدة. 

وتمثل أوكرانيا أهم قطعة في الفضاء الأوراسي المنشود. فهي كما قال مستشار الامن القومي الأمريكي في عهد كارتر، أنه من دون أوكرانيا لا يعود بإمكان روسيا أن تصبح إمبراطورية أوراسية، ثم حذر إذا استعادت روسيا موسكو السيطرة على أوكرانيا والوصول إلى منفذ على البحر الأسود فإن روسيا ستمتلك مجددًا وبشكل أوتوماتيكي الأسباب التي تحولها إلى إمبراطورية أوراسية ممتدة. ولهذا يمكن فهم الاستماتة الروسية حول منع أوكرانيا من دخولها مظلة حلف الناتو، وذلك من خلال نظام “هوبيسي” نسبة إلى الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبيس، وهو نظام يقوم على الاضطرابات والاستعداد إلى اقتناص الفرص الناجمة عن تأليب الأوضاع أمنيًا.

على الرغم من صعوبة إثبات وجود كيانات خارجية إرهابية قادت الاحتجاجات الدموية في عدة نقاط متطرفة من الجغرافية الكازاخية وتبعد كل البعد عن مركز الحكم، إلا أن أسلوب تحرك مشاهد الفوضى يشي بوجود عمل دؤوب من قِبل المعارضة الكازاخية التي عملت ضمن نظام سياسي قمعي بالدرجة الأولى من دون أن يتم إحباط التحرك قبل بدايته؛ علاوة على وصول مستوى التحشيد العسكري الروسي حول أوكرانيا من سبع جبهات إلى أعلى مستوى له منذ انقضاء عصر الحرب الباردة، وتعثر المحادثات الروسية مع كل من الولايات المتحدة والناتو؛ فإن مثول مقايضة كازاخستان –أحد قلاع موسكو في آسيا الوسطى– مقابل أوكرانيا يشي بحوار أمريكي روسي ساخن تتضافر فيه أدوات الدبلوماسية والاستخبارات في آن واحد، بما يجسد حالة من صراعات الحرب الباردة للقرن الواحد والعشرين.

تداعيات مقايضة كازاخستان – أوكرانيا:

ثمة تداعيات (محتملة) يمكن تحديدها جراء مثول مقايضة كازاخستان أوكرانيا كمعادلة جديدة للصراع، أبرزها:

  • حدوث طفرة في المشاعر المعادية للأقلية الروسية في كازاخستان: تمثل العرقية الروسية في كازاخستان ما نسبته 20% من إجمالي السكان، وبالنظر على سلوك المتظاهرين يتضح جليًا استهدافهم لشركات وكيانات تعود للعرقية الروسية، علاوة على تبوء هذه العرقية عدة مناصب مدنية وعسكرية، فضلًا عن دور روسيا المساند في قمع الاحتجاجات وتثبيت الوضع أمنيًا، إذا ما أخذنا في الاعتبار أن غالبية من شارك في المظاهرات هم من شريحة الشباب (generation Z) الأكثر تأثرًا بالأدوات الثقافية للعولمة والأكثر ميلًا عن المزاج القومي. 
  • انتقال الاحتجاجات لدول الاستانات الخمس (عودة شبح الثورات الملونة): لعل القاسم المشترك لدول آسيا الوسطى يتمثل في الأوضاع الاقتصادية المترديّة وانتشار الفساد وانعدام للعدالة الاجتماعية في وسط مزيج عرقي متنافر صُنع بواسطة مخططي الاتحاد السوفيتي. بيد أن الثورات الملونة كانت الأساس الذي انطلقت منه الاستجابة العسكرية الروسية في الحرب السورية.
  • تعزيز نقاط الدرع الصاروخية الأمريكية في وسط أوروبا: وذلك لمواجهة التفوق الصيني والروسي في مجال الصواريخ الباليستية، حيث لا يمكن اعتراض الصواريخ الفرط صوتية بمنظومات الدرع الصاروخية الحالية. وعملًا بمبدأ نظام “هوبيس” قد تقدم الولايات المتحدة على نشر مزيد من نقاط الإطلاق الصاروخي وخاصةً في منطقة وسط أوروبا غير الخاضعة حاليًا للحسابات الصفرية بين واشنطن وموسكو.
  • إعاقة بناء التكامل الاقتصادي لروسيا في أوراسيا: 

حيث أثبت العقدان الماضيان أن تحركات موسكو ترتبط بمدى متانة منظومات التكامل الاقتصادي بينها وبين دول آسيا الوسطى، فلا عجب أن تسعى موسكو إلى إشراك دول منظمة معاهدة الأمن الجماعي في العمليات الحربية في سوريا، بصفتها – أي منظمة معاهدة الأمن الجماعي – كقوة عسكرية دولية مؤهلة للدخول في النزاعات الدولية. وما كان لموسكو أن تسعى إلى ذلك سعيًا حثيثًا لولًا تحقيقها نوعًا من التكامل مع دول آسيا الوسطى، على الرغم من رفض قيرغيزستان وكازاخستان لهذه الدعوة. ويقوم البناء التكاملي في أوراسيا على شرايين من خطوط الغاز والنفط التي تمر معظمها عبر الأجزاء الغربية لكازاخستان، وللمفارقة كانت تلك المناطق الغربية لكازاخستان هي مهد الحراك الاحتجاجي الأخير. 

  • العودة إلى معادلة رفع احتمالات التصعيد العسكري لفرض واقع جيوسياسي جديد في أوكرانيا: يُنظر إلى التحشيد الروسي الأخير والمستمر حول أوكرانيا من سبعة جبهات إلى كونه محاولة روسية لابتزاز الكتلة الغربية برفع احتمالات المواجهة العسكرية المباشرة لفرض مجموعة من الطلبات الأمنية تحقق واقعًا جيوسياسيًا جديدًا يخدم التطلعات الروسية، وهو نفس النهج الذي اتبعته تركيا في شرق المتوسط وانتهى بها المطاف إلى عزلة سياسية وواقع اقتصادي يتداعى من دون هوادة. ويعزز ذلك الاحتمال أصداء الضربة القوية التي تلقتها موسكو في كازاخستان.

ختامًا، ارتفعت تكلفة الحرب المباشرة على الرغم من صعود معدلات التعبير عن القوة واستخدامها داخل النطاقات الإقليمية في النظام الدولي، إلا أن مسألة المواجهة العسكرية المباشرة بين القوى العظمى ووكلائها تبدو باهظة على نحو لا يمكن معه تصور تكلفتها بدقة. وهو ما يتسق مع ما طرحه فرانك هوفمان في كتابه “النزاعات في القرن الواحد والعشرين.. صعود الحرب الهجينة”. ما يصبغ حركة كل من (الولايات المتحدة – الصين – روسيا – إيران –تركيا – الناتو) بالعشوائية داخل فلك إقليمي بات ضيقًا على الرغم من اتساعه “أوراسيا”، ليتصدر سؤال رئيسي واجهة التحليلات، إلى أي مدى من الممكن أن تصمد البنية الأمنية للنظام الدولي وسط هذه التحركات الفوضوية لهذه المصفوفة من القوى التي تخلت عن ثوب الصراع الأيديولوجي لتنتقل إلى مستوى الصراع الحضاري؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى