اعتبارات حاكمة.. ماذا تحمل الزيارة الأولى للرئيس القبرصي للقاهرة؟
عززت مصر وقبرص علاقاتهما بصورة ملحوظة خلال السنوات الماضية؛ فلم يقتصر التعاون والتنسيق بينهما على تطوير العلاقات الثنائية والارتقاء بها فحسب، بل امتد ليشمل التنسيق في كافة القضايا الإقليمية والدولية التي يمكن أن تؤثر على الأمن القومي للطرفين، بحيث تشكلت العلاقة بينهما بوصفها شراكة استراتيجية متعددة الأبعاد.
وتأتي زيارة الرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليديس إلى القاهرة يومي 5 و6 أبريل 2023 لتؤكد على عمق العلاقة بين القاهرة ونيقوسيا، خاصة وأن هذه الزيارة تعد الأولى لرئيس قبرص خارج أوروبا منذ توليه السلطة في البلاد، وكان الرئيس القبرصي قد أكد سعي بلاده إلى تعزيز العلاقات مع مصر في مجالات الطاقة والسياحة والدفاع.
ركائز عدّة
تحمل زيارة رئيس قبرص إلى القاهرة عددًا من الدلالات التي ترتبط بالتوقيت والسياق العام المُصاحب لها، في ظل التطورات التي يشهدها العالم والإقليم والتي تقتضي مناقشتها بين البلدين، من هنا يمكن الوقوف على جملة من الاعتبارات الحاكمة للزيارة، وذلك على النحو التالي:
أولًا) مركزية الدور المصري بالنسبة لقبرص: تشير الزيارة التي يقوم بها رئيس قبرص والوفد المُكون من وزراء الخارجية والطاقة والتجارة إلى إدراك قبرص لأهمية الدور المحوري لمصر في قضايا الإقليم وتفاعلاته، فدائمًا ما تحمل الزيارات الخارجية الأولى للرؤساء أو الزعماء الجدد دلالة حول أهمية ومكانة الدول التي سيتوجه إليها في أجندة السياسة الخارجية لبلاده.
وعليه تأتي زيارة “نيكوس خريستودوليديس” الذي تولى مقاليد السلطة في قبرص نهاية فبراير الماضي لتدل على ما تتمتع به مصر من مكانة لدى صانع القرار في قبرص، خاصة وأن زيارته للقاهرة تعتبر الأولى له خارج أوروبا، إذ لم يقم بأية زيارات خارجية منذ وصوله للحكم إلا إلى اليونان؛ الأمر الذي يؤكد أن الرئيس الجديد يؤمن بجدوى التعاون الثلاثي بين مصر وقبرص واليونان ويضعه في سلم أولوياته خلال فترة رئاسته، ويؤكد حرصه على مواصلة تعزيز العلاقات بين الأطراف الثلاثة، خاصة وأن القاهرة تُعد بمثابة “حارس الاستقرار” في منطقة شرق المتوسط، وصاحبة اليد الطولى في المنطقة في إطار دورها المحوري في قيادة التفاعلات القائمة خلال السنوات الماضية، سواء من خلال العلاقات الثنائية بين دول المنطقة أو الجماعية عبر منظمة غاز شرق المتوسط.
ثانيًا) الحرص على دورية التشاور، تؤكد الزيارة على النهج الثابت في العلاقة بين الطرفين خلال السنوات الماضية، والتي اتسمت بقدر كبير من المرونة والتنسيق الكامل وتطابق الرؤى في قضايا الاشتباك والتحديات التي تواجه العالم والإقليم بشكل خاصة. ولعل كثافة الزيارات المتبادلة بين الطرفين والحرص على دورية التشاور تدل على حدود التكامل والتفاهم بينهما؛ فمنذ عام 2014 برزت الزيارات المتبادلة كأحد ملامح عمق العلاقة بين مصر وقبرص، فلعبت القيادة السياسية في مصر دورًا بارزًا في توسيع دائرة السياسة الخارجية المصرية تجاه دول شرق المتوسط وفي القلب منها قبرص، إذ كانت زيارة الرئيس “عبدالفتاح السيسي” عام 2017 أول زيارة رسمية لرئيس مصر إلى قبرص, من ناحية أخرى قام رئيس قبرص السابق “نيكوس أناستاسيادس” بأول زيارة لرئيس أوروبي لمصر في ديسمبر 2013، وقد حملت تلك الزيارة أهمية كبيرة في وقت كانت أغلب الدول الأوروبية تشكك في ثورة 30 يونيو.
ومنذ ذلك، حرص رئيس قبرص على زيارة مصر بشكل دائم وصولًا إلى الزيارة الخامسة في سبتمبر 2021، من ناحية أخرى زار الرئيس عبد الفتاح السيسي قبرص 3 مرات آخرها في أكتوبر 2020. وعليه يمكن ملاحظة أن مثل هذه الزيارات تتم بشكل دوري؛ إذ شهدت الأعوام من 2014 وحتى الآن نحو 9 زيارات متبادلة على المستوى الرئاسي، بخلاف الزيارات على المستوى الوزاري، والاجتماعات واللقاءات التي تعقد في إطار آلية التعاون الثلاثي.
ثالثًا) تعزيز الشراكة والتكامل، تتسم العلاقة بين مصر وقبرص بالتكامل والتطابق في الرؤى الإقليمية، الأمر الذي انعكس على مواقفهما في السنوات الماضية، سواء من خلال التحركات الثنائية أو متعددة الأطراف. فعلى صعيد العلاقات الثنائية، كان اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين البلدين مدخلًا لتعزيز وتطوير التعاون في مجال الطاقة وتحفيز التنقيب واكتشاف الغاز في المناطق التي شملها الاتفاق، فضلًا عن التعاون في مجالات أخرى مثل: التعليم، والثقافة، والزراعة والتنمية الريفية، والبيئة.
وتطورت العلاقات الاقتصادية وحجم التبادل التجاري والاستثمار بين البلدين بصورة كبيرة خلال السنوات الماضية، فبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين نحو 66 مليون دولار، منها 42 مليون دولار صادرات مصرية، و24 مليون دولار واردات، وفقًا لتصريحات وزيرة التجارة والصناعة المصرية في مارس2022. بلغت الاستثمارات القبرصية في مصر 358 مليون دولار بإجمالي مشاريع 191 مشروعًا.
من ناحية أخرى، كانت آلية التعاون الثلاثي بين مصر وقبرص واليونان والتي عقدت لأول مرة عام 2014 أحد الأشكال المتطورة لتعزيز التعاون بين البلدين. وقد نجم عنها عقد نحو 9 قمم، آخرها في أكتوبر 2021. وقد اتخذت هذه الاجتماعات نمطًا وشكلًا أقرب للطابع المؤسسي، ولعل تصريحات الرئيس القبرصي قبل الزيارة في لقاء مع قناة القاهرة الإخبارية بشأن المضي قدمًا في إنشاء الأمانة العامة للآلية الثلاثية يدل على رغبة الأطراف في الارتقاء بتلك الآلية خلال الفترات القادمة.
ولا ينفصل عن ذلك أن الطرفين من بين الأعضاء المؤسسين لمنتدى غاز شرق المتوسط، فضلًا عن عضويتهما في منتدى الصداقة الذي تم تدشينه في أثينا في فبراير 2021، ما يشير إلى إيمان الطرفين بجدوى التحركات الجماعية ودورها في تنسيق الجهود؛ بهدف مضاعفة التأثير وتعزيز المصالح المشتركة.
وعلى صعيد التعاون العسكري، عزز الطرفان تعاونهما من خلال عقد تدريبات ومناورات عسكرية مشتركة، على غرار المناورة “ميدوزا” والتي بدأت عام 2015، وصولًا إلى النسخة الثانية عشرة والتي عقدت في نوفمبر 2022. يضاف إلى ذلك التنسيق المستمر بين وزراء دفاع البلدين في قضايا الأمن والدفاع بهدف تنسيق الجهود لمكافحة التهديدات التي قد تؤثر على الأمن القومي للبلدين.
رابعًا) التأكيد على الثوابت المشتركة في شرق المتوسط: تنبع أهمية الزيارة من الحراك الإقليمي المتصاعد مؤخرًا وفي القلب منه التقارب المصري التركي، والذي دخل مرحلة متطورة في أعقاب زيارة وزير خارجية تركيا إلى القاهرة في مارس الماضي. من هنا قد تشير الزيارة إلى رغبة الجانب القبرصي في التأكد من التزام مصر الثابت تجاه التفاعلات القائمة في شرق المتوسط، الأمر الذي تؤكده مصر دومًا؛ إذ ترى القاهرة أن أي تقارب مع تركيا لن يكون على حساب العلاقة الثلاثية التي تجمع مصر وقبرص واليونان في شرق المتوسط، وهو موقف ثابت منذ 2014؛ فالتفاعلات المصرية تنطلق من خلال احترام مبادئ القانون الدولي للبحار. وعليه قد تبعث الزيارة مزيدًا من الطمأنة إلى قبرص وذلك من خلال التأكيد المصري المستمر على أن مسار العلاقات المصرية التركية لن يتقاطع مع طبيعة العلاقة التكاملية والاستراتيجية بين القاهرة ونيقوسيا.
خامسًا) تعزيز التعاون في مجالات الطاقة: تأتي الزيارة في أعقاب انتهاء رئاسة قبرص لمنتدى غاز شرق المتوسط عام 2022، حيث شهد الاجتماع الوزاري الثامن لأعضاء المنتدى في ديسمبر الماضي نقل وتسلم مصر رئاسة الدورة خلال 2023. وعليه قد تكون الزيارة مناسبة لبحث ما أُنجر خلال العام الماضي من رئاسة قبرص وما هو مخطط له في الدورة الحالية؛ وذلك في إطار أهمية قطاع الطاقة وخاصة الغاز الطبيعي في العلاقة بين الطرفين، كونه محور التعاون بينهما، ويعد العمود الفقري في العلاقة خلال السنوات الماضية، فالبلدان من الدول المنتجة للغاز الطبيعي في شرق المتوسط، علاوة على أنهما من الأعضاء المؤسسين لمنتدى غاز شرق المتوسط.
هذه العوامل تدفع البلدين إلى تعزيز التعاون بينهما؛ بهدف تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب، وهو ما ترجمه الاتفاق الموقع بين مصر وقبرص في 2018 والذي يقضي بنقل الغاز الطبيعي من حقل أفروديت القبرصي لمنشآت الإسالة في مصر لتسييله ومن ثم نقله لأوروبا، علاوة على مشروع الربط الكهربائي بين الطرفين والذي يعمل على استغلال فائض الكهرباء لدى مصر بهدف نقله لقبرص ثم اليونان ومنها لأوروبا، وذلك من خلال خط بحري يصل طوله إلى 1.396 كيلوا مترًا.
ويرجح أن يشهد عام 2023 دخول المرحلة الأولى من الخط بين مصر وقبرص مرحلة التشغيل، على أن يكتمل القسم الآخر الواصل بين قبرص واليونان عام 2024؛ ما يصب في رؤية مصر الاستراتيجية في التحول إلى مركز إقليمي للطاقة، إذ تبلغ السعة الإنتاجية لمصر من الكهرباء نحو 58 ألف ميجاوات يوميًا، في حيث تستهلك نحو 33 ألف ميجاوات، ما يعني وجود فائض يصل إلى 25 ألف ميجاوت يسمح بالتصدير.
سادسًا) التعاطي مع ترتيبات الحرب الأوكرانية: ضاعفت التطورات العالمية المرتبطة بالغاز الطبيعي -خاصة في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية ومساعي أوروبا للحد من الاعتماد على الغاز الطبيعي الروسي- من قيمة وأهمية منتدى غاز شرق المتوسط؛ إذ باتت أوروبا تنظر إلى المنطقة بوصفها أحد البدائل المستقبلية التي يمكن أن تساعد في نجاح استراتيجيتها الرامية إلى استبدال الغاز الروسي.
وعليه، يرجح أن تجني الدول الأعضاء في منتدى غاز شرق المتوسط -خاصة مصر وإسرائيل وقبرص- ثمارًا اقتصادية وسياسية واستراتيجية كبيرة خلال السنوات المقبلة، الأمر الذي يستدعي معه تحييد الخلافات شرق المتوسط والتغلب عليها، والعمل على ضخ مزيد من الاستثمارات بهدف تحقيق مزيد من الاكتشافات، في ظل ما تتمتع به المنطقة من احتياطات كبيرة لم تكتشف بعد.
الأمر الذي قد يرفع أسهم الدول المنتجة للغاز دخل المنظمة في معادلة وميزان الطاقة عالميًا. ولعل توجه مصر الراهن نحو زيادة معدلات التصدير خلال 2023 يدل على رغبة مصر في الدخول بقوة ضمن نادي الدول المصدر للغاز الطبيعي بعدما نجحت في تحقيق عائدات تقدر بنحو 8.4 مليارات دولار خلال 2022، مقارنة بــ 3.5 مليارات دولار 2021
في الأخير، تنظر مصر إلى منطقة شرق المتوسط كأحد دوائر سياستها الخارجية الحيوية؛ لاعتبارات تتعلق بالمصلحة الوطنية للدولة وأمنها القومي. وعليه، تعمل مصر على تنسيق كافة الجهود والترتيبات مع دول المنطقة بما يؤمّن لها مصالحها. في الوقت ذاته، تعول قبرص على قدرة مصر على إدارة التفاعلات في شرق المتوسط بصورة تضمن تحقيق أكبر قدر من المكاسب للجميع. وفي هذا الإطار تحرص دومًا على التواصل مع القاهرة سواء عبر اللقاءات الثنائية أو في إطار منتدى غاز شرق المتوسط أو عبر آلية التعاون الثلاثي. ورغم التعاون المتزايد بين الطرفين في السنوات الماضية، فإن الزيارة الأولى لرئيس قبرص الجديد لمصر تحمل دلالات على أن مصر تحتل مكانة بارزة ومحورية لدى صانع القرار في قبرص.