
القتل السهل.. كيف غيّرت “الدرونز” من تكتيكات الحروب الحديثة؟
حين أقلعت القاذفة الأمريكية الشبحية (F 117 nighthawk) من قاعدة أفيانو بشمال إيطاليا في 27 مارس 1999، وكانت في طريقها لقصف أهداف حيوية في العاصمة الصربية “بلجراد” ضمن مهمة لقوات الناتو؛ فوجئ قائد القاذفة الأمريكية الملازم طيار “ديل زيلكو” بصاروخ ينفجر على بُعد أقدام من الجانب الأيمن للقاذفة، مما أحدث بها أضرارًا جسيمة. ليقرر الطيار حينها القفز من القاذفة، ولتسقط أحدث قاذفة شبحية لدى الولايات المتحدة بواسطة أنظمة دفاعية جوية سوفيتية كانت على وشك الخروج من الخدمة.
مثلت هذه الحادثة نقطة تحول في عقيدة سلاح الجو الأمريكي حيال تعامله في مهام القصف الجراحي الدقيق. وجاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، لتُسرّع من وتيرة هذا التحول باتجاه الاعتماد على الأنظمة القتالية غير المأهولة (Unmanned systems)، لتحقيق معادلة الكفاءة القتالية العالية مع تكلفة تشغيلية منخفضة، لتتماشى هذه العقيدة مع تشعُب الالتزامات الأمنية للولايات المتحدة في جميع أرجاء العالم، بعدما تفردت بصياغة وقيادة نظام عالمي أحادي القطب.
نتج عن التحول في عقيدة سلاح الجو الأمريكي -الذي يُنظر إليه على أنه فخر العسكرية الأمريكية– تعزيز أسطول “الدرونز” القادرة على أداء مهام تكتيكية وأخرى استراتيجية. وحصد منظرو ومخططو الاستراتيجية العسكرية الأمريكية ثمار هذا التحول في تخفيف جزء كبير من الالتزامات الأمنية لسلاح الجو ومقاتلاته من الأجيال “الرابع والرابع ونصف، والخامس الشبحي”؛ فمثلًا خلال خمس سنوات ماضية شن الجيش الأمريكي أكثر من 50 ألف غارة جوية في أفغانستان وسوريا والعراق، كان قوامها “الدرونز” القتالية.
صحيح أنها جنّبت سلاح الجو خسائر كبيرة في معداته المروحية والنفاثة، لكنها دفعت العديد من القوى المتوسطة والصغيرة إلى حيازة هذا النوع من الأنظمة القتالية، ولاسيما مع حالة السيولة الأمنية التي باتت سمة النظام الدولي الحالي. فهناك إرصاهات حقيقية لزوال حقبة “أحادية القطب”، وبروز عالم متعدد الأقطاب ضمن نطاقات إقليمية واسعة. الأمر الذي وضع التكنولوجيا العسكرية وتطبيقاتها وخاصة “الدرونز” أمام القوى الصاعدة كأداة تجب حيازتها، وليست مجرد اختيار لرفاهية عسكرية. فكيف بدأت قصة “الدرونز” وإلى أي مستوى غيرت من تكتيكات الحرب الحديثة؟
الدرونز.. فكرة من القرن التاسع عشر!
قد يتفاجأ البعض من أن “الدرونز” القتالية التي تصول في الإقليم والعالم اليوم هي نتاج لفكرة ظهرت في القرن التاسع عشر وتحديدًا في العام 1849، حينما قررت النمسا مهاجمة مدينة البندقية باستخدام بالونات مسلحة بالمتفجرات. كانت تلك الإرهاصات الأولى لاحتياج الإنسان إلى أنظمة قتالية غير مأهولة؛ تطيل من ذراعه العسكرية، وتطوع تحديات الطبوغرافيا، وتمكنه من الاستهداف السهل لأعدائه.
ومع دخول الحربين العالميتين الأولى والثانية، برزت أولى المحاولات الجدية لبناء الأنظمة القتالية غير المأهولة الخاصة بالقتال الجوي بالمقام الأول –فقد كانت هناك محاولات جدية أخرى لأنظمة قتالية روبوتية خاصة بتشكيلات المشاة الميكانيكية- ففي الحرب العالمية الأولى ظهرت فكرة “الدرونز” الانتحارية في شكل طوربيد طائر، طورته البحرية الأمريكية.
أما في الحرب العالمية الثانية، تسيّدت ألمانيا النازية مجال التقنية العسكرية، بشكل ثوري وليس تقليدي. حيث صنعت أول صواريخ باليسيتية وأول مقاتلات نفاثة وأول قنبلة ذكية، وأول صواريخ مضادة للدبابات، فضلًا عن جهود عسكرية أخرى لم تكتمل كمشروع القاذفة الشبحية (Horten Ho 229) التي كانت النموذج الأساسي للقاذفة النووية الأمريكية الحالية (B-2 Spirit).
أما على صعيد الدرونز، فطوّرت ألمانيا أول نموذج حديث منها وهو (The V-1). وكانت عبارة عن قنبلة طائرة، أقرب منها إلى “صاروخ موجه”، لذا تندرج تحت بند أنظمة (unmanned aerial vehicle)، ووصلت حمولتها من المتفجرات إلى قرابة 850 كج. وقد شكلت هذه النماذج كابوسًا للندن التي كانت الهدف الأول لهذا السلاح الثوري.
فيما حضرت الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية بأسطول من “درونز” (OQ-2)، والتي كان يتم التحكم فيها لاسلكيًا، وأنتجت الولايات المتحدة حوالي 15 ألف نموذج من هذا النوع خلال الحرب العالمية الثانية. إلا أن القدرة النارية لـ “الدرونز” في هذه الحقبة كانت من نصيب النماذج الألمانية (The V-1).
ولم تنقطع جهود تطوير “الدرونز” القتالية بانتهاء معارك الحرب العالمية الثانية، بل ظهرت في الحرب الفيتنامية أول “درون” مزودة بكاميرات استطلاع، ثم جاءت عقود الثمانينات والتسعينات والألفية بالنقلة النوعية في تصنيع “الدرونز” القتالية، وكانت من نصيب الولايات المتحدة بلا شك. إذ تم تقديم درونز (Predator)، وتبعها عدة نماذج لدرونز مخصصة لأعمال القتال الجوي والدعم والإسناد وقصف الأهداف الأرضية والبحرية والقيام بمهام المراقبة والاستطلاع والاستخبار الالكتروني. ويكفي أن نذكر أن لدى واشنطن حوالي 99 نوعًا من “الدرونز” القتالية متعددة المهام، تٌشكل عصب قوتها الجوية في بؤر صراعية من آسيا الوسطى حتى سوريا.
تفشي حمى “الدرونز” إقليميًا وعالميًا
لم تكن الولايات المتحدة وحدها الحاضرة في سباق “الدرونز” القتالية، بل لاحقتها الصين وروسيا على وجه الخصوص بأساطيل مقاربة من “الدرونز” التي تتنوع في مهامها من التصوير والاستطلاع، وصولًا إلى الاشتباك الجوي مع مقاتلات أخرى.
فلدى الصين وروسيا برامج لتصنيع الدرونز، وضعتهما في قلب المنافسة مع الولايات المتحدة والكتلة الغربية، ليس فقط على حيازة أحدث نماذج “الدرونز” ولكن على أسواق التصدير كذلك. فقد صدّرت الصين نماذجها من “الدرونز” القتالية إلى 10 دول، وشملت نماذج (C H-4)، و (Wing Loong). فيما دخلت روسيا مجال تصدير “الدرونز” القتالية بعد إبرام أول صفقة تصدير لها، وكانت مع جيش ميانمار حيث تم تصدير درونز (Orlan- 10 E).
وبعد التداعي الذي صاحب النظام الدولي بدءًا من الأزمة المالية العالمية ومرورًا بصعود الصين، واستعادة روسيا لنشاطها ونفوذها الإقليمي من جديد؛ صعدت على سطح التفاعلات الدولية قوى متوسطة تسعى حثيثًا إلى امتلاك تقنيتها المحلية الخاصة من “الدرونز” القتالية، وما غذى ذلك انهيار موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط وتحولها إلى ساحة التعبير عن القوة.
فقد عززت كل من تركيا وإسرائيل أساطيلها من “الدرونز” وفق مكونات تكنولوجية غربية، فظهرت في المعارك المنتشرة من ناجورونو قره باغ إلى سوريا “درونز” (bayraktar tb2) التركية، و”الدرونز” (Harop loitering munitions) الإسرائيلية.
فيما تركزت جهود إيران على إنشاء منصات أوسع لـ “الدرونز” الانتحارية؛ كونها الخيار الأمثل لعقيدتها القتالية التي تعتمد بالإساس على تكتيكات الحرب غير المتماثلة بما فيها من أدوار رئيسة للوكلاء من الميليشيات المسلحة، لكنها ما زالت تمتلك وتطور نماذج “مهاجر -6″؛ وهي نماذج تختلف عن الطائرات الانتحارية، وتعد أساس أسطول إيران من “الدرونز” المخصصة للاستهداف الأرضي.
التغيير الحقيقي.. حرب ناجورنو قره باغ
على قدر غنى الشرق الأوسط بالتفاعلات الأمنية التي عصفت بمنظومة الأمن الإقليمي، إلا أن أية مواجهة نظامية ومستمرة لأسابيع بـ “الدرونز” لم تتحقق إلا في الحرب الأخيرة في إقليم ناجورنو قره باغ.
ففي هذه الحرب انقلبت تكتيكات مواجهة الجيوش النظامية لبعضها، فقد تمكنت أذربيجان من سحق الدفاعات الأرمينية وضرب أنظمة الدفاع الجوي والمدفعية بشكل مهّد لتقدم وحدات المشاة الميكانيكية على النحو الذي أفضت إليه الحرب بعد ستة أسابيع من اندلاع القتال، إذ تمكنت أذربيجان من استعادة خمس أراضي الإقليم الجبلي، علاوة على السيطرة على الممرات الاستراتيجية “لاتشين”.
ولعل المفارقة في هذه الحرب تكمن في النتائج اللي حققتها “الدرونز” الأذرية “التركية – الإسرائيلية” الصنع، أمام منصات الدفاع الجوي الأرمينية؛ إذ تمكنت هذه “الدرونز” من تدمير 33 منظومة للدفاع الجوي الأرميني، منها منظومة من طراز “تور إم”، و “سام 6”.
غيّرت هذه الحرب من التكتيكات في الحروب الحديثة، من حيث مبادئ السيطرة الجوية وعمليات التشويش الإلكتروني المصاحبة لهجمات “الدرونز”، وأدوار أنظمة الدفاع الجوي ذاتية الحركة التي انكشفت بسهولة أمام أسراب “الدرونز”، ولم تستطع التعامل معها بصورة استباقية نتيجة للإسناد الالكتروني والسيبراني الذي تسبب في “عمى” منظومات الدفاع الجوي.
ذلك فضلًا عن تفوق “الدرونز” أمام التشكيلات المدرعة ووسائط الدفاع الجوي المحمولة على الكتف، فغدى الانقلاب الثوري في تكتيكات الحروب يتمحور حول أنظمة الذكاء الاصطناعي والأنظمة غير المأهولة أمام التفوق الكمي من المعدات الثقيلة “الصواريخ الباليستية والدبابات والمدفعية وراجمات الصواريخ”. وتباعًا ردع تكتيكات الحرب الخاطفة التي تستخدم هذه المعدات الثقيلة. لدرجة أن المعهد الملكي في لندن شكك في أهمية دبابات القتال الرئيسة؛ ففي المستقبل سيتعين على هذه الدبابات أن تدافع عن نفسها بأدوات الحرب الإلكترونية ووسائل الدفاع الجوي كذلك.
هل انتهت التغيرات في الحروب الحديثة عند هذا الحد؟.. الإجابة في اللاذقية
مطلع العام 2018، وتحديدًا في أول ليلة منه، تعرضت قاعدة حميميم الروسية في اللاذقية، والقاعدة البحرية في طرطوس لهجوم ضخم من أسراب من الدونز الصغيرة (quad copters). وزارة الدفاع الروسية وصفت الهجوم “بالضخم”، فيما نقلت صحيفة “كومرسانت” اليومية الروسية أن الهجوم أسفر عن تدمير 7 مقاتلات روسية وهي رابضة في القاعدة. وشملت الخسائر 4 قاذفات من طراز سوخوي-24 ومقاتلتين من طراز سوخوي-35 إس وطائرة نقل أنتونوف-72 فضلا عن مستودع ذخيرة، في أكبر حصيلة من الخسائر تكبدتها روسيا منذ تدخلها في الحرب السورية 2015.
وعلى الرغم من نفي وزارة الدفاع الروسية لوقوع هذه الحصيلة الثقيلة من الخسائر، إلا أن الإعلان عن تعرض القواعد الروسية لهذا الهجوم من دون التعامل معه استباقيًا، وتدمير الأهداف الجوية قبل دخولها دائرة تأمين الدفاع الجوي للقاعدة؛ يعني ببساطة أن أسراب “الدرونز” الصغيرة تمكنت من الإفلات من المنظومات الدفاعية الروسية؛ نظرًا لبصمتها الرادارية المتناهية في الصغر، ولأعدادها الكبيرة.
البنتاغون الأمريكي بدوره علّق على هذا الهجوم النوعي الكبير، وقال إن “الدرونز” المستخدمة فيه يمكن شراؤها عبر الإنترنت. ما يضع الدفاعات الجوية التقليدية أمام تحدٍ كبير لنوع آخر من أسراب “الدرونز” ليس محملًا بالصواريخ والقنابل الجوالة، ولكن فقط قذائف صغيرة الحجم من المتفجرات.
هذه الأسراب بدأت أدوارها تتصاعد منذ العام 2021، فللمفارقة الكبيرة أيضاً، أثبتت هذه الأسراب الصغيرة من “الدرونز” قدرتها النارية والتدميرية العالية. ففي أبريل من العام 2021 قامت البحرية الأمريكية بتدمير سفينة سطح بواسطة أسراب “الدرونز” الصغيرة وذلك في التمرين 21 للأنظمة القتالية غير المأهولة في معركة الأسلحة المشتركة قبالة سواحل كاليفورنيا. مع العلم أن سفينة السطح التي تم تدميرها كانت مسلحة بصواريخ مضادة.
وتعكف تركيا الآن على إعداد نظام ذكاء اصطناعي لقيادة أسراب “الدرونز” الصغيرة في مهام قتالية، وأجرت بالفعل تجارب ميدانية لاختبار هذا النظام. يأتي ذلك في ظل نقلة ثورية تقودها البحرية الأمريكية لقيادة تكتيكات هجومية ودفاعية لأسراب من “الدرونز” تضم حوالي مليون طائرة.