تحركات استباقية: لماذا شرعت مصر في تحديد الحدود الغربية في البحر المتوسط؟
نشرت الجريدة الرسمية (11 ديسمبر 2022) قرارًا جمهوريًا رقم 595 لسنة 2022 بشأن تحديد الحدود البحرية الغربية لمصر في البحر المتوسط، وقد نصت المادة الأولى على أن حدود البحر الإقليمي لمصر تبدأ من نقطة الحدود البرية المصرية الليبية النقطة رقم (1) ولمسافة (12) ميلًا بحريًا، وصولًا إلى النقطة رقم (8)، ومن ثم ينطلق خط الحدود البحرية الغربية لمصر من النقطة رقم (8) في اتجاه الشمال موازيًا لخط الزوال (25) شرق، وصولًا إلى النقطة رقم (9).
وقد أثار هذا القرار ردود فعل إيجابية من قبل اليونان التي رحبت بهذه الخطوة، في حين جاء موقف حكومة الوحدة الوطنية الليبية المنتهية ولايتها متوقعًا عبر رفضها القرار، معتبرة أنه تحرك أحادي الجانب. وعلى الرغم من ذلك فإن التحرك المصري في مجمله لا يتعارض مع القانون والأعراف الدولية، فقد أكد القرار في مادته الثالثة على إخطار الأمين العام للأمم المتحدة بتلك الإحداثيات.
ويبدو أن الظروف السياسية في ليبيا وعدم شرعية الحكومة الليبية الحالية والتي انتهت ولايتها على خلفية تجاوز المدة التي حددتها خارطة الطريق التي أقرها ملتقى الحوار السياسي الليبي، قد حالت دون قيام مصر بالتنسيق مع الجانب الليبي في هذا التوقيت، وتأجيل مثل هذه الخطوة لمراحل تالية؛ إذ أن أية تفاهمات أو اتفاقيات سوف تكون منقوصة الشرعية أو محل شك في ظل عدم شرعية الحكومة القائمة، وعدم أحقيتها في التوقيع على مثل هذه الاتفاقيات.
وبين التأييد اليوناني ورفض حكومة الدبيبة، التزمت تركيا الصمت، على خلاف ما حدث أثناء ترسيم الحدود بين مصر واليونان والذي أعلنت أنقرة بشكل مباشر رفضها له، حيث اعتبرت الخارجية التركية –آنذاك- أن الاتفاق كأنه لم يكن.
ومع ذلك، فقد جاء الموقف التركي بشأن تحديد الحدود البحرية الغربية لمصر شرق المتوسط ليعبر عن موقف حذر، فلم يصدر موقف رسمي مباشر من قبل الخارجية أو أحد المسؤولين الحكوميين، فنشرت وكالة الأناضول التركية نقلًا عن مصادر دبلوماسية تركية أن الحدود البحرية التي حددتها مصر لا تتعارض مع الجرف القاري لتركيا. ويتماشى موقف تركيا مع مساعيها الأخيرة إلى تهدئة التوترات في المنطقة وتجنب الصدام مع عدد من القوى الإقليمية وفي مقدمتها مصر، خاصة في ظل إدراك تركيا لمحورية الدور المصري في منطقة شرق المتوسط.
دلالات ورسائل
بغض النظر عن ردود الفعل المتباينة، فقرار مصر بشأن حدودها البحرية الغربية شرق المتوسط لم يكن موجهًا ضد أي دولة، ولا يستهدف النيل من حقوق أي طرف من الأطراف؛ فمجمل التحركات المصرية شرق المتوسط لا تستهدف سوى التأكيد على المصالح العليا للدولة المصرية وحماية حقوقها بما يتماشى مع قواعد القانون الدولي للبحار في القضايا ذات الصلة بتحديد المياه الإقليمية والمناطق الاقتصادية الخالصة. وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى جملة من الرسائل والدلالات المرتبطة بالقرار المصري وذلك على النحو التالي:
أولًا) تثبيت النفوذ: لا شك أن الخطوة المصرية تستهدف تأمين مصالح الدولة وتعزيز نفوذها في البحر الأبيض المتوسط، فخلال السنوات الماضية أظهرت التحركات المصرية أهمية منطقة المتوسط كأحد دوائر السياسة الخارجية المهمة، فضلًا عن أنها باتت أحد دوائر الأمن القومي المصري، وبالتالي فأية تحرك فيها يستهدف بالأساس تأمين مصالح مصر وحماية أمنها القومي، ومن ثم التأكيد على قيادتها للتفاعلات القائمة والمحتملة في شرق المتوسط، في ظل امتلاك مصر لعوامل التأثير والمتمثلة في استضافة مقر منظمة غاز شرق المتوسط، وتوافر البنية التحتية لتسييل الغاز، بجانب امتلاكها أدوات الردع ممثلة في قوتها البحرية الهائلة.
ثانيًا) دعم وتأكيد المسار القانوني: يدعم التحرك المصري نحو تحديد الحدود البحرية الغربية في البحر الأبيض المتوسط مجمل الحركة المصرية والتي ترتكز بالأساس في أحد أدواتها على البعد القانوني في سياستها الخارجية تجاه شرق المتوسط؛ بهدف تعزيز وتعظيم مكاسبها. وقد تمت التحركات القانونية المصرية انطلاقًا من اتفاقية القانون الدولي للبحار 1982 والتي تنظم حقوق وسيادة كل دولة على مناطقها الاقتصادية ومياهها الإقليمية، وذلك على غرار توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع اليونان أغسطس 2020. وعليه، من شأن تلك الخطوة أن تؤسس فيما بعد وفي أعقاب استقرار الأوضاع الأمنية والسياسية في ليبيا للدخول في مفاوضات لترسيم الحدود بين البلدين، وقد تمتد لاستكمال ترسيم الحدود مع الدول المقابلة للساحل المصري.
ثالثًا) تعزيز مسار تحقيق الاكتفاء الذاتي: يمكن لتحديد الحدود البحرية الغربية لمصر أن تزيد من فرص اكتشاف مزيد من حقول الغاز في البحر المتوسط، حيث سعت الدولة المصرية لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز الطبيعي، والتحول من دولة مستوردة إلى مصدرة. وقد كان البحر الأبيض المتوسط المدخل الرئيس لتحقيق هذا الهدف بفضل الثروات والاحتياطات الكبيرة من الغاز الطبيعي. وفي سبيل ذلك، اتبعت الدولة المصرية عددًا من الإجراءات من بينها: العمل على تنمية حقوق الغاز، والتوسع في عمليات التنقيب والاستكشاف، علاوة على محاولة جذب الشركات الدولية عبر تسويق وطرح عدد من المزايدات.
وأسهمت تلك الإجراءات في تحقيق الاكتفاء الذاتي بنهاية عام 2018، عندما أوقفت مصر استيراد الغاز، وقد أسهم حقل ظهر في تحقيق تلك النقلة النوعية في معدلات الإنتاج اليومي، حيث بلغ حجم إنتاج مصر من الغاز الطبيعي 7.2 مليارات قدم مكعبة.
يوضح الشكل السابق حجم إنتاج واستهلاك مصر من الغاز الطبيعي خلال الفترة من 2008 وحتى 2021، ويلاحظ أن حجم إنتاج الغاز الطبيعي عام 2015 وصل إلى 42.6 مليار متر مكعب، في حين بلغ الاستهلاك 46 مليار متر مكعب بعجز وصل إلى 4 مليارات متر مكعب. وقد تغير المشهد بصورة كاملة مع دخول حقل ظهر مرحلة الإنتاج، ليصل حجم الإنتاج عام 2021 إلى 67.8 مليار متر مكعب في حين بلغ الاستهلاك نحو 61.9 مليار متر مكعب، ما يعني وجود فائض يقدر بنحو 6 مليارات متر مكعب.
رابعًا) اقتحام نادي الدول المصدرة للغاز: من شأن عملية تحديد الحدود البحرية أن تؤمن مزيدًا من الاكتشافات، ومن ثم زيادة الفائض الذي يسمح بالتصدير للخارج، وذلك في ظل الوفرة الهائلة من الاحتياطات في تلك المنطقة، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من خلال إعلان وزير البترول والثروة المعدنية “طارق الملا” (15 ديسمبر 2022) عن اكتشاف حقل “نرجس” في البحر المتوسط بحجم احتياطات أولية يقدر بنحو 3.5 تريليون قدم مكعبة من الغاز. من هنا، تدرك القيادة السياسية حجم الاكتشافات التي يمكن أن تحققها من خلال تحديد حدودها البحرية مع الدول المتلاصقة مع مصر أو المتقابلة لها.
وقد نجحت مصر في تحقيق هدفها المتمثل في زيادة معدلات تصدير الغاز، ووفقا لبيانات “رفينيتيف إيكون”، صدّرت مصر 8.9 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال 2021، و4.7 مليارات متر مكعب في الأشهر الخمسة الأولى من عام 2022.
وفي هذا السياق، أكد وزير البترول والثروة المعدنية “طارق الملا” أن مصر تستهدف تصدير ما قيمته 8.5-10 مليارات دولار من الغاز بنهاية 2023. وتستهدف مصر الوصول بصادرات الغاز الطبيعي إلى مليار دولا شهريًا خلال العام المقبل بزيادة تصل لنحو 500 مليون دولار عما هو عليه الوضع الآن.
خامسًا) خدمة المشروع التنموي المصري: من شأن تطوير الحقول المكتشفة والمحتملة في البحر الأبيض المتوسط أن يسهم في خدمة الرؤية التنموية للدولة المصرية؛ إذ ينظر إلى تلك الاكتشافات بوصفها فرصة لمصر لدفع المشاريع التنموية للدولة المصرية للأمام، بما يخدم استراتيجية التنمية المستدامة ورؤية مصر 2030، خاصة وأن حوالي 75٪ من إنتاج الكهرباء في مصر يعتمد على الغاز، علاوة على أن الغاز الطبيعي يُعد مكونًا أساسيًا ووسيطًا لعدد من الصناعات ومن بينها الأسمدة، والبتروكيماويات، بالإضافة للحديد والصلب والأدوية والصناعات الثقيلة. ومن هنا تستهدف مصر من خلال تطوير اكتشافات الغاز إحداث نقلة في تلك الصناعات. يضاف إلى ذلك دعم التوجه المصري في توسيع استخدام الغاز سواء في المنازل أو عبر تحويل السيارات للعمل بالغاز الطبيعي.
سادسًا) التحول إلى مركز إقليمي للطاقة: تعمل مصر عبر تحركاتها في البحر الأبيض المتوسط ومساعي تحديد الحدود الغربية على صياغة دورها في المنطقة بشكل عام، وتحقيق جملة من الأهداف الجيوسياسية، ومن بين تلك الأهداف تحولها إلى مركز إقليمي لتصدير الغاز الطبيعي، ما ينظر إليه بوصفه إعادة تشكيل للخطوط الجيوسياسية من البحر الأبيض المتوسط إلى شمال أفريقيا ومختلف دول المنطقة. وقد بدا ذلك واضحًا من خلال اتفاقيات نقل وتسييل الغاز مع الدول المنتجة للغاز الطبيعي في شرق المتوسط، حيث تمتلك مصر دون غيرها من الدول المتوسطية عددًا من المزايا التي تؤهلها للتحول إلى مركز إقليمي للطاقة من بينها، التقارب الجغرافي بين حقول الغاز المكتشفة في كل من قبرص وإسرائيل بمصر، أو عبر قناة السويس وخط أنابيب “سوميد”، حيث يعملان كممر وطريق لعبور النفط والغاز الطبيعي الذي يتم شحنه من الخليج إلى أوروبا.
سابعًا) تأكيد الحضور في معادلة الطاقة العالمية: أضفت الحرب الروسية الأوكرانية أهمية متزايدة على غاز البحر الأبيض المتوسط خاصة في ظل قيام روسيا بتوظيف الغاز الطبيعي في حربها ضد الغرب، حيث قامت بقطع الإمدادات وتقليصها بصورة غير مسبوقة، ما وضع دول الاتحاد الاوروبي في مأزق توفير الإمدادات اللازمة، من هنا ظهر غاز المتوسط بوصفه أحد البدائل التي يمكن أن تلجأ إليه الدول الأوروبية للتعاطي مع تلك التطورات، الأمر الذي يمكن أن ينعكس بالإيجاب على الدور المصري بشكل عام في معادلة الغاز الطبيعي.
وهو ما ترجمته مذكرة التفاهم الثلاثية بين مصر وإسرائيل والاتحاد الأوروبي في يونيو 2022 والتي تستهدف ضخ مزيد من الغاز الطبيعي من إسرائيل إلى منشآت الغاز الطبيعي المسال في مصر ومن ثم نقلها إلى أوروبا، ويمكن أن تدفع الاتفاقية تجاه مزيد من الاستثمارات في استكشاف الغاز والبنية التحتية في قبرص ومصر واليونان وإسرائيل بما يزيد من فرص الاستكشافات الجديدة، حيث وصفت رئيسة المفوضية الأوروبية “أورسولا فون دير لاين” الاتفاقية بأنها” هذه خطوة كبيرة للأمام في إمدادات الطاقة لأوروبا ولكن أيضًا لمصر لتصبح مركزًا إقليميًا للطاقة”.
من هنا، يمكن فهم مساعي مصر إلى تحديد الحدود الغربية كأحد الأدوات والوسائل الرامية لتعزيز اكتشافات الغاز، ومن ثم لعب دور مؤثر في مشهد الطاقة العالمي، حيث ارتفع تصنيف مصر من المركز 19 عام 2015 في إنتاج الغاز الطبيعي وصولًا للمركز 13 عام 2021 على الصعيد العالمي والمركز الثاني أفريقيًا، وذلك وفق تقارير صادرة عن “بريتيش بتروليوم”.
في الأخير، تأتي الخطوة المصرية بتحديد الحدود البحرية الغربية ضمن السياسة الاستباقية التي تبنتها مصر خلال السنوات الماضية تجاه منطقة البحر الأبيض المتوسط، والتي ضمنت لها بمرور الوقت حيازة أدوات التأثير والفاعلية في الإقليم بشكل عام، فضلًا عن أنها تعد خطوة ضرورية نحو تأمين المصالح المصرية وتحقيق مزيد من الاكتشافات التي تعزز وضع مصر في معادلة الطاقة عالميًا.