
“محطة الضبعة النووية” ..حلم مصري يتحقق
“محطة الضبعة النووية” حلم مصري يزيد عمره عن نصف قرن، لكن الحلم بات قريب المنال، وخلال سنوات سيكون واقعا يضيف عنصرا جديدا لمزيج الطاقة في مصر، بمشاركة أيدي المصريين. ولن ينعكس أثره على الدولة المصرية فقط، بل على القارة بأكملها.
وتعد الميزة الأبرز للمحطة تلبية الطلب المتزايد على الطاقة الكهربائية في مصر، والذي يشهد نمواً سنوياً بمعدل يفوق 10% منذ عام 2010. هذا فضلا عن تقليل الضغوط على الدولة ماليًا والحفاظ على البيئة عن طريق تقليل التلوث.
محطة نووية لتوليد الكهرباء .. القصة كاملة
قرابة الست عقود تفصلنا عن توقيع أول اتفاقية للطاقة النووية مع الاتحاد السوفيتي عام 1956، وبعدها تم إنشاء هيئة الطاقة الذرية عام 1957، وهو نفس العام الذي أصبحت مصر عضوا مؤسسا في الوكالة الدولية للطاقة النووية التابعة للأمم المتحدة بفيينا. وفى عام 1960 صدر قانون بتنظيم العمل بالإشعاعات المؤينة والوقاية من أخطارها، وُعُهِدَ بتنفيذه إلى مؤسسة الطاقة الذرية ووزارة الصحة، كلُ في نطاق اختصاصه.
ثم بناء المفاعل الذري 1961 للبحوث العلمية بقوة 2 ميجا وات، ومعمل لإنتاج النظائر المشعة إلى جانب العديد من الأجهزة النووية الأخرى بمنطقة أنشاص بالشرقية في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.

خلال عام 1963 انتهت مصر من إقامة مركز الشرق الاوسط الإقليمي للنظائر المشعة للدول العربية بالتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وكان مقره القاهرة، وشاركت في إنشائه بعض الدول العربية إلى جانب مصر، وفى نفس العام تم التعاقد مع بيت خبرة إنجليزي لعمل دراسات حول موقع مفاعل جديد.
وبعد انتهاء الدراسة، وفي عام 1964 طرحت مصر مناقصة عالمية لتوريد الطاقة النووية لتوليد الكهرباء بمنطقة سيدي كرير بالساحل الشمالي الغربي لمصر بقدرة 150 ميجاوات وتحلية مياه البحر بمعدل 20 ألف متر مكعب في اليوم ليصل تكلفته بما يقدر 30 مليون دولار، وعند نشوب حرب 67 توقف المشروع، وبعد نكسة 1967 وتحديدًا في عام 1968، وقعت مصر على معاهدة دولية للحد من انتشار الأسلحة النووية “NPT” بين ما يقرب من 170 دولة ولكن لم يصدق عليها. فضلا عن سفر الخبراء للخارج للمشاركة في البرنامج النووي العراقي، إلى جانب حوادث الاغتيالات التي حدثت للعديد من العلماء.
عام 1975، في عهد الرئيس محمد أنور السادات، وعلى إثر ارتفاع أسعار البترول بعد حرب أكتوبر، وافقت الولايات المتحدة الأمريكية على برنامج لتزويد مصر بمفاعلات الطاقة وتم الاتفاق مع الرئيس آنذاك ريتشارد نيكسون على إنشاء مفاعل نووي لتوليد الكهرباء بقدرة 1300 ميجاوات، ووقعت مصر الاتفاقيات اللازمة بمشاركة الضمانات الثلاثة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والولايات المتحدة الأمريكية، ومصر، وتم إضافة شرطًا آخر في عهد الرئيس جيمي كارتر يقتضي التفتيش على المنشآت النووية المصرية الامر الذي رفضته مصر واعتبرته تدخل في شئونها.
وقبل تعرض الرئيس الراحل محمد أنور السادات، للاغتيال أصدر قرارًا جمهوريًا بتخصيص منطقة صحراوية بالضبعة لتكون موقعًا لإقامة المحطة النووية بمصر لتستخدم في توليد الكهرباء وتحلية المياه ولكن لم تنفذ. وقام الرئيس محمد حسني مبارك بطرح مناقصة لإنشاء محطة نووية لتوليد الكهرباء عام 1983 وعملت مصر على تعديل اتفاقيتها مع وزارة الطاقة الأمريكية لرفع حصة شراء اليورانيوم اللازم لتشغيل المحطات النووية المصرية من 600 ميجاوات التي كانت مقدرة لمحطة سيدى كرير إلى أربعة آلاف ميجاوات، بما يغطى احتياج 4 محطات قدرة كل منها ألف ميجاوات لكن توقف المشروع، وعلل مبارك توقفه خوفًا من حدوث انفجار مثلما حدث بمحطة تشرنوبل بالاتحاد السوفيتي.
وفى عام 1992 تم التعاقد مع الأرجنتين لبناء المفاعل النووي البحثي الثاني متعدد الأغراض وتم تدشينه يناير 1998 بقدرة 22 ميجاوات. ثم أعلن عن عودة الحلم ببناء أربع محطات تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وقبل إعلان موافقة الوكالة على موقع الضبعة بمطروح، ومع قيام الثورة عام 2011 أصبحت هذه الخطط على قوائم الانتظار.
و أعلن الرئيس عدلي منصور عام 2013 تدشين مشروع قومي لإنشاء محطة نووية لتوليد الطاقة الكهربائية بالضبعة، وبالفعل تسلمت القوات المسلحة الموقع لتأهيله ولكن لم يتم الإعلان عن أى تقدم يذكر.
ومع تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي سدة الحكم، قرر البدء في إنشاء المحطة النووية، وتم توقيع اتفاقية عام 2015، مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين اتفاق حكومي روسي مصري مبدئي حول بناء أول محطة نووية في مصر مكونة من 4 وحدات طاقة تبلغ 1200 ميجاوات.
الحلم أصبح حقيقة

بموجب الاتفاقية المبدئية التي تم توقيعها في 19 نوفمبر2015، ستقوم روسيا ببناء وتمويل أول محطة للطاقة النووية في مصر. وفي نوفمبر 2017 تم توقيع العقود الأولية لبناء 4 وحدات VVER-1200 بحضور الرئيسين المصري والروسي. بقدرة إنتاجية 1200 ميجاوات للمفاعل الواحد وبإجمالي 4800 ميجاوات. وبتكلفة 28.75 مليار دولار، ستمول روسيا 85% من قيمة المشروع في صورة قرض حكومي بفائدة 3% سنويًا، بينما تتكفل مصر بتمويل الـ 15% الباقية. على أن تبلغ مدة القرض 22 عامًا، يبدأ سداد الفوائد على القرض فورًا مع استلام أول دفعة من القرض.
سينفذ المشروع على مساحة 45 كيلومترًا مربعًا، بطول 15 كيلومترًا على ساحل البحر، وبعمق 5 كيلومترات، وتستوعب الأرض 8 محطات نووية ستتم على 8 مراحل، المرحلة الأولى تستهدف إنشاء محطة تضم 4 مفاعلات نووية لتوليد الكهرباء بقدرة 1200 ميجا وات بإجمالي قدرات 4800 ميجا وات، وتشمل البنية التحتية للمشروع إنشاء برج الأرصاد لقياس درجات الحرارة والرطوبة واتجاهات الرياح، إضافة إلى إنشاء مباني العاملين وأجهزة قياس المياه الجوفية والزلازل والتيارات البحرية وإمداد خطوط الغاز والمياه والكهرباء والاتصالات. ومن المقرر أن تصل نسبة التصنيع المحلى إلى 25% لإدخال تكنولوجيا الطاقة النووية للبلاد وبناء كوادر مصرية في هذا المجال. وتسهم لمحطة في تشغيل ما يقرب من 1400 عامل مصري ما بين مهندسين وفنين وإداريين.
وتقوم شركة روس آتوم الحكومية، ببناء المحطة على أن يتم تشغيل أول وحدة منها عام 2027. كما ستقوم بتزويدها بالوقود النووي الروسي طوال فترة تشغيل المحطة النووية مما يضمن التكلفة التنافسية للطاقة الكهربائية لمدة 60 عامًا فضلًا عن مساعدتها الشركاء المصريين فى عملية تشغيل وصيانة المحطة فى العشر سنوات الأولى من التشغيل، على أن يتم تعليم وتدريب العاملين بها.
وقد أصبحت الطاقة لنووية في الآونة الأخيرة حاجة ملحة، فهي تساعد في توليد الكهرباء وبالتالي توفير الغاز الطبيعي الذي كان يستخدم في هذا المجال للاستفادة منه في مجالات صناعية أخرى. هذا فضلا عن التلوث البيئي الناتج عن الاعتماد على الوقود الهيدروكربوني، فسوف تسهم المحطة عند اكتمالها في توليد أكثر من 10% من إجمالي قدرات توليد الطاقة في مصر. وهو ما سيتيح لمصر زيادة صادراتها من الطاقة.
وتعتبر الطاقة النووية أرخص مصدر للطاقة مقارنة بغيرها من التقنيات. فإن سعر الكيلو وات/ ساعة للطاقة النووية يبلغ في المتوسط 3.2 سنتا، في حين أن أسعار الكهرباء التي تم إنتاجها عن طريق البترول والغاز، تصل إلى 11.2-13.0 سنت / كيلو وات/ ساعة، وفقًا لتصريحات الدكتور عبد العاطي سلمان، رئيس هيئة المواد النووية الأسبق. وسيكون للمحطة تأثير كبير على زيادة الناتج المحلي الإجمالي في مصر، ليس فقط من خلال زيادة إيرادات المقاولين المحليين المشاركين ببناء المحطة، أو عائدات الضرائب عنها، بل من خلال تحفيز النمو في الصناعات ذات الصلة مثل مواد البناء والمعدات والآلات والمرافق والخدمات الأخرى. وتقدر إيرادات محطة الضبعة النووية بحوالي 300 مليار دولار على مدار عمرها الإنتاجي.
وتعرض المشروع للنقد والتشويه منذ إعلان تنفيذه، خوفًا من التعرض لتسريب إشعاعي أو لانصهار نووي ناتج عن الإهمال أو إساءة معالجة مياه التبريد. أو أي حادث نووي كما حدث في تشرنوبل، وهو ما نفاه خبراء الطاقة النووية بهيئة المحطات النووية لتوليد الكهرباء، التابعة لوزارة الكهرباء والشركة المسؤولة عن أعمال التشغيل، فمحطات الجيل الثالث هي الأكثر أمانا على مستوى العالم حيث أنها تعتمد على تكنولوجيا متطورة من التحكم الآلي والذي يؤدي إلى تأمين المفاعل في حالة استشعار أي خطر يتعرض له للمفاعل. فمعدل انصهار قلب المفاعل أقل من 1 إلى 10 ملايين مفاعل سنة كما تتبع فلسفة الدفاع من العمق والتي تعتمد على وجود عدة حواجز مادية تحول بين المواد المشعة والبيئة المحيطة. كذلك مقاومة خطأ المشغل “العامل البشرى”.
فالمفاعل يستطيع تحمل اصطدام طائرة تجارية ثقيلة تزن 400 طن وتسير بسرعة 150 مترا على الثانية، يستطيع المفاعل تحمل تسونامى حتى ارتفاع 14 مترا ويتحمل الزلازل حتى عجلة زلزالية 0.3 من عجلة الجاذبية الأرضية، ويستطيع تحمل الأعاصير والرياح.
الضبعة .. قد تكون محطة لتوطين التكنولوجيا
أكد الكسندر فورونكوف مدير عام الشرق الأوسط بشركة روساتوم الروسية المسئولة عن إنشاء المحطة النووية بالضبعة، أن مصر تعتبر من أوائل الدول التي بدأت بتنفيذ برنامج نووي وطني وهو ما يسمح لمصر خلال العقود المقبلة بأن تكون دولة رائدة في مجال التطور الصناعي والتكنولوجي.
فتستعين روساتوم بموردين محليين في تنفيذ مشروع محطة الضبعة النووية، ومن المقرر أن يتم تنفيذ نحو 20% من إنشاءات مشروع محطة الضبعة النووية بالتعاون مع الشركات المحلية، ومن المتوقع أن تزداد نسبة الاستعانة بالشركات المصرية مع بناء كل وحدة مفاعل جديدة، وصولًا إلى نسبة %35 للوحدة النووية الرابعة، بعد أن تكتسب الشركات المصرية المزيد من الخبرة. وفازت 3 شركات مصرية من إجمالي 10 شركات مقاولات تقدمت للفوز بثلاث مناقصات خاصة بإنشاءات المحطة. ومن المقرر أن تطرح شركة “أتوم ستروى إكسبورت” مناقصة جديدة خلال العام الجارى لاستكمال تنفيذ المشروع.
وحصلت محطة الضبعة على ثانى أفضل مشروع نووى بالعالم، نوفمبر 2020، وذلك لما يحويه المفاعل (من الجيل الثالث)، من تصميم بسيط وموثوق به، ومقاوم لخطأ المشغل “العامل البشرى”، كما تضمن هذه المفاعلات عدم التسرب الإشعاعي عن طريق الحواجز المتعددة، كما يوجد بها نظم السلامة السلبية والإيجابية، وزيادة كفاءة استخدام الوقود وإخراج أقل كمية من النفايات، كما تحتوي هذه المفاعلات على نظام التحكم الآلى الحديث.
الفائدة الاقتصادية
وفائدة المحطة لا تنحصر في زيادة انتاج الطاقة الكهربية فقط، لكن من أن تسهم في زيادة الناتج المحلي الإجمالي بقيمة 4 دولارات، مقابل كل دولار ينفق على بناء محطة للطاقة النووية، ولذلك تشير التقديرات إلى أن المحطة تساهم في تدفق نحو 9 مليارات دولار أمريكي إلى الناتج المحلي الإجمالي لمصر.
أما على صعيد تشغيل العمالة، فقد تم الاتفاق على قيام شركة روساتوم بتدريب ما يقرب من 2000 شخص من موظفي التشغيل والصيانة للعمل في المحطة، وبالتالي، ستقوم الشركة بتأهيل وتدريب جميع الموظفين حول كيفية التشغيل الناجح والآمن لأربع مفاعلات طاقة في المحطة، ومن المتوقع أن يصل عدد العاملين إلى أكثر من 10000 متخصص، وتوفير ما لا يقل عن 2000 فرصة عمل للعمالة المصرية بالمشروع على أن تزيد لتصل إلى 50.0000 فرصة عمل، كما تعد محطة الضبعة واحدة من أكبر مصادر الضرائب في مصر حيث ستقوم بدفع ما يقرب من 30 مليار دولار أمريكي في الضرائب على مدى 60 عامًا.

وكجزء من الاتفاقيات الموقعة لبناء محطة “الضبعة” للطاقة النووية ستقوم روساتوم بتدريب ما يقرب من 2000 من المتخصصين المصريين، وبالفعل نظمت شركة «أتوم ستروى إكسبورت»، التابعة لشركة «روساتوم» الروسية، دورة تدريبية في فبراير الجاري، بمدينة كورسك، لممثلى هيئة المحطات النووية لتوليد الكهرباء المصرية، في إجراءات الرقابة والمتابعة لعملية بناء محطة الطاقة النووية «كورسك 2»، كجزء من تنفيذ العقد المتكامل لإنشاء وتشغيل محطة الطاقة النووية بالضبعة في مصر. وتضمنت المرحلة الأولى من الدورة التدريبية كيفية تنظيم عملية تسلم وقبول الأعمال وتنفيذ عمليات التفتيش على جميع أنواع أعمال البناء والتركيبات، والمهام الوظيفية الرئيسية، وتنظيم جدول العمل، بالإضافة إلى توقيت ومراحل وأحجام مستندات التسليم وأرشفتها وتخزين وثائق تسلم الأعمال وفقًا لنتائج الفحص والتفتيش.

ولن تكن هذه المشاركة المصرية الوحيدة بالمشروع، فكانت الخطوة الأولى من الحكومة المصرية بإنشاء أول مدرسة للتطبيقات النووية (مدرسة الضبعة النووية بمطروح)، لتأهيل كوادر متخصصة فى تدريس علوم فنية بحتة، تتعلق بإنشاء وتصميم المفاعل السلمى النووي، تضم المدرسة 3 أقسام “كهرباء، ميكانيكا، وإلكترونيات”، فضلا عن تدريس اللغة الروسية. ستتخرج أول دفعة عام 2021، ومن المقرر أن تشارك هذه الدفعة في تركيب أول مفاعل نووي في الضبعة عام 2026.
باحث أول بالمرصد المصري