
“سياسة نشطة”.. مصر وهندسة التحالفات في منطقة شرق المتوسط
أصبحت منطقة شرق المتوسط في صدارة مشهد مستجدات السياسة العالمية، فالمنطقة التي كانت تتسم فيها التفاعلات بالعسكرة؛ تحولت إلى مسرح للسياسات الإيجابية النشطة المرتبطة بملفات الطاقة والهجرة غير الشرعية والأمن الجماعي بين قوى إقليمية ودولية. ففي أحدث نموذج لهذا التحول، عقد الرباعي “مصر قبرص اليونان فرنسا” اجتماعًا على مستوى وزراء الخارجية في العاصمة اليونانية “أثينا”، أمس (19 نوفمبر)، لمناقشة التطورات الأخيرة بالمنطقة، وذلك على ضوء التحديات المتعددة التي تؤثر على السلام والاستقرار والأمن، حسبما جاء في البيان الختامي عقب انتهاء فعاليات الاجتماع الوزاري بأثينا.
وأظهر المؤتمر الصحفي المشترك لوزراء الخارجية، توافقًا حول قضايا المنطقة ذات الاهتمام المشترك، وبحسب تصريحات وزير الخارجية المصري سامح شكري، فإن مصر وقبرص واليونان وفرنسا توافقوا حول استمرار التعاون في المجالات كافة، وتعزيز القدرة على الدفاع عن هذا التعاون المشترك بالوسائل الشرعية.
وعادة ما تشهد منطقة شرق المتوسط تنسيقًا مشتركًا من هذا النوع بين الثلاثي “مصر قبرص اليونان”، إلا أن الاجتماع الرباعي الأخير والذي ضمّ فرنسا إلى هذه المصفوفة في إطار (3+1)؛ حمل قدرًا من الإشارات والأهداف التي تتعلق بصميم الاستراتيجية الإقليمية وما يدور فيها من تطورات تؤثر على الأمن القومي للدول الأربع، فما أهمية هذا التعاون الرباعي، وما أهدافه، وما علاقته بمصر وفلسفتها في إدارة التحالفات والشراكات الاستراتيجية في المنطقة؟
مصر.. اللبنة الأولي في تأسيس التعاون الرباعي في إطار صيغة (3+1)
أسست مصر آلية التعاون الرباعي في الثامن من يناير 2020، حين استضافت القاهرة الاجتماع الأول لوزراء الخارجية، وكان بشأن تعزيز الأمن والاستقرار في شرق البحر المتوسط.
ثم جاء الاجتماع الثاني لآلية التعاون الرباعي في إطار (3+1)، عبر الهاتف، في مايو 2020 وشدد وزراء الخارجية على الضرورة الاستراتيجية لزيادة مشاورتهم السياسية وتكثيفها، ورحبوا بالنتائج التي أثمر عنها اجتماع القاهرة الذي عقد في يناير من ذات العام. وأدان الوزراء المشاركون السياسات التركية العدائية في منطقتي ليبيا وشرق المتوسط. واتفق الوزراء في نهاية حديثهم على مواصلة مشاورتهم بوتيرة منتظمة.
ثم جاء الاجتماع الثالث في أثينا هذه المرة، ليناقش جملة من القضايا الإقليمية والدولية التي تتقاطع فيها مصالح الدول الأربع، وعلى رأسها:
- ملف الطاقة.
- التغير المناخي.
- سد النهضة.
- الأزمة الليبية.
- جهود مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية.
- شرق المتوسط.
وبالنظر للمخرجات الأولى لآلية التعاون الرباعي، وصولاً حتى اجتماع أثينا؛ يتبيّن قدرة الدول الأربع على استيعاب تطورات السياسيات العدائية لعدد من الفواعل الدولية والإقليمية التي فضّلت استخدام أدوات القوة الصلبة التقليدية والغير تقليدية (وكلاء ميلشياويين + مرتزقة)، لفرض أجنداتها. وخاصة إذا ما نظرنا للنموذج التركي الذي ركّز جهوده خلال 30 شهرًا متواصلاً، على تفكيك أي تكتلات إقليمية في منطقة شرق المتوسط لا تتقاطع مع مشروعه التوسعي. حيث لجأت أنقرة لتفكيك وإضعاف التحالف الثلاثي بين مصر وقبرص واليونان، من خلال:
- مساومة قبرص بخفض احتمالات التصعيد العسكري في مقابل حل القضية القبرصية وفق وجهات النظر التركية، وتخفيف الاعتماد الاستراتيجي على كل من مصر واليونان.
- الدفع بالمحادثات الاستكشافية مع اليونان بالتوازي مع تهديديها بقوافل اللاجئين برًا وبحرًا، ورفع مستوى الانتهاكات البحرية والجوية.
- حصر السياسات العدائية التركية تجاه مصر نحو تكتيكات الالتفاف والتطويق لتفادي التعامل مع منظومة الردع المصرية.
أهمية التعاون الرباعي (3+1)
دفعت النقاط الثلاث السابقة آلية (3+1)، إلى تركيز الاهتمامات المشتركة نحو أهداف محددة، كتدعيم الشراكات الدفاعية والعسكرية والاقتصادية بين القاهرة ونيقوسيا وأثينا وباريس، والانخراط على المسرح البحري وفقًا لقانون البحار الأممي، المنظم لعمليات الترسيم البحري، فضلاً عن تبني مقاربات سياسية متوافقة تجاه تطورات الأزمات السياسية في المسرح البري الممتد من العراق حتى دول الساحل والصحراء وخليج غينيا، وفي المسارح البحرية الآتية “الخليج العربي وخليج عدن، والبحر الأحمر، والبحر الأبيض المتوسط”.
وفي هذه البقعة الجغرافية الممتدة، تنشط كل من تركيا وإيران وإسرائيل، بأنماط مهددة للاستقرار ومحفزة على استمرار عمليات الهندسة الطائفية في الشرق الأوسط، وتداعياتها المروعة على شعوب المنطقة، وكذلك على منظومة الأمن القومي العربي.
وعليه فإنه يمكن تحديد أهمية تحالف (3+1)، في النقاط التالية:
- تزويد دول المصفوفة بالتقنية العسكرية الغربية بوتيرة أسرع: تعتبر مصر من أكبر دول المصفوفة اهتمامًا وتشغيلًا بالتقنية العسكرية الغربية، وخاصة تلك المرتبطة بتقنيات الأقمار الصناعية العسكرية، وبناء قطع السطح الهجومية “الكورفيتات”، وشراء المقاتلات من الجيل الرابع ونصف، فضلاً عن حزم تسليحية كبيرة لتشغيل هذه القطع البحرية والجوية. وتعتبر فرنسا المورد الغربي الرئيسي للتقنية لدول هذه المصفوفة، إذ وقعّت في أكتوبر الماضي اتفاقًا دفاعيًا مع اليونان، تم بمقتضاه تعزيز قدرات اليونان في معركة الأسلحة المشتركة، والحرب الحديثة، ونشر المرصد المصري تحليلاً عن هذا الاتفاق في ورقة بعنوان “تكلفة الردع.. أسباب وتداعيات “تحالف الضرورة” بين فرنسا واليونان في شرق المتوسط“. فيما امدت فرنسا القوات الجوية المصرية بإجمالي عدد 54 مقاتلة رافال، بموجب عقدين، علاوة على إمداد البحرية المصرية بحاملتي مروحيات ميسترال، وكورفيتات الجويند2500، وفرقاطة فريم.
- تشكيل “كوابح استراتيجية” للنشاطات العدائية التي تمس الأمن القومي للرباعي: وتمثل منطقة شرق المتوسط أوضح نموذج لهذه الكوابح، التي حاصرت السياسات العدائية لأنقرة، وأفرغتها من تأثيرها الحقيقي على إحداث تغيير بقوة السلاح، أو الوكلاء. لكن تلك الكوابح تقل تدريجيًا كلما اتجهنا للجنوب حتى الساحل والصحراء.
- تقليل تكلفة مواجهة التحديات الأمنية: وذلك نظرًا لاعتماد التنسيق الأمني والعسكري المتبادل كحجر زاوية لآلية التعاون (3+1). وظهرت هذه النقطة بوضوح، في اعتراض اليونان لعدد من سفن الشحن القادمة من الموانئ التركية باتجاه ليبيا، وكانت محملة بأطنان من المتفجرات والسلاح. علاوة على استمرار تعزيز قدرات التشغيل البيني بين القوات المسلحة لهذه الدول، إذ تجري حاليًا فعاليات التدريب العسكري المشترك، ميدوزا – 11، بحرًا وجوًا بين مصر وقبرص واليونان والإمارات. هذا بالإضافة للتدريبات البحرية العابرة في نطاقي الأسطولين الشمالي والجنوبي بين القوات البحرية المصرية ونظيرتها الفرنسية خلال الأشهر الست الماضية، حيث ركزت التدريبات المشتركة على توحيد المفاهيم القتالية، والعمل بصورة “تكاملية” لمعالجة التهديدات العسكرية الطارئة.
ختامًا، إن الفلسفة المصرية في إدارة التحالفات الاستراتيجية تقوم على إيجاد مصلحة اقتصادية مشتركة بين الدول، والبناء عليها سياسيًا وعسكريًا حيث أدركت القاهرة مبكرًا أن المستقبل للتحالفات الاقتصادية عوضًا عن تلك الإيديولوجية والأمنية البحتة، التي انهارت في خضم الحرب الباردة، أمام تحالفات اقتصادية عابرة، جسدت روح منظومة العولمة الاقتصادية. وهو ما يتم حاليًا في منطقة شرق المتوسط، إذ يجمع ملف الطاقة دول هذه المصفوفة، ويؤسس لشراكة مستدامة لا تقوم فقط علي أدبيات أمنية.