شرق المتوسطسياسة

الاجتماع الأول للجنة العليا.. القمة المصرية القبرصية الأهمية والرسائل الاستراتيجية

استقبل الرئيس السيسي، صباح اليوم السبت، بمقر رئاسة الجمهورية بقصر الاتحادية، الرئيس القبرصي “نيكوس أناستاسيادس” ووفده المرافق له الذي ضم وزراء (الخارجية، الطاقة، الدفاع، الزراعة، النقل البحري)، في زيارة مهمة للقاهرة عبّر عنها كلِ مِن تشكيل الوفد رفيع المستوى المرافق للرئيس القبرصي، وتوقيت الزيارة أيضًا الذي يأتي ضمن تطورات وسياقات إقليمية تتداخل في قضايا الطاقة، والسلم والأمن الإقليميين. 

صاغت مصر، وأطلقت مع شركائها الإقليميين في شرق المتوسط “قبرص – اليونان” آلية التعاون الثلاثي المشترك في نوفمبر من العام 2014، التي سرعان ما تحولت إلى نموذج مثمر للتعاون والتكامل الإقليمي أفضى بدوره أيضًا إلى رفع مستوى التنسيق بين الثلاثي “مصر -قبرص – اليونان” من مستوى “التحركات التكتيكية” التي تفرضها الوقائع السريعة لتقلبات الجغرافيا السياسية في المنطقة؛ إلى مستوى “التحركات الاستراتيجية” بعيدة المدى. 

ولعل تدشين المنظمة الإقليمية لمنتدى غاز شرق المتوسط –مقرها القاهرة– في سبتمبر العام 2020، مثّل أبرز تجليات تلك التحركات الاستراتيجية، إذ ما تم الأخذ في الاعتبار قدرة الثلاثي على جذب شراكات الفواعل الإقليمية والدولية كفرنسا وإيطاليا وإسرائيل والأردن والإمارات والولايات المتحدة، كأعضاء دائمين أو مراقبين في إطار المنظمة الإقليمية لمنتدى غاز شرق المتوسط، ما يؤشر على إدراك مصري عميق لطبيعة التغيُر في خريطة الطاقة العالمية، ولاسيما مسارات تدفقها إلى أوروبا. 

كان الانخراط المصري السالف ذكره يدور في فضاء ودائرة شرق المتوسط، ضمن نمط التحركات الجماعية “الثلاثية”، إلا أن زيارة الرئيس القبرصي الحالية أشرت على انتهاج مصر تفعيل نمط العلاقات الثنائية داخل بوتقة التحركات الجماعية “الثلاثية” في إطار تكميلي وليس منفصل عن مجمل أهداف آلية التعاون الثلاثي. فما يثير بدوره التساؤل عن أهمية وقيمة الزيارة الحالية؟

يمكن تحديد أهمية الزيارة الأخيرة للرئيس القبرصي ووفده الوزاري في النقاط التالية:

  • تدشين اللجنة العليا للتعاون الثنائي على المستوى الرئاسي: حيث أعلن الرئيس السيسي، اليوم، خلال المؤتمر الصحفي مع نظيره القبرصي عن إجرائه الاجتماع الأول لتدشين اللجنة الحكومية العليا بين البلدين لتصبح إطارًا لمتابعة مسارات التعاون الثنائي على أعلى مستوى في البلدين في توقيت مفصلي ومهم. لتحقيق نقلة نوعية في وتيرة هذا التعاون حسبما أعلن الرئيس السيسي.

وبالنظر لمستوى التنسيق الاستراتيجي المتبع عادة بين الدول وفق صيغة (2+2) وزيري الدفاع والخارجية فقط، فإن اللجنة الحكومية العليا بين مصر وقبرص ستمنح قنوات اتصال أوسع بين المسؤولين ونظرائهم، بشكل يتخطى صيغة (2+2)، بما يمكن من تبادل وجهات النظر بشكل دوري بين مؤسسات الرئاسة والخارجية والدفاع ومجتمع الاستخبارات حيال مختلف القضايا الثنائية والإقليمية ذات الصلة.

  • توقيت الزيارة: يأتي توقت زيارة الرئيس القبرصي قبل 3 أيام من بدء انعقاد ثاني جولات المحادثات الاستكشافية بين مصر وتركيا في أنقرة، بناءً على طلب ورغبة تركية، بغية تطبيع العلاقات مع القاهرة في إطار مقاربة جديدة تعتمدها تركيا لعلاقاتها الخارجية مع دول جوارها ومحيطها بعدما فشل انخراطها الخشن وعسكرة تفاعلاتها في حصد أي مكاسب استراتيجية لتركيا تنعكس على أوضاعها الداخلية. حيث باتت تكلفة انخراطها ثقيلة بالنسبة لعوائد النشاط الخشن من شمالي سوريا والعراق وصولًا لأقاصي الساحل والصحراء جنوبًا.

وبالرغم من انتهاج تركيا لهذه المقاربة وبدء المضي فيها بخطوات متأرجحة مع مصفوفتين إقليميتين العربي (مصر – السعودية – الإمارات)، (مصر – قبرص – اليونان)، إلا أن أساليب “المقايضة” وفرض الأمر الواقع، مازالت حاضرة لدى صناع القرار في أنقرة. وهو ما تجلى في تصريحات الرئيس التركي التي دعا فيها مصر إلى ترسيم الحدود مع تركيا وألمح لإمكانية تجاهل شركاء مصر الإقليميين (قبرص – اليونان)، حيث جاء التعامل المصري سريعًا بالتأكيد على ثوابت إدارة القاهرة للعلاقات الخارجية بما يتوافق مع القانون الدولي واحترام السيادة ومواثيق الأمم المتحدة ذات الصلة. 

وهو ما يظهر بوضوح في زيارة رئيس الوزراء اليوناني “كيرياكوس ميتسوتاكيس” إلى القاهرة في يونيو الماضي، حيث أكد الرئيس السيسي موقف مصر الثابت إزاء الوضع في شرق المتوسط والقائم على ضرورة التزام الدول كافة باحترام السيادة المياه الإقليمية للدول. وتجدر الإشارة إلى أنه قبل زيارة رئيس الوزراء اليوناني لمصر في يونيو الماضي بأسبوع، قال وزير الخارجية سامح شكري، إن قبرص واليونان لا تنزعجان بشأن مساعي التقارب المصري – التركي، وأكد أن هناك ثقة متبادلة بين مصر وقبرص واليونان، ويتم إطلاعهم على كل التطورات في منطقة شرق المتوسط، ومراعاة المصالح المشتركة. وأكد الرئيس السيسي في المؤتمر الصحفي اليوم مع نظيره القبرصي هذه الثوابت حيال قضية شرق المتوسط برمتها.

  • مناورات “بطليموس 2021”: تأتي زيارة الرئيس القبرصي بالتزامن مع انطلاق مناورات “بطليموس 2021” بين مصر وقبرص.

حيث بدأت فعاليتها في قبرص يوم 2 سبتمبر الجاري، بمشاركة عناصر من القوات الخاصة بين البلدين وذلك في إطار خطة التدريبات المشتركة للقوات المسلحة الرامية لتوحيد المفاهيم القتالية للقوات المشاركة، ما يؤشر على تكامل العمل المؤسساتي بين الرئاسة والدفاع لكلا البلدين.

من هذه النقاط الثلاثة، تأتي القمة المصرية القبرصية لتشكل أهمية خاصة، بما يفضي لبلورة عدة رسائل استراتيجية ناجمة عن مراوحة مصر العمل بين نمط “آلية العمل الثلاثي” والتنسيق الثنائي المكمل، يمكن عدها في الآتي.

  • صعوبة فك المصفوفة: منذ أن بدأ التحرش التركي بالمياه الإقليمية لكل من قبرص واليونان، ينتقل من مستوى المناوشة شبه اليومية إلى محاولة حقيقية لفرض الأمر الواقع ورفع احتمالات المواجهة العسكرية؛ اختبرت تركيا بوسائل عدة قوة المصفوفة (مصر – قبرص – اليونان)، من خلال تحركات أحادية شملت:
  • السعي لتسوية القضية القبرصية مقابل الدخول في معادلة غاز شرق المتوسط وخفض احتمالات التصعيد العسكري مع قبرص.
  • ابتزاز اليونان بورقة اللاجئين، وتوجيه عشرات الآلاف من اللاجئين للحدود البرية والبحرية مع اليونان، وتكثيف خروقات السيادة الجوية والمرور من بالمقاتلات “كاملة الحمولة التسليحية” من فوق الجزر اليونانية. 
  • السعي إلى إبرام تسوية منفردة مع مصر، بما يتجاهل الحقوق القبرصية واليونانية في مياههما الإقليمية. 
  • دعم الشبكة الإقليمية لتنظيمات القاعدة وداعش بداية من الغرب الليبي وصولًا لساحل غينيا.

فيما كانت استجابة الثلاثي ” مصر – قبرص – اليونان” مزيدًا من التنسيق على مستويات الرئاسة والدفاع والاقتصاد والاستخبارات، حيث أجرى الثلاثي ثمانية لقاءات قمة منذ إعلان القاهرة في نوفمبر 2014، فضلًا عن توافق ملموس بين أقطاب الثلاثي حيال المواقف الإقليمية “شرق المتوسط + الصراع الليبي + السد الإثيوبي + القضية الفلسطينية + تطورات الميدان في كل من سوريا والعراق واليمن”. 

ما جعل من آلية العمل الثلاثية تنخرط في قضايا تتسع عن دائرة شرق المتوسط، ووضعت كلًا من قبرص واليونان في شمالي العراق وسوريا، كما وضعت مصر في امتدادات شرق وجنوب أوروبا. وكان الرهان الأكبر فيما يمكن أن تحدثه المحادثات الاستكشافية بين مصر وتركيا على قبرص واليونان، حتى أعلنت الدوائر الحكومية المصرية المعنية بالتنسيق المشترك، ثوابت راسخة تجاه قضية شرق المتوسط، وتُرجمت في زيارات مكثفة ومتبادلة لمسؤولي البلاد الثلاثة منذ أبريل الماضي تحديدًا. ما يجعل تركيا تواجه صعوبة في الالتفاف على المصفوفة (مصر – قبرص – اليونان) التي بدورها تُشكل نواة مصفوفة أكبر (مصر – قبرص – اليونان – الامارات – السعودية – فرنسا – إيطاليا – إسرائيل).

  • تقويض مخططات العسكرة التركية: أشارت تقارير صحفية إلى وجود “مسيرات” تركية في قاعدة جوية في شمال قبرص، حيث تحتفظ تركيا بنحو 35 ألف جندي وعتاد ثقيل، منذ العام 1974 حينما اجتاحت القوات التركية الثلث الشمالي لجزيرة قبرص بعد حراك سياسي تقول أنقرة أنه كان يهدف لتوحيد الجزيرة مع اليونان. 

وتشير التقارير الصحفية لنشر تركيا “مسيرات” في قاعدة عسكرية بـ مدينة (Gecitkale)، حيث تفاخر زعيم القبارصة الأتراك الانفصاليين “إرسين تتار” على شاشة التلفزيون التركي في وقت سابق من أغسطس الماضي بأن طائرات بيرقدار تي بي 2 التركية يمكن أن تنطلق الآن بشكل أسرع بكثير من القواعد الموجودة في البر الرئيسي لتركيا. وتحتفظ تركيا بعدد محدود من الطائرات المسيرة في الجزء الشمالي من قبرص منذ العام 2019. لكن وكالة آسوشيتد برس قالت إنها حصلت على تقرير استخباري، يشير إلى أن القاعدة الجوية يتم تطويرها لجعلها قادرة على تشغيل مسيرات اضافية وطائرات مراقبة وطائرات تدريب وطائرات مقاتلة متقدمة.

واعترضت الحكومة القبرصية على نشر تركيا “المسيرات” وعدّته أداة لمتابعة “أجندة توسعية” لتركيا لفرض السيطرة على منطقة غنية بالغاز. وتجدر الإشارة إلى أن نشر المسيرات التركية في هذا الجزء الشمالي يتيح إجراء أنقرة لعمليات هجومية بمدي 200 كم، إلا أن الخطورة تكمن في تحول قاعدة المسيرات إلى قاعدة يمكن من خلالها شن عملية عسكرية جوية بالمقاتلات وطائرات الشحن الثقيل. وتطرق الجانبان المصري والقبرص في مؤتمر اليوم، للسياسات الأحادية العدائية التركية، حيث أكد الرئيس السيسي أن موقف مصر رافض لأي محاولات لفرض الأمر الواقع بشأن قضية قبرص، ودعا إلى حل القضية وفق نظام فيدرالي يتوافق والمقررات الأممية والشرعية الدولية.

فيما مازالت وحدات القوات الخاصة لكلا البلدين تنفذ التدريبات المشتركة في انتظار النسخة القادمة من مناورات “ميدوزا”. حيث تسعى تركيا إلى التحرك عسكريا في المنطقة الممتدة من ساحلها الجنوبي وصولًا إلى غرب ليبيا ضمن مجال أقل “مقاومة” ولاسيما أنها مازالت تحتك عسكريًا بعملية “إيريني” الأوروبية في البحر المتوسط بما يضع علاقتها المتوترة مع الاتحاد الأوروبي تحت ضغط أكبر.

  • الإسراع في مشاريع الربط “الطاقوي”: تطرق الجانبان اليوم، لمشاريع الربط الطاقوي بينهما “الكهربائي – خط انابيب الغاز”، حيث اتفقت مصر وقبرص على إنشاء خط انابيب، بتكلفة مليار دولار لنقل الغاز من حقل افروديت لمحطتي الإسالة في إدكو ودمياط، ومن المرجح أن يتم الانتهاء من تدشين الخط 2024-2025، وذلك لتسييله في المحطات المصرية وتصديره لأوروبا.

 وقد اتفق الجانبان في زيارة اليوم على تفعيل دور اللجنة المشتركة في اتفاقية نقل الغاز عبر البحر، فضلًا عن مشروع للربط الكهربائي بكابل بحري بين مصر وقبرص واليونان بـ 2000 ميجا وات، وسيحقق المشروع دعائم لتثبيت استئثار مصر بموضع ومكانة “المركز الإقليمي” لتداول الطاقة، وهو أحد المشروعات التي تساعد على ربط مصر بالشبكة الكهربائية الأوروبية.

وتشير التوجيهات الرئاسية للبلدين بالإسراع في مشاريع الربط الكهربائي إلى عدم المثول لسياسة فرض الأمر الواقع التركية التي عبّرت عنها اتفاقية انقرة مع حكومة فايز السراج، نوفمبر 2019.

  • دوائر الضغط مقابل تحركات الضغط: تهدف تركيا من خلال تحركاتها الأحادية في شمال قبرص ولاسيما في قضيتي “فاروشا – نشر مسيرات إضافية” إلى الضغط على المصفوفة المناوئة لسياساتها الأحادية أملًا في الحفاظ على مستوى من الضغط يتيح لها في أدنى درجة “إبطاء تطبيع العلاقات مع مصر”، وفي أعلى درجة الاحتفاظ بأوراق تصعيد عسكري غير نمطية، وخاصة كون “المسيرات” عنصر فاعل في الحرب الحديثة وتتطلب معالجة من الدفاع الجوي تختلف عن مواجهة الفرقاطات والمدمرات للمقاتلات وقطع السطح.

\إلا أن تحرك “الضغط” التركي، قوبل بـ “دوائر الضغط” من المصفوفة في كل من غرب ليبيا وشرق المتوسط وشمالي سوريا والعراق، حيث أكد الرئيس السيسي اليوم على ضرورة خروج كافة القوات الأجنبية من غرب ليبيا واتفق معه الرئيس القبرصي، الذي أبدى دعمه للمبادرة المصرية حيال قضيتي ليبيا وشرق المتوسط. هذا فضلًا عن التنسيق الدفاعي المصري القبرصي اليوناني، حيث شهدت قبرص في مايو الماضي لقاءً ضم وزراء الدفاع، فيما زار وزير الدفاع القبرصي القاهرة في يوليو الماضي، وقد سبقه زيارة قائد الحرس الوطني في يونيو. كما تُشكل التحركات المصرية الأخيرة في ملفات العراق ولبنان عنوانًا لاتساع نطاق السياسة الإيجابية النشطة المصرية لتصل لدوائر تنخرط بها تركيا عسكريًا على مرمى من حدودها. 

ختامًا، تبرهن القيادة المصرية على قدرتها في التحرك ضمن النمط “الثنائي” داخل إطار الية التعاون الثلاثي، وبتتبع التحركات المصرية في هذا النمط نجد أنها تعمل على تقوية وتدعيم المصفوفة الثلاثية، لتصبح قدراتها على احتواء السياسات الحادة التركية أكثر مرونة، بما يخفض من احتمالات التصعيد العسكري نظرًا لامتلاك منظومة ردع كبري، وينقل الصراع إلى مستوى أقل حدة، تنشط فيه التحركات التكتيكية التي عبر عنها التحرك التركي الأخير المتمثل في نشر “المسيرات” في قاعدة جوية بشمال قبرص، لتبقى عمليات معالجة هذا التحرك ضرورية لما يحتويه من انتهاكات سياسية ومخاطر أمنية تدفع بحالات من عدم الاستقرار الممتد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى