آسيا

الصين من الداخل..شي جين بينغ والعصر الجديد (2)

انتهى الجزء الأول من سلسلة “الصين من الداخل” بتلخيص تجربتي ماوزي دونغ ودينغ شياو بينغ ومعضلة الديمقراطية بالنسبة للصين في أعقاب حادث تيان آن مين، لنبدأ في هذه الحلقة الحديث عن ثالث القادة الأكثر تأثيرًا في تاريخ الصين الشعبية وهو شي جين بينغ الرئيس الحالي للصين الشعبية منذ نهايات عام 2012. 

يُصنف “شي” من قبل بعض المحللين بأنه أقوى قائد حكم الصين منذ حقبة ماو تسي تونغ مؤسس الصين الشعبية، لكن البعض الآخر يترقب إلى أي مدى يمكن أن يتشابه كل من “ماو” و”شي”.

الثورة الثقافية وتشكيل شخصية جين بينغ

إذا كانت الثورة الثقافية إحدى خطأين في حقبة ماو تسي تونغ إلى جانب القفزة الكبرى إلى الأمام كما ذكرنا في الجزء الأول، فإنها “شي” أيضًا كان واحدًا من ضحاياها. 

فوالد جين بينغ “شي تشونغ شون” كان أحد قادة الحزب الشيوعي الذين طالتهم نيران ما عرف بالتطهير خلال الثورة الثقافية في ستينيات القرن الماضي، حيث كان شي الصغير على وشك دخول المعتقل بوصفه عدوًا للثورة، وقضى وعائلته سبع سنوات في منفى داخلي في إحدى القرى البعيدة. 

يقول شي جين بينغ عن تلك الفترة في حديث صحفي نقلته BBC “كنت في الرابعة عشر من عمري عندما سألني الحرس الأحمر: هل تعرف مدى خطورة جرائمك؟ فأجبت: يمكنكم تقدير ذلك.. هل تكفي لإعدامي؟ فردوا: يمكننا إعدامك مئات المرات. فأجبت: لا يوجد فرق بين مئات المرات ومرة واحدة”.

ورغم أن “شي” لا يتحدث علنا عن بدايات الثورة الثقافية بين عامي 1966 و1968وما واجهه خلالها ولا يتحدث المقربين منه للصحافة الأجنبية وفقًا لصحيفة نيويورك تايمز. ووفقًا للمصدر ذاته فإن مذكرات بعض أفراد العائلة –التي فقدت ابنتها أيضًا خلال هذه الفترة- تقدم كيف تحول شي الخجول المحب للشعر الصيني الناشئ في أحضان الحزب الحاكم في سنوات الثورة الثقافية وما صحبها من صخب، فمن مدرسة الأول من أغسطس الداخلية التي تضم إلى حد كبير أبناء كوادر الحزب والجيش التي أغلقها نشطاء الثورة إلى مدرسة رقم 25 التي كانت مرتعا للاستياء من أبناء النخبة الحزبية. 

تقول الأستاذة في جامعة أوكسفورد والباحثة في الثورة الثقافية في الصين باتريشا ثورنتون Patricia M. Thornton إن جيل الرئيس الصيني الحالي يبجل ماو لكن عائلة جين بينغ نفسه عانت من هذا العنف الناتج عن الثورة الثقافية، ولذلك فإن نظرته متجذرة في الرفض النخبوي لهذه “الاضطرابات”، إضافة إلى أنه شهد جانبي هذه الفترة تجعله شخصية مثيرة للاهتمام وصعبة القراءة. 

وربما يعزى صعوبة قراءة شخصية شي لما حدث لاحقًا، فلم يكن شي معارضًا للحزب الشيوعي بل سعى للانضمام له وهو ما نجح فيه عام 1974 ليتدرج بعدها في المناصب لقمة الهرم الحزبي والسياسي في البلاد.

مما سبق نستنج أن كلًا من الرئيس السابق دينغ شياو بينغ –الذي أعاد تشكيل الاقتصاد الصيني- وشي جين بينغ يتشاركان في المعاناة من الاضطرابات الناتجة عن الثورة الثقافية وأنهما استطاعا الوصول لقمة السلطة في مراحل لاحقة ليفتح الباب للتساؤل حول التشابه بينهما.

“دينغ” و”شي” وعصر الإصلاح الاقتصادي

كان شي الأب “والد الرئيس الصيني” في مرحلة الإصلاح هو المسؤول الأول عن مقاطعة قوانغدونغ الواقعة جنوب الصين والتي تضم شنتشن والتي كانت قاعدة الاختبار لاقتصاد قائم على السوق بشكل أكبر، وحينما حلت الذكرى الأربعين لهذه الإصلاحات عام 2018 وجد شي جين بينغ في ذلك فرصة لتصحيح السجل التاريخي للدور الذي لعبه والده، Xi Zhongxun شي تشونغ شون في تحول الصين من دولة معزولة فقيرة إلى عملاق اقتصادي. 

وفقًا لصحيفة فاينينشيال تايمز فإن شي يسعى لربط اسمه واسم عائلته بفترة الإصلاح التي شهدتها الصين في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن العشرين عبر تشكيل هذه الفترة المرتبطة بشكل وثيق باسم دينغ شياو بينغ. 

وبحسب مدير معهد لاو الصين التابع لكينجز كولدج في لندن فإن “تعزيز دور عائلة شي في نشأة الإصلاح يعزز من أهمية هذه الفترة والشرعية التي تمنحها”. 

هذا الأمر أدخل كل من عائلتي دينغ وشي المنتميتان للنخبة الصينية للدخول في منافسة وخلاف أيديولوجي عكسته خطبة دينغ الابن “دينغ بوفانغ” في سبتمبر 2018 التي دعا إلى العودة إلى أولويات عصر الإصلاح المتمثلة في حل المشكلات الداخلية للصين مع الحفاظ على العلاقات الخارجية المستقرة في إشارة مبطنة إلى الحرب التجارية بين واشنطن وبكين وتباطؤ النمو الاقتصادي والدعاية التي يبثها “شي”. 

ويقول منتقدو “شي” إن الرئيس الصيني قد تراجع عن سياسات عهد دينغ لصالح تلك التي تذكر بدرجة أكبر بزمن ماو، حيث أخمد الأصوات المختلفة داخل الحزب الشيوعي ودمج الحزب مع البيروقراطية الحكومية بدلًا من إنشاء بيروقراطية محترفة، مدللين على ذلك بأن الرئيس الصيني أعطى مساحة أكبر للشركات المملوكة للدولة في مقابل الضغط على القطاع الخاص الذي أضفيت عليه صفة الشرعية مطلع ثمانينيات القرن العشرين، وأن عمليات التطهير تم إحياؤها عبر حملته لمكافحة الفساد.

فيما يقول آخرون مثل الخبير في السياسة الصينية في جامعة كاليفورنيا فيكتور شيه إنه لا يرى أن في ذلك ازدراء لسياسة دينغ نظرًا لأنها تم تجاهلها قبل عام 2008 بالفعل أي قبل صعود شي جين بينغ. 

أفكار “شي” والمؤتمر رقم 19

في أكتوبر من عام 2017 وضع الحزب الشيوعي شي جين بينغ في مكانة مساوية لمؤسس الصين الشعبية ماو تسي تونغ من خلال كتابة اسمه وأفكاره في دستور الحزب في نهاية مؤتمر الحزب في ذلك العام، وأرسل القرار إلى عموم البلاد ما يعني  أن مراجعة شي وسياساته  “هرطقة” أيدولوجية. 

فبحسب المبادئ العامة لنص دستور الحزب المعدل في المؤتمر رقم 19 فإن ” الحزب الشيوعي الصيني يتخذ الماركسية اللينينية وأفكار ماو تسي تونغ ونظرية دنغ شياو بينغ وأفكار “التمثيلات الثلاثة” المهمة ومفهوم التنمية العلمية وأفكار شي جين بينغ حول الاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد مرشدا لعمله”.

وبحسب صحيفة الشعب الصينية يوضح فكر “شي” 8 قضايا أساسية على المستوى النظري، كما يطرح مبادئ أساسية من 14 نقطة تهدف إلى توجيه وإرشاد جهود العمل في البلاد. وقدم شي جين بينغ المبادئ الـ14 وأفكاره في العصر الجديد من خلال تقريره للحزب والذي يمكن الاطلاع عليه في هذا الرابط.

“أفكار شي جين بينغ حول الاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد” هذه الكلمات تحمل أهمية بالنسبة لمستقبل الصين، فبحسب نيويورك تايمز فإن “شي” أشار في تقريره للحزب في هذا المؤتمر إلى أنه “إذا كان ماو قد جعل الصين مستقلة، ودينغ جعلها مزدهرة، فإنه سيجعلها قوية مرة أخرى – ويدفع البلاد إلى حقبة جديدة” إذ قسم تاريخ الصين الحديث إلى حقبة من ثلاثين عامًا بقيادة ماو قادت البلاد للاستقلال وإنهاء الحرب الأهلية وحقبة أخرى من 3 عقود أيضًا مع دينغ قادت إلى التنمية الاقتصادية .

فترات لامحدودة

في عام 2018 وافق البرلمان الصيني على مقترح الحزب الحاكم بإلغاء تحديد فترات بقاء رئيس البلاد في السلطة ما فتح الباب لشي جين بينغ للبقاء في السلطة مدى الحياة. 

هذه الخطوة دفعت صحيفة نيويورك تايمز على سبيل المثال للقول إن أفكار شي جين بينغ ستكون هي المحدد الأساسي للسياسة الصينية خلال العقد المقبل وربما لفترة أطول. فمنذ وصوله للسلطة تعهد شي بـ”تجديد عظيم” يعيد بلاده إلى مكانتها القديمة، حيث قدم استثمارات تقدر بتريليون دولار في مبادرة الحزام والطريق، ووسع حجم الجيش وأقام منشآت عسكرية في المياه المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي.

أما على مستوى السياسة الداخلية فإنه يؤكد دائمًا حكم الحزب الواحد المتمثل في الحزب الشيوعي، وأن هدف “الصين الموحدة والقوية” لا يتحقق إلا تحت حكم الحزب، الذي يحتاج إلى قائد حاسم هو شي نفسه.

“شي” وجيش التحرير الشعبي

في شرح الأستاذ بجامعة سيدني والخبير في الاقتصاد الصينيSalvatore Babones   أفكار “شي” على موقع مجلة “فورين أفيرز” يقول إنه على الرغم من أن المبدأ الواضح لفكر الرئيس الصيني هو أن الحزب أولا، ورغم أنه قائد لديكتاتورية إلا أنه ليس محصنًا ضد السياسة، وبالتالي يعمل “شي” على إزكاء القومية من أجل الحفاظ على ثقة الجمهور في قيادة الحزب الشيوعي، مشيرًا إلى أنه “عندما يتعلق الأمر بإذكاء الحماسة القومية ، فإن الإنفاق على الجيش يساوي كل يوان”.

ومع تجربة الجيش السابقة في أحداث تيان آن مين واستخدام دينغ شياو بينغ له لفرض رؤيته لمستقبل الصين فإن شي لديه قلق بشأن إبقاء الجيش تحت سيطرة الحزب الشيوعي. ويرى الكاتب رغم ذلك أن مهام الجيش الصيني أصبحت الآن في بحر الصين الجنوبي وجبال الهيمالايا وليس في بكين كما في السابق، مشيرًا إلى أن شي يرى جيش التحرير الشعبي PLA أكثر فائدة كأداة لتعزيز الشعبوية الشوفينية أكثر من القمع السياسي المباشر. 

ويرى كذلك أنه على الرغم من تأكيد شي العلني دائما أولوية السياسة على السلطة العسكرية فإن الجيش الصيني لم يعد يشكل تهديدًا مباشرًا على الشعب الصيني، وأن كل المؤشرات تقول إن تقوية الجيش في الصين تحظى بشعبية في الصين كما هي في الولايات المتحدة، إن لم تكن أكثر من ذلك. وبالتالي فإن العنصر الرئيس الأول لفكر شي جين بينغ وفقًا للكاتب هو تحول جيش التحرير الشعبي من قوة احتياطية للقمع الداخلي إلى قوة قتالية قادرة على إبراز القوة الصينية في العالم.

الخلاصة، استطاع شي جين بينغ وضع نفسه في مصاف القادة الأهم في تاريخ الصين، وخلال سنوات حكمه الأولى وضع يده على مفاصل الدولة الصينية ليبدأ بوضع أفكاره التي تشكل فكر القيادة السياسية في الصين التي يقودها مدى حياته خلال الفترة القادمة.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى