الصحافة الدولية

من الحرب إلى المفاوضات.. الولايات المتحدة تقترب من السلام مع طالبان

تقترب الولايات المتحدة من السير على طريق الخروج من أفغانستان، بعد حرب امتدت ما يقرب من عقدين من الزمان، وخسائر بشرية ومالية كلفتها تريليوني دولار.

“اتفاق هدنة” توصلت إليه الحكومة الأمريكية مع حركة طالبان لإثبات حسن النوايا، تتوقف بموجبه أعمال العنف لمدة سبعة أيام تبدأ من الحادي والعشرين من شهر فبراير حتى التاسع والعشرين من الشهر ذاته وفي حال التزام الطرفين بالهدنة يوقع مفاوضو واشنطن وطالبان على الاتفاقية الأوسع نطاقًا في 29 فبراير بحضور مراقبين دوليين، ثم بدء الانسحاب التدريجي للقوات الأمريكية في مقابل ضمانات من طالبان بأن أفغانستان لن تُستخدم كقاعدة لهجمات إرهابية ضد الغرب.

حلحلة جدية للوضع في أفغانستان، لكنها لا تخلو من نقاط غموض وعدم يقين، فواشنطن تخشى عدم تنفيذ الاتفاق على الأرض، ومن غير الواضح طبيعة الدور الذي قد تلعبة الحكومة الأفغانية خلال المحادثات الأفغانية – الأفغانية التي ستتبع توقيع الاتفاق، فهل يمكن أن تكون شريكاً كاملاً في ظل رفض حركة طالبان الاعتراف بسلطات كابول، أم تغير الحركة موقفها من الحكومة، ثم ماذا يقدم الاتفاق لتهدئة مخاوف البعض من احتمال استغلال طالبان لصالحها ما بات يوصف بالفراغ الذي قد تتركه القوات الأمريكية. وعلى الرغم من أن محتوى الاتفاق لم يتم الإعلان عنه، غير أن الخطوط العريضة له تشير إلى:
انسحاب 5400 جندي أمريكي من أصل 13 ألف جندي وذلك خلال 135 يوماً، وإتمام الانسحاب الشامل في مدة تتراوح بين ثلاثة أعوام وخمسة.
تلتزم حركة طالبان بعدم استخدام الأراضي الأفغانية منطلقاً لاستهداف جهات أخرى.
البدء في مفاوضات أفغانية تهدف إلى تقرير مستقبل البلاد، بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان ومختلف الأحزاب السياسية في أفغانستان لوضع أسس للسلام في جميع أنحاء البلاد.
موافقة حركة طالبان على عدم استضافة أو تدريب أو جمع التمويل لإرهابيين دوليين في المناطق التي تسيطر عليها الحركة، على المدى الطويل.
إطلاق سراح خمسة آلاف سجين من طالبان معظمهم محتجزون لدى الحكومة الأفغانية.
يشكل الاتفاق بالنسبة لواشنطن فرصة سلام حقيقية، توصلت إليها عقب ما يزيد عن تسع جولات من محادثات وصفت بالشاقة. سيسمح الاتفاق للرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي يخوض معركة هامة لإعادة انتخابه، من الوفاء بوعده بإعادة القوات الأمريكية إلى الوطن، بعد أن أصبحت الحرب مأزقاً لعدم تمكن أي من طرفي النزاع إعلان النصر، وتزايد أعداد الضحايا من الجانبين. أما أفغانستان يعد الاتفاق بداية حقبة أمل جديدة لبلد عاش أربعين عاماً تحت وطأة الصراع. في المقابل سيمنح نجاح محادثات السلام لحركة طالبان صفة الشرعية التي كانت تفتقر إليها في الوقت الذي كانت تدير فيه البلاد بالقوة، ورفع راية النصر لتحقيق أهم مطالبها وهي انسحاب جميع القوات الأجنبية من أفغانستان.

دلالات مختلفة

كانت الولايات المتحدة قد أعلنت في سبتمبر 2019 وقف محادثاتها مع حركة طالبان، على خلفية مقتل جندي أمريكي في انفجار استهدف منشآت حكومية في العاصمة كابول. ليتراجع الرئيس الأمريكي بعد ذلك ويعلن استئناف المفاوضات مرة أخرى خلال زيارته للقوات الأمريكية في أفغانستان، وأعلنت كذلك طالبان استعدادها لاستئناف المفاوضات. وطرح اتفاق خفض العنف الذي رحبت به القوى الدولية المختلفة عدد من الدلالات يتمثل أبرزها في:
خفض العنف وليس وقف إطلاق النار: لا يعد اتفاق خفض العنف بمثابة وقف لإطلاق النار، ولم توضح الولايات المتحدة المعايير المستخدمة لقياس مدى نجاح فترة خفض العنف. على الرغم من أن مسئولي الإدارة الأمريكية أوضحوا أن الشروط محددة وتتضمن إنهاء التفجيرات والعمليات الانتحارية ضد القوات الأمريكية، في غضون ذلك تواصل القوات الأمريكية والأفغانية القيام بعمليات مكافحة الإرهاب ضد داعش والقاعدة.
عدم الاستعداد للانسحاب الكامل: لم يعلن البنتاجون ما إذا كانت الولايات المتحدة وافقت على سحب جميع قواتها، والمكلفة بمهمتان: الأولى، مساعدة القوات الأفغانية في قتال طالبان، والثانية، القيام بعمليات مكافحة الإرهاب ضد تنظيمي القاعدة وداعش، وقال وزير الدفاع الأمريكي “مارك إسبير” إذا نجحت الهدنة وبدأت محادثات السلام الأفغانية، فإن الولايات المتحدة ستخفض عدد قواتها بمرور الوقت إلى حوالي 8600 جندي في أفغانستان. في حين أكد سهيل شاهين، المتحدث باسم المكتب السياسي لحركة طالبان، أن الحركة تتوقع انسحابًا كاملاً. وقال في تغريدة “بناءً على الاتفاق مع الولايات المتحدة، فإن جميع القوات الدولية ستغادر أفغانستان وسينتهي الغزو ولن يُسمح لأحد باستخدام الأراضي الأفغانية ضد الآخرين”.
تعقد المفاوضات الأفغانية–الأفغانية: ستبدأ مفاوضات في 10 مارس بين طالبان والحكومة الأفغانية، ومن المتوقع تعقدها في ظل رفض حركة طالبان لحكومة “أشرف غني” واعتبارها دمية أمريكية، ومن المحتمل استغراقها شهورًا أو سنوات حتى تكتمل. من جانبه، أعرب الرئيس الأفغاني عن رغبته في إجراء محادثات مع طالبان، وعدم التسرع في المباحثات حتى لا يتم الوصول إلى صفقة غير مرضية يمكن أن تؤدي إلى إراقة الدماء في المستقبل وجعل الحياة أسوأ بالنسبة لشعب أفغانستان وخاصة النساء والأقليات التي عانت كثيراً تحت حكم طالبان. وتشير التقديرات إلى احتمال فشل المفاوضات بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان، حيث ترغب الحركة في العودة لحكم البلاد مرة أخرى والعودة لما قبل الغزو الأمريكي في 2001. وبالتالي فهي تهدف إلى الحصول على أكبر قدر ممكن من القوة في أي صفقة محتملة. من خلال السيطرة على بعض الوزارات الحكومية، أو حتى إعادة كتابة أجزاء من دستور البلاد ليتماشى مع أيديولوجيتها المتشددة.

كيف فشلت الولايات المتحدة في أفغانستان؟

“ربما يضطر الأمريكيون يومًا ما لإرسائل مئات الآلاف من قواتهم لأفغانستان. وإذا دخلوها، سيعلقون. لدينا قبر بريطاني في أفغانستان، وقبر سوفيتي، وسيكون لدينا آنذاك قبر أمريكي”. بهذه كلمات وصف أحد قادة حركة المجاهدين التدخل الأمريكي في أفغانستان.
سيطرت حركة طالبان على أفغانستان في أوائل التسعينيات، وبحلول عام 1998 سيطرت الحركة على حوالي 90% من البلاد وفرضت فكرها المتطرف على المواطنين. وبعد أقل من شهر من هجمات الحادي عشر من سبتمبر دخلت الولايات المتحدة أفغانستان لقتال تنظيم القاعدة وإزاحة طالبان من السلطة. وبالفعل فقدت طالبان السيطرة على أفغانستان بسرعة وتراجعت إلى باكستان، حيث أعادت تجميع صفوفها مرة أخرى. والآن، وبعد مرور 18 عامًا، تعد طالبان من أكثر الجماعات المتطرفة التي تقاتل الولايات المتحدة والحكومة الأفغانية. ولقي أكثر من 2400 جندي أمريكي، وألف جندي من حلف الناتو ودولاً أخرى، و 38 ألف مدني أفغاني حتفهم في الصراع.
كما توسع إنتاج المخدرات -مصدر الدخل الرئيسي لطالبان- بسرعة في السنوات الأخيرة على الرغم من استثمار أكثر من 10 مليارات دولار في عمليات مكافحة المخدرات، وصفتها هيئة مراقبة الحكومة الأمريكية التي تشرف على إعادة إعمار أفغانستان بـ”الفاشلة”. وأصبحت أفغانستان مصدراً لـ80% من الانتاج العالمي غير المشروع لمخدر الأفيون. كما تفشى الفساد في المؤسسات الديمقراطية الأفغانية، وأعاق تقدم الاقتصاد، ووصلت نسبة البطالة في أفغانستان أكثر من 25% فضلاً عن وجود الملايين تحت خط الفقر على الرغم من إنفاق عشرات المليارات لدعم التنمية الاقتصادية.
وكان أحد الأهداف لا الرئيسية للوجود الأمريكي في أفغانستان تدريب الآلاف من القوات الأفغانية لمواجهة حركة طالبان، ومع ذلك لا يمكن للقوات الأفغانية أن تدعم نفسها في الوقت الحالي. ويعاني الجيش الأفغاني من زيادة معدلات الإصابات والوفيات بين صفوفه، ووفقًا للأمم المتحدة، كلف الصراع دافع الضرائب الأمريكي أكثر من تريليون دولار من التكاليف العسكرية وتكاليف إعادة البناء منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2001.
وقدرت الأمم المتحدة في تقريرا لها أن أعداد الضحايا من المدنيين الذين تسببت القوات الأمريكية والأفغانية في مقتلهم أعلى من تلك التي قتلت على أيدي “طالبان”، مما يمثل كابوسا للسكان المدنيين. فمنذ عام 2016 (على الرغم من تزايد أعداد الضحايا المدنيين عام 2010)، تجاوز العدد 5000 شخص سنويا، وفي عام 2019 بلغ عدد الضحايا 3812 شخصا حتى شهر يونيو 2019.

أخيراً إن الاتفاق المقرر عقده بين الولايات المتحدة وحركة طالبان في 29 فبراير ليس نهاية المطاف، بل سيعقبه محادثات سلام بين الحركة والحكومة الأفغانية، وهي مرحلة حرجة يمكن أن تنهار فيها العملية برمتها، في ظل رغبة طالبان في السيطرة على السلطة واندماج مقاتليها في الجيش الأفغاني. وعلى الرغم من أن طالبان ليس لديها ما يكفي من القوة العسكرية والسلطة للسيطرة على البلد بأكمله. لكن يمكنها بالتأكيد السيطرة على أجزاء من المجتمعات الريفية في أفغانستان والمشاركة في القتال في مناطق متعددة. ويمكن لطالبان أيضا أن توقف المحادثات مع الحكومة الأفغانية وأن تنتظر إعادة انتخاب ترامب أو أي رئيس آخر في المستقبل لإرهاق عملية السلام وإعادة القوات الأمريكية مرة أخرى.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى