
يبدأ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يوم 14 فبراير الجاري زيارة مهمة إلى مصر، في زيارة تستهدف بحث النهوض بالعلاقات الثنائية، وتأتي كاستكمال لمسار تطبيع العلاقات بين الدولتين، ولعل أهمية زيارة “أردوغان” ترتبط بجملة من الاعتبارات الرئيسة وعلى رأسها كونها الزيارة الأولى له إلى مصر منذ 11 عامًا، جنبًا إلى جنب مع وجود العديد من التطورات والمتغيرات الإقليمية والدولية التي تدفع باتجاه تنسيق المواقف بين البلدين، خصوصًا في ضوء الثقل الإقليمي والوزن الجيوسياسي الكبير لهما في المنطقة، بالإضافة إلى وجود العديد من المصالح الاستراتيجية التي تربط البلدين على كافة المستويات الجيوسياسية والاستراتيجية والاقتصادية.
محطات لإعادة بناء الثقة بين البلدين
شهدت الأشهر الأخيرة العديد من التحركات المكثفة متعددة الأنماط استهدفت في مجملها وضع الأسس والمحددات التي تحكم إعادة بناء العلاقات المصرية التركية، فكانت النتيجة العملية لهذه الجهود متجسدةً في جملة من المشاهد سواءً ما يتعلق بإعلان البلدين في 4 يوليو 2023 عن رفع مستوى علاقاتهما الدبلوماسية إلى مستوى السفراء، مرورًا بمباحثات الرئيس عبد الفتاح السيسي مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 10 سبتمبر 2023 على هامش قمة مجموعة العشرين في نيودلهي، ووصولًا إلى الزيارة الحالية للرئيس التركي إلى القاهرة، وفي هذا السياق يمكن بيان الملامح الرئيسة لمسار إعادة بناء العلاقات بين الجانبين، وذلك على النحو التالي:
1- إعلانات تمهيدية من تركيا لاستئناف العلاقات: بدأ المسار الحالي لاستعادة العلاقات الثنائية بين مصر وتركيا، بمبادرات تركية تمثلت في رسائل بالحرص على استعادة العلاقات مع مصر، وقد ظهرت أولى هذه البوادر في مارس 2021 عندما أعلن وزير الخارجية التركي السابق مولود تشاويش أوغلو وجود اتصالات دبلوماسية مع مصر على مستوى وزارة الخارجية. ثم أعقبها خلال الشهر التالي مباشرة موافقة البرلمان التركي بالإجماع على اقتراح بإنشاء مجموعة صداقة برلمانية مع مصر.
2- مباحثات استكشافية مصرية تركية: اعتمد مسار التقارب المصري التركي بشكل رئيس على ما عُرف إعلاميًا بجلسات المباحثات الاستكشافية، في إشارة إلى المباحثات التي عُقدت بين الجانبين لتناول وبحث القضايا العالقة والملامح الأساسية لمسار إعادة بناء العلاقات، وقد عٌقدت أولى هذه الجلسات في مايو 2021، وبعد نحو أربعة أشهر في سبتمبر 2021 عُقدت ثاني هذه الجلسات، وصولًا إلى عقد العديد من جلسات التباحث الاستكشافي بين الجانبين حتى اليوم، والتي ناقشت جملة من القضايا المهمة سواءً ما يتعلق بالتطورات التي تشهدها المنطقة، أو ما يتعلق بالمصالح المتبادلة وسُبل تعزيزها.
3- خضوع مسار التقارب لـ “اختبار المصالحة”: اعتبرت بعض الدوائر أن مسار التقارب الثنائي بين مصر وتركيا منذ 2021، اتسم بطابع “بطئ” نسبيًا، لكن كافة التفاعلات والتحركات التي تمت بين الجانبين في هذه الفترات عبرت بشكل واضح عن عزم الجانبين على توظيف الزخم والحراك القائم بينهما في استعادة العلاقات الدبلوماسية وعودتها إلى مسارها الطبيعي، وكانت هذه التحركات خاضعة لما يمكن وصفه بـ “اختبار المصالحة” في إشارة إلى استكشاف البلدين مدى التفاهمات والمصالح المشتركة التي يمكن البناء عليها وتوظيفها، ومدى الاستجابة الثنائية لهذا المسار، وتعكس النتائج التي وصلت إليها هذه التحركات، حجم النجاح الثنائي الذي تحقق على قاعدة خدمة مصالح الطرفين بوصفهما من القوى الإقليمية المؤثرة التي تمتلك التأثير على التفاعلات القائمة في المنطقة.
4- مقتضيات اللحظة الإقليمية الراهنة: كان إقليم الشرق الأوسط في الأعوام الثلاثة الأخيرة مسرحًا لجملة من التفاعلات والتطورات المتسارعة والتي غلب عليها صراع الهيمنة والتنافس بين القوى الكبرى، الأمر الذي دفع دول المنطقة إلى إعادة النظر في نهجها الإقليمي، والوصول إلى قناعة مفادها أن اللحظة الإقليمية الراهنة تقتضي تهدئة التوترات القائمة بينها، وصياغة شكل جديد من الاصطفاف بين الفاعلين، يرتكز على فكرة إدارة الصراعات وتحييد الخلافات؛ لتحقيق أكبر قدر من المصالح المشتركة، وتتجسد هذه المقاربة والحالة الإقليمية الجديدة بشكل واضح في مسار التقارب التركي المصري، والذي يمكن أن يفرض معادلة إقليمية وجيوسياسية جديدة تفرض المزيد من الاستقرار النسبي في الإقليم.
5- حضور دبلوماسية “الكوارث”: اعتبرت العديد من الدوائر أن “دبلوماسية الكوارث” ساهمت بدورها في إعطاء دفعة للعلاقات المصرية التركية في الأشهر الأخيرة، في إشارة إلى نمط السياسة الخارجية الذي يتجاوز الخلافات في مواجهة الأزمات والكوارث الإنسانية، وقد تجسد ذلك بشكل واضح في مكالمة الرئيس عبد الفتاح السيسي للرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أعقاب زلزال 9 فبراير المدمر، والتي أعرب فيها عن التضامن مع تركيا حكومةً وشعبًا، ثم الزيارة التي قام بها وزير الخارجية المصري سامح شكري لمدينة مرسين التركية الجنوبية في فبراير 2023 لتقديم التضامن والدعم في أعقاب الزلزال، وأعقبها زيارة عكسية لوزير الخارجية التركي السابق مولود تشاويش أوغلو إلى القاهرة في مارس 2023.
وتعكس السمات السابقة أن مسار إعادة بناء العلاقات التركية المصرية في الأعوام الثلاثة الماضية خضع لبعض المحطات الرئيسة التي بدأت باستعادة التواصل الثنائي، مرورًا بإجراءات لإعادة بناء الثقة المتبادلة، ومن ثم التقارب التدريجي وتحريك المياه الراكدة، وصولًا إلى الشروع في إجراءات عملية لتنسيق المواقف الثنائية بخصوص العلاقات الثنائية والتطورات الإقليمية والدولية.
أبرز الملفات المطروحة للنقاش
بعيدًا عما تحمله زيارة الرئيس التركي من تأكيد على التقدم الكبير على مستوى إعادة بناء العلاقات الثنائية بين مصر وتركيا، إلا أن أحد الاعتبارات الرئيسة التي تزيد من أهمية الزيارة ترتبط بما سيتم مناقشته من ملفات بين الرئيسين، ويمكن تناول أبرز هذه الملفات على النحو التالي:
1- الملف الفلسطيني: من الطبيعي أن يحظى ملف القضية الفلسطينية بهامش كبير في مباحثات الرئيسين المصري والتركي، وذلك في ضوء بعض الاعتبارات الرئيسة ومنها تجاوز مدة الحملة العسكرية الإسرائيلية حاجز الأربعة أشهر بما خلفه ذلك من دمار واسع داخل القطاع، وما صاحبه من توترات شملت العديد من دول الإقليم، وفي هذا السياق يوجد بعض الملفات الآنية والعاجلة التي ستطرق إليها المباحثات بطيعة الحال وعلى رأسها ملف الهدنة الإنسانية الجديدة التي تقودها مصر وقطر، وملف المساعدات الإنسانية لقطاع غزة، جنبًا إلى جنب مع بعض القضايا الاستراتيجية وعلى رأسها سُبل استعادة مسار السلام العادل وإقامة دولة فلسطينية مستقلة.
2- الملف الليبي: تمثل المباحثات التي ستجري بين الرئيس عبد الفتاح السيسي ونظيره التركي، فرصة مهمة على طريق بناء تفاهمات بخصوص الملف الليبي، إذ إن التقارب الثنائي بين البلدين في ضوء الوزن الجيوسياسي لهما، ونفوذهما الكبير في الملف الليبي، يمكن أن يدفع قدمًا باتجاه حلحلة العديد من الملفات العالقة في ليبيا وعلى رأسها إنجاز الاستحقاق الانتخابي، وإخراج الميليشيات من ليبيا، جنبًا إلى جنب مع الاستفادة المشتركة للشركات المصرية والتركية من عملية إعادة الإعمار.
3- ملفات أفريقية: من شأن التقارب المصري التركي وما سيتبعه من تقريب وجهات النظر وبناء التفاهمات، الدفع باتجاه تبني تحركات أكثر فاعلية تجاه بعض الملفات الأفريقية النوعية والملحة، وعلى رأسها الأزمة السودانية، خصوصًا في ضوء النفوذ الكبير لكلا الدولتين في الملف السوداني، وكذلك ملف الصومال، خصوصًا ما يتعلق بالتهديد الإثيوبي المتمثل في التحرك لإنشاء قاعدة عسكرية وتأجير ميناء بربرة مع ما يُعرف بجمهورية أرض الصومال الانفصالية، وهي التحركات التي أعلنت القاهرة بشكل قطعي عن رفضها لها، وفي هذا السياق تملك تركيا نفوذًا كبيرًا في الصومال ولديها معها مصالح استراتيجية كبيرة، حيث تحتضن الصومال أكبر قاعدة عسكرية تركية خارجية على سبيل المثال، وفي هذا الملف يبدو أن هناك اتفاقًا تركيا مصريًا على بعض المحددات ومنها الحيلولة دون تقسيم الصومال، بما يحمله من تداعيات جيواستراتيجية على الأمن الإقليمي
4- ملف شرق المتوسط: يحظى الملف الطاقوي وملف الحضور الجيوسياسي في منطقة شرق المتوسط وما يترتب عليه من منافع، بمساحة مهمة في مسار التقارب التركي مع مصر، إذ إن تركيا تستورد أكثر من 90% من احتياجاتها من الطاقة، وعليه قد تجد في التقارب مع مصر فرصة للاندماج تحت مظلة منتدى غاز شرق المتوسط، كمدخل لتحقيق أكبر قدر من المنفعة، خاصة أن أنقرة لا تعد شريكًا أو طرفًا في أغلب الترتيبات أو التفاعلات الجماعية في منطقة شرق المتوسط، وفي هذا السياق يبدو أن أنقرة سعت عبر التقارب مع مصر إلى اختراق شبكة التعاون الإقليمية التي نشأت مما يسمى بالشراكات الثلاثية (مصر-قبرص-اليونان، وقبرص-اليونان-إسرائيل) وكسر الاصطفاف السياسي ضدها ضمن منظمة غاز شرق المتوسط، إذ تتيح المصالحة الفرصة أمام دخول دول حوض شرق المتوسط في مفاوضات جماعية وهي خطوة حاسمة نحو تسوية خلافاتها، كما تطمح أنقرة بالحصول على دعم القاهرة لانضمامها إلى منتدى غاز شرق المتوسط، كذلك تُبدي تركيا اهتمامها بتوقيع معاهدة ثنائية لترسيم الحدود البحرية مع مصر.
5- التعاون الثنائي: يوجد جملة من المصالح المشتركة المباشرة التي يمكن أن يساهم التعاون المصري التركي في تعزيزها وعلى رأسها التعاون الاقتصادي، حيث يصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى أكثر من 10 مليار دولار، ويوجد تطلع لوصول هذا الرقم إلى 20 مليار دولار خلال السنوات المقبلة، ومن شأن المسار البناء والإيجابي للعلاقات المصرية التركية دفع أوجه التعاون الاقتصادي قدمًا إلى الأمام، أيضًا وفي ذات السياق يشكل القطاع الدفاعي والعسكري أحد المساحات الرئيسة للتعاون التركي المصري، من خلال صفقات الأسلحة المتبادلة، أو مشاريع الإنتاج العسكري المشتركة، ولعل إعلان وزير الخارجية التركي هاكان فيدان منذ أيام عن أن تركيا ستزود مصر بطائرات مسيرة قتالية، كان أحد مظاهر الترجمة الفعلية لمسار التقارب بين البلدين.
وفي الختام يمكن القول إن زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى مصر تمثل نقطة تحول في مسار العلاقات الثنائية بين البلدين، إذ إنها تمثل إعلانًا رسميًا لتقدم مسار التقارب الذي بدأ في مايو 2021، لكن الاعتبار الأهم الخاص بهذا المسار يرتبط بما سيحمله من تداعيات على بعض أزمات المنطقة، في ضوء الوزن الجيوسياسي الكبير لكلا البلدين، بما يجعل هذا التقارب نقطة انطلاق لتغيير نسبي في بعض التوازنات الإقليمية، خصوصًا وأنه يأتي بالتزامن مع حالة تصالحية طغت على مسار التفاعلات الخاصة بالدول الرئيسة في الإقليم.